لم يحدث أن حظي أحد من شعراء القرن العشرين، عدا قلة نادرة، بالشهرة والمكانة والحظوة النقدية البالغة التي حظي بها الشاعر الأميركي – البريطاني توماس ستيرنز إليوت. وهي مكانة لم تقتصر دائرتها على العالم الأنجلوسكسوني وحده، بل هي تعدت ذلك الإطار لتبلغ تردداتها حدود العالم، ولتتم ترجمة أعمال الشاعر وكتاباته النقدية إلى عشرات اللغات الحية. والأدل على أصالة هذه التجربة وعمقها الإنساني، هو استعصاؤها على الضمور وثباتها الصلب في وجه الزمن. وإذا كان نتاج إليوت الشعري منذ باكورته «بروفروك وملاحظات أخرى» ووصولاً إلى أعمال لاحقة من مثل «الرجال الجوف» و«أربعاء الرماد» و«رباعيات أربع»، قد لقي الكثير من اهتمام القراء ودارسي الأدب، فإن قصيدته «الأرض الخراب» التي تم إنجازها عام 1922، والتي عمد الشاعر إلى حذف جزء كبير منها بناءً على نصيحة صديقه عزرا باوند، قد أحدثت من الأصداء والترجيعات المدوية، كما لم تحدثه أي قصيدة أخرى في الشعر المعاصر.
أما على المستوى الإنساني، فإن أي تتبّع عميق لطفولة الشاعر ونشأته المبكرة، لا بد أن يفسر بشكل أو بآخر الكثير من سلوكياته ومكوناته النفسية والفكرية، التي وجدت تعبيراتها في المجالين الديني والعاطفي على نحو خاص. فهو لم يكن يتجاوز السادسة من عمره، حين بدأت مربيته الشخصية آني ديون تحدثه عن وجود الله وماهيته وأشكال تجلياته في العالم، قبل أن تأخذه معها إلى إحدى الكنائس الكاثوليكية القريبة من منزله العائلي؛ الأمر الذي ترك أبلغ الأثر في بلورة معتقداته الروحية والفكرية اللاحقة. وفي كتابها المميز «الحياة غير الكاملة لـت. س. إليوت» تروي الناقدة البريطانية ليندال جونسون أن إليوت كان يجلس على مقعده الدراسي محاطاً بطفلتين مشاغبتين، وأنهما في أحد الأيام راحتا تتهامسان حول الحجم الكبير لأذنيه؛ الأمر الذي أصابه بالخجل، ودفعه للذهاب إلى المنزل وشدّ أذنيه بمادة لاصقة لكي تبدوا أصغر مما هما في الواقع.
لكن إيثاره طفلاً للعزلة والانفراد، كان له وجهه الإيجابي المتمثل بإدمانه على القراءة، حيث كان الشاعر الأميركي إدغار آلان بو، بتقصياته النفسية ومناخاته العصبية المؤرقة، أقرب الكتّاب إلى نفسه. ولعل مواقف أبيه المتشددة إزاء القضايا العاطفية والجنسية، ورؤيته إلى العلاقة الجسدية بوصفها نوعاً من القذارة، قد أسهمت من جهتها في ريبته من المرأة وحذره الشديد من «جانبها الشيطاني». كما أن نزوعه المطرد للابتعاد عن الفتيات، هو الذي دفعه إلى الإلحاح على لالتصاق بأمه وأخته شارلوتت اللتين شكّلتا حدود عالمه النسائي الأثير في تلك المرحلة. ولقد عبّرت أمه غير مرة، وهي الشاعرة بالفطرة التي لم تمكّنها التزاماتها الزوجية المرهقة من تنمية موهبتها، عن إيمانها الراسخ بموهبته، وكتبت إليه حين بات طالباً في هارفرد بأنها تريد منه «أن يكون شاعراً مرموقاً، ويحقق الحلم الذي عجزت هي نفسها عن تحقيقه». وقد انعكس موقفه المتوجس من النساء في أحد نصوصه المبكرة، حيث يصف المرأة بقوله «إنها العدو الأبدي للمطلق». ومع أن تلك الهواجس لم تمنعه من الوقوع في حب زميلته في هارفارد إميلي هيل، فإن إليوت لم يتمكن من مفاتحتها بمشاعره، بسبب الخجل والخوف، إلا بعد مغادرته أميركا والتحاقه بجامعة أكسفورد في لندن، حيث تبادل معها العديد من الرسائل العاطفية التي قطعها زواجه المفاجئ من فيفيان هايوود.
ولم يكن لدراسة إليوت في هارفرد والسوربون وأكسفورد، أن تغير كثيراً من طبعه الخجول أو سلوكياته المتحفظة إزاء النساء. وإذا كان عام 1915 هو العام الذي شهد ولادة ديوانه الأول «بروفروك وملاحظات أخرى»، فهو في الوقت ذاته العام الذي التقى خلاله بفيفيان هايوود، الشابة الشغوفة بالحياة والكتابة والفن، والتي ما لبث أن اقترن بها خلال وقت قصير. وقد رأى الناقد الإنجليزي بيتر أكرويد، في مقالة له في الملحق الصحافي لجريدة «الأوبزرفر» البريطانية، أن إليوت لم يكن لدى تعرفه بهايوود قد اختبر بعد أي تجربة جنسية فعلية، وأنه كان يفتقر حينها إلى النضج الوجداني، في حين كانت فيفيان تفتقر إلى الاتزان العاطفي والعقلي. أما الناقد الإنجليزي أوزبرت ستويل فيعتبر أنها كانت «أقرب إلى الحيوية منها إلى الجمال، كما كانت شديدة الوعي بذاتها وبالآخرين، ويقظة إلى درجة الحساسية المفرطة. كما كانت تميل إلى ارتياد المسارح وإلى الرقص على موسيقى الفونوغراف». وإذ وصفها بعض أقارب إليوت بأنها شخصية مبهجة وجذابة وحساسة إزاء الجمال، فقد اعتبر ستويل أنها بدت في نظر إليوت، رغم مساواتها له في السن، تجسيداً ملموساً لانطلاقة الشباب وجرأته.
ولما كان والدا فيفيان، تشارلز وروز هايوود، ينتميان إلى طبقة ميسورة، ويجسدان الطابع الإنجليزي بامتياز، فقد وجد إليوت نفسه منجذباً بكليته إلى جو العائلة، وإلى ابنتها فيفيان التي وصفها البعض بأنها كانت مصدر إلهامه الشعري، ووصفها البعض الآخر بأنها كانت مصدر عذابه الدائم، في حين ذهب البعض الثالث إلى أنها كانت مزيجاً من كلا الأمرين. غير أن من يقرأ يوميات فيفيان، وبخاصة تلك المكتوبة قبل لقائها بإليوت بعام واحد، يتبين له أنها كانت تعاني من مرض في الأعصاب يجعلها معرضة لنوبات من القلق والكآبة حيناً، ولنوبات من المرح والابتهاج بالحياة حينا آخر. وعندما التقى بها برتراند رسل، وقد كان أستاذاً لإليوت في مادة الفلسفة، وصفها بأنها «خفيفة ومغامرة وسوقية على نحو ما».
والواضح من سياق السيرة، أن صاحب «رباعيات أربع» لم يكن قد عرف عن الشابة التي اقترن بها، سوى الوجه المتعلق بمكانة عائلتها الاجتماعية المرموقة، مع الإشارة إلى أن الأب كان رساماً موهوباً في مجال البورتريه والمناظر الطبيعية. أما حالتها المرضية ومشكلاتها العصبية التي كانت تسبب لها صداعاً حاداً وتقلصات في البدن وفقدان التوازن، فلم يكتشفها إليوت، وفق كتّاب سيرته، إلا بعد الزواج. واللافت هنا أن أياً من والدي فيفيان لم يعمد إلى اطلاع الشاب الخجول والمفتقر إلى الخبرة العاطفية، الذي كانه إليوت، على وضع الابنة الصحي، علماً بأن أطباءها كانوا يحقنونها بالمورفين حين يشتد بها الألم، وكانت أمها تخشى أن يكون ما تعاني منه نوعاً من الهستيريا أو الجنون. وحيث لم يتردد والدا فيفيان في الموافقة على زواجها من إليوت، الذي رأيا فيه نموذجاً للتهذيب والسلوك المؤدب، فإن والدي هذا الأخير أظهرا، وقد بوغتا بالحدث، الكثير من الامتعاض وعدم الارتياح. وإذ تمنيا على ابنهما العودة مع زوجته الشابة إلى أميركا ومواصلة دراساته العليا في هارفارد، رفضت فيفيان فكرة السفر، بحجة أن الغواصات الألمانية التي كانت تذرع المحيط في فترة الحرب العالمية الأولى، يمكن أن تعرّض الزوجين لمخاطر غير محمودة العواقب. ومع أن والد إليوت لم يكن راضياً عن خطوة ابنه المتسرعة وغير المحسوبة، فهو لم يشأ أن تسود القطيعة بينهما بشكل كامل، ولم يوقف المعونة المالية التي كان يمده بها بشكل دوري. أما أمه التي كانت شديدة التعلق به، فقد كان رد فعلها أكثر عصبية وتوتراً من رد فعل الأب. لكن المحزن في الأمر أن الشاعر الذي غادر منزل أبويه مغموماً ومحبطاً من تلك الزيارة، لم يقدّر له أن يرى أباه على الإطلاق بعد تلك الزيارة.
أما لحظات الهناءة التي عاشها الطرفان في بداية اقترانهما، فقد بدأت، وفق بيتر أكرويد، تخلي مكانها للعديد من تباينات الأعماق التي أتاح لها واقع الحياة اليومية الظهور على السطح. إذ سرعان ما تبين أن الزوجة المفرطة في حيويتها الجنسية والعاطفية، هي النقيض الضدي للزوج «العذري» الذي جعلته نشأته المحافظة أسير الكثير من العقد والمفاهيم المتزمتة والرغبات المكبوتة. ومع أن ألدوس هكسلي، صديق الشاعر، كان يرى بأن فيفيان استطاعت، بما تمتلكه من عوامل الإثارة والاندفاع الغريزي نحو الحياة، أن تدفع الزوج إلى مجاراتها في كل ما تفعله، إلا أن تلك المجاراة ما لبثت أن أعطت مفعولها العكسي، متسببة بتعاسة الشاعر وانشقاقه على نفسه، بعد أن بدت مفتعلة ومتكلفة، وبعيدة عن طبيعته الأصلية.
على أن الصعاب المختلفة التي واجهت الزوجين، لم تثن إليوت عن محاولة إنقاذ وضعهما المترنح، مؤثراً الابتعاد عن عائلة زوجته والسفر إلى إيستبورن، على أمل أن ينعما هناك بالراحة والهدوء. لكن الرحلة تلك بدت أشبه بشهر عسل زائف، كما عبّر برتراند رسل، الذي وصله من فيفيان رسالة قانطة وصفها لاحقاً بأنها تشبه إلى حد بعيد الرسائل التي يتركها اليائسون خلفهم قبل أن يُقدموا على الانتحار. وفي قراءته الشخصية لتدهور العلاقة بين الزوجين، رأى رسل، الذي اعترف في وقت لاحق بخيانة صديقه الأثير عبر دخوله في مغامرة عاطفية قصيرة مع هايوود، بأن مردّ ذلك التدهور هو نظرتهما المتباينة إلى الشهوة الجسدية، الأمر الذي دفع إليوت إلى اعتبار الفعل الجنسي شكلاً من أشكال العنف والفعل العدائي. والأرجح أن هذا الخلل المطرد في علاقة الزوجين، هو الذي دفع بعض الدارسين إلى الحديث عن ضعف الشاعر الجنسي، والبعض الآخر إلى الحديث عن نزوعه المثلي، في حين عمد البعض الثالث إلى نفي الأمرين معاً، معتبرين أن السبب الفعلي لابتعاده عن الفراش الزوجي، هو نفوره من شراهة زوجته الجنسية من جهة، والتفاقم المأساوي لحالتها العصبية والعقلية من جهة أخرى. وإذا كان الشعر في دلالاته العميقة هو الترجمة الأصدق لخلجات النفس، فإن إليوت يعبّر في بعض قصائده عما ينتابه إزاء رغبات الجسد وغرائزه المتأججة من عُقد وكوابيس ففي قصيدة له بعنوان «أنشودة»، نشرها عام 1920 ولم يعد إلى نشرها في أي من دواوينه، يتحدث إليوت عن عريس شاب يرى دماً على فراش عروسه ليلة الزفاف، فيصاب بنوع من الفوبيا الشديدة ويتخيلها منزوعة الأحشاء. وفي قصيدة أخرى له بعنوان «هستيريا»، يتحدث عبر أنا المتكلم، عن امرأة غير سوية تضع رجلاً على المائدة، هو إليوت بالذات، ثم تشرع في التهامه بشكل وحشي.
وإذا كان للمرء في هذه الحالة أن يتساءل عن السبب الحقيقي الذي جعل ت. س. إليوت، الذي تحول إلى الكنيسة الأنجليكانية عام 1927، يرضخ لذلك الواقع المزري لثلاثة عقود من الزمن، فإن الإجابة عن مثل هذا التساؤل المشروع تنقسم إلى قسمين اثنين، يتصل أولهما بتكوين الزوج النفسي والسلوكي، الأقرب إلى التسليم الديني والقدري بالواقع، في حين يتصل الثاني بالنتاج الإبداعي، وبالشعر على نحو خاص، حيث تم تصعيد الألم والحزن الفرديين نحو مستويات أخرى تتعلق بانهيار الحضارة الغربية وتفريغ الإنسان من معنى وجوده الفعلي، كما يظهر من قصيدتي «الأرض الخراب» و«الرجال الجوف»، على سبيل المثال لا الحصر.
ومع أن إليوت قد آثر بعد مخاض عسير، الابتعاد التدريجي عن زوجته التي أثخنتها الأمراض، وصولاً إلى انفصال الطرفين الرسمي عام 1933، إلا أن متاعبه العاطفية والنفسية لم تتوقف على الإطلاق، إلا لحظة رحيلها عن هذا العالم عام 1947. وهو إذ عمد في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة زوجته، إلى تجديد علاقته بإيميلي هيل، التي سبق أن أولع بها زمن شبابه الأول، إلا أنه لم يستجب لرغبتها الملحة في الزواج منه، دون أن تُعرف على نحو جلي الأسباب الحقيقية لذلك الرفض. غير أن القدر الذي شاء لإليوت، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1948، أن يرزح تحت وطأة الألم والحزن والخواء العاطفي لعقود ثلاثة متلاحقة، لم يلبث أن وفر له الشعور بالراحة والأمان والحب الحقيقي، حين تزوج في سنوات حياته الأخيرة من سكرتيرته فاليري فلتشر. ورغم أن فلتشر كانت تصغره بثمانية وثلاثين عاماً، فهي قد استطاعت بما تختزنه في داخلها من حب وحكمة ونضج، أن تكون حتى لحظة وفاته عام 1965، ظهيره الفعلي وملاكه الحارس وصمام أمانه الأمثل، في الحقبة الفاصلة بين الكهولة والموت.
فيفيان هايوود وت. س. إليوت... الزواج في متاهته الموحشة
هل كانت «الأرض الخراب» صدى شعرياً لخواء الشاعر العاطفي؟
فيفيان هايوود وت. س. إليوت... الزواج في متاهته الموحشة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة