نظرية الكم عنصر أساسي في تشكيل البنية التحتية للثقافة العالمية

هل سمعتم بـ(يوم الكم العالمي World Quantum Day) ؟ لا ضير إن لم نسمع به؛ فهو مبادرة حديثة* تكفل بها علماء وتقنيون يعملون في حقل نظرية الكم وتطبيقاتها الواسعة. شملت المبادرة علماء من خمسة وستين بلداً، اختاروا يوم 14 أبريل (نيسان) يوماً عالمياً للاحتفاء بعلوم الكم وتقنياتها. نقرأ في توصيف هذه المبادرة أنها مبادرة غير حكومية، لا شأن لها بأي تنظيم مؤسساتي دولي، تنطلق من القاعدة الشعبية العالمية، وتدعو كل المهتمين بعلوم الكم من علماء نظريين، ومهندسين، وأساتذة جامعات، ومدرسين، وتقنيين، ومطوري أعمال، ومُعدي برامج علمية، ومهتمين بتاريخ العلم وفلسفته، وفنانين... فضلاً عن المؤسسات التي يعمل فيها هؤلاء، إلى تنظيم فعالياتهم الخاصة (ورش نقاشات عامة، معارض، زيارات لمختبرات علمية متخصصة، لقاءات وحوارات...) من أجل الاحتفاء بيوم عالمي للكم على مستوى العالم بأكمله.

غلاف التطور المفاهيمي لميكانيك الكم

يمثلُ تاريخ تطور نظرية الكم Quantum Theory (أو ميكانيك الكم Quantum Mechanics كما تسمى في الأدبيات العلمية) واحداً من أجمل التواريخ المفاهيمية لتطور نظرية علمية في تاريخ العلم بأكمله (والفيزياء بخاصة)؛ بل لعلها النظرية الأكثر غرابة وإشكالية لفرط ما انطوت عليه من نتائج تخالف البداهة العامة، على شاكلة: قطة شرودنغر نصف الحية ونصف الميتة، مفهوم آينشتاين عن الفعل الشبحي عن بعد، ثم المفهوم الغريب عن التشابك Entanglement الكمومي، وكذلك مفهوم التراكب الكمومي – ذلك المفهوم الذي ستكون له فاعلية أساسية في تطوير الحواسيب الكمومية التي ستعيد تشكيل حقل الحوسبة في عصرنا الحالي. باتت مفاهيم نظرية الكم تتداخل وتؤثر في كل الحقول المعرفية بطريقة لم نشهدها مع نظرية أخرى من قبلُ. ستكون تجربة ممتعة للغاية أن يجرب القارئ تتبع تاريخ تطور نظرية الكم، وأنا هنا أقترح عليه بين عناوين لكتب كثيرة في هذا الشأن كتاباً ألفه البروفسور ماكس جامر Max Jammer، المختص بتاريخ الفيزياء وفلسفتها، عنوان الكتاب هو التطور التاريخي لميكانيك الكم Historical Development of Quantum Mechanics. الكتاب غير مترجم إلى العربية، ومن أراد كتاباً مترجماً إلى العربية فيمكنه اختيار كتاب «فلسفة الكوانتم: فهم العلم المعاصر وتأويله» الذي ألفه البروفسور رولان أومنيس وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية.
لماذا اختار منظمو مبادرة يوم الكم العالمي يوماً للاحتفاء بنظرية الكم على شاكلة الاحتفاءات العالمية بيوم الأم، ويوم المرأة، ويوم الأب، ويوم الطفل... إلخ؟ الجواب المباشر هو أنهم يسعون لتكريس أهمية هذه النظرية عبر إشاعة فهم جمعي بضرورتها. الرسالة واضحة مباشرة: ثمة نظرية تدعى نظرية الكم باتت تطبيقاتها المتسارعة تلعبُ دوراً متزايدا في التقنية المعاصرة (الحوسبة الكمومية، علم التشفير الكمومي، الاتصالات الكمومية...). لو وصلت هذه الرسالة المباشرة فهذا يكفي؛ إذ لا أحد تذهب به خيالاته - فضلاً عن أنه ليس في حاجة - لتصور أن يكون الجميع خبراء تقنيين في نظرية الكم على مستوى الأفكار والفلسفة والوسائل الرياضياتية. إنهم يسعون ببساطة لجعل نظرية الكم عنصراً فاعلاً في الثقافة الجمعية العالمية.
لكن بالإضافة إلى الرسالة المباشرة فثمة أسباب أخرى لاختيار يوم عالمي للكم، وقد اخترتُ بعضاً منها:
1. تكريس أهمية العلم في تشكيل البنية التحتية للثقافة: تخبرنا المقولة المأثورة المؤسسة على خبرتنا البشرية المتراكمة أن (الفهم الرصين يسبق الفعل المؤثر). يريد القائمون على هذه المبادرة القول - ربما بطريقة مضمرة من غير إعلانات صاخبة - أن نظرية الكم وتطبيقاتها يجب أن تكون لها مساحة مؤثرة في نطاقات التعليم ووسائل الإعلام والمؤلفات التي تسعى لنشر الثقافة العلمية الشعبية.
2. تأشير مسارات التطور العلمي والتقني القادم: تمثل التطبيقات العملية لميكانيك الكم - مع تطبيقات الذكاء الصناعي - الميدانين الأكثر أهمية في المستقبل القريب. مبادرة يوم الكم العالمي ستكون في هذا السياق دعوة مفتوحة لكل من يعمل على ارتياد حقل البحث العلمي والتقني بأن هذين الحقلين ينتظرانك؛ فحشدْ جهودك لهما لأن مكافأتك المنتظرة على المستويين الأكاديمي والمهني ستكون عظيمة ولن تذهب سدى.
3. العلم يعمل على صناعة الوزن الاستراتيجي للدول: صحيحٌ أن المبادرة العالمية للكم ليست مؤسساتية حكومية؛ لكن القائمين عليها يدركون بالتأكيد أن العلم - وتطبيقاته - لا يعمل في فراغ، وليس هو حفلة شاي. العلم مثلما هو أفكار نظرية وفلسفات محلقة - كما السحر - فإنه في الوقت ذاته تنظيم بيروقراطي معقد تتداخل فيه عناصر الفعل المؤسساتي من حيث التمويل والسياقات التنظيمية، ومن الطبيعي وفقاً لهذا الفهم أن تميل الدول لتعضيد البحوث العلمية والتقنية التي تساهم في تعظيم رصيدها من القدرات المتفوقة التي تكفل لها قوة استراتيجية تنافسية. إذن يمكن أن نفهم بأن هذا اليوم إعلان صريح بأن الدول ستعمل على زيادة تمويل البحث العلمي الخاص بتسريع تطبيقات نظرية الكم (وبخاصة في ميدان الحواسيب الكمومية على نطاق تجاري).
4. مواجهة عالم ما بعد الحقيقة والنسبية الثقافية والشعبوية الجمعية: قد يبدو هذا العنصر غريباً بعض الشيء؛ لذا لا بد له ببعض التفصيل.
شاعت في السنوات القليلة الماضية معالم من الشعبوية والنسبية الثقافية (وهي كلها عناصر في تيار ما بعد الحقيقة Post – Truth). تقوم الفكرة المركزية لفلسفة ما بعد الحقيقة والنسبية الثقافية على تعظيم شأن الرؤية الفردية - كيفما كانت - في مقابل تسخيف أساسيات البحث العلمي والعقلانية البشرية. تلك أخدوعة تريد خلط السم بالعسل عبر توظيف بعض المفاهيم العلمية الحديثة في زعزعة الأساس العقلاني للعلم والذي مفاده أن العلم مسعى بشري لفهم العالم الطبيعي وتوظيف هذا الفهم لخدمة البشرية، وأن الفهم العلمي للعالم يعمل عبر مقاربة تحوم حول الحقيقة وتقترب منها في مسعى لا نهائي؛ لكن هذا المسعى العلمي العقلاني لا يعني خلط الرؤى الفردية القائمة على أساس كيفي مع المنهجيات العلمية القائمة على الصرامة واختبار الفرضيات بطريقة منهجية. أرى أن ليس أفضل من نظرية الكم ميداناً يتيحُ قراءة وفهم الطريقة المنهجية الصارمة التي يعمل بها العلمُ الحديث.
5. تأكيد أهمية البحث في العلوم الأساسية: يمكنُ للعلوم أن تُصور على أساس هيكلية تراتبية Hierarchy مرتبة مثل طوابق في مبنى: تشغل العلوم التي تتعامل مع الأنساق الأكثر تعقيداً الطوابق العليا، وتقع فيزياء الجسيمات الأولية في السرداب، ثم يأتي فوقها بقية الفيزياء، وفوقها تتموضع الكيمياء، ثم فوقها البيولوجيا الخلوية، ثم علم النبات والحيوان، ثم تعقبها العلوم السلوكية والإنسانية (يدعي الاقتصاديون أنهم يشغلون شقة على السطح في هذا المبنى!).
إن «طريقة ترتيب ordering» العلوم في هذا الهيكل التراتبي ليس بالأمر الجدالي، لكن ما يثير الجدال في واقع الأمر هو التساؤل التالي: هل أن «العلوم التي تشغل قاع المبنى» - فيزياء الجسيمات الأولية بخاصة - هي حقاً أكثر عمقاً وتمثلُ الأساس الحقيقي للعلوم بأعظم مما تمثله العلوم الأخرى؟ إن هذا التساؤل الجدالي صحيح بمعنى من المعاني وبالكيفية التي عبر عنها الفيزيائي ستيفن واينبرغ Steven Weinberg عندما كتب: «كل الأسهم تشيرُ إلى الأسفل، إلى السرداب، حيث فيزياء الجسيمات الأولية».
ما أشار إليه واينبرغ حقيقة شديدة الأهمية رغم أنها قد تتخفى علينا. علامَ تعتمد حضارتنا الحالية؟ تعتمدُ على الطاقة الكهربائية، وما الكهرباء في نهاية المطاف؟ إنها إلكترونات متحركة في أسلاك. لو تتبعنا تاريخ التطبيقات التقنية لرأينا أنها تميلُ إلى توظيف أجزاء متصاغرة وغير مرئية أكثر فأكثر، وليس هذا غريباً إذا ما علمنا أن التطبيقات التقنية النانوية صارت تلعبُ أدواراً كبرى على صعيد الدراسات الأكاديمية والبحث العلمي والتمويل الحكومي والخاص.
انتظروا قريباً وسترون أننا سنشهدُ تكريس يوم عالمي للاحتفاء بالكواركات**. أنا موقنة بذلك. استعدوا لهذا اليوم منذ الآن.

* الرابط الإلكتروني لمبادرة يوم الكم العالمي: https://worldquantumday.org/
** الكوارك Quark: هو جسيم أولي وأحد المكوّنين الأساسيين
للمادة في نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.