لبنان: بعد الانهيار... قبل الانفجار

أحد أقارب طفلة لم تبلغ الرابعة قضت غرقاً في قارب الموت بطرابلس يحمل جثمانها خلال تشييع ضحايا الحادث (د.ب.أ)
أحد أقارب طفلة لم تبلغ الرابعة قضت غرقاً في قارب الموت بطرابلس يحمل جثمانها خلال تشييع ضحايا الحادث (د.ب.أ)
TT

لبنان: بعد الانهيار... قبل الانفجار

أحد أقارب طفلة لم تبلغ الرابعة قضت غرقاً في قارب الموت بطرابلس يحمل جثمانها خلال تشييع ضحايا الحادث (د.ب.أ)
أحد أقارب طفلة لم تبلغ الرابعة قضت غرقاً في قارب الموت بطرابلس يحمل جثمانها خلال تشييع ضحايا الحادث (د.ب.أ)

تُضفي حوادث الأيام القليلة الماضية في لبنان المزيد من السواد على إمكان خروج هذا البلد من الطريق المسدود الذي زُج فيه. غرق، أو إغراق، زورق للمهاجرين الفارين من آفة الفقر عند شاطئ مدينة طرابلس، وإطلاق صاروخ من الجنوب في اتجاه إسرائيل ورد هذه بخمسين قذيفة، إضافة إلى الغياب شبه الكامل للكهرباء وتصاعد التوتر الاجتماعي، ناهيك عن تضاؤل الآمال بقدرة الانتخابات التشريعية المقررة الشهر المقبل على تحقيق أي إنجاز، أمور تشي بأن الوضع في لبنان يقترب من انفجار لم تتحدد مظاهره بعد لكنه يأتي نتيجة الفشل الذريع في معالجة الانهيار الذي وقع فيه قبل عامين ونيف.
في خلفية الانفجار المقبل يبرز عجز حكومة نجيب ميقاتي عن القيام بأي إصلاح مهما كان صغيراً مما تعهد به أمام القوى الدولية التي رعت وصوله إلى رئاسة الوزراء. لائحة الإخفاقات طويلة، وتشمل المفاوضات غير المثمرة المستمرة بتقطع مع صندوق النقد الدولي الذي عبر مرات عدة عن استيائه من قلة الجدية التي يبديها المسؤولون اللبنانيون في التزامهم بتبني إصلاحات جذرية في مالية الدولة. غني عن الذكر أن البيان المشترك الصادر عن بعثة الصندوق إلى بيروت والحكومة اللبنانية الشهر الماضي، كان مجرد إعلان عن استمرار التفاوض مع التشديد على ضرورة الإصلاحات التي يتعين على الجانب اللبناني القيام بها.
المذهل في سلوك الجماعة الحاكمة في بيروت هو تمسكها بفكرتها الراسخة عن أن بعض «الفهلوة» والتشاطر على المؤسسات الدولية وعلى الدول العربية، كفيلان بعودة تدفق الأموال إلى لبنان، من دون أن يلاحظ أي من عتاة الحاكمين هنا أن العالم ومن ضمنه العرب، لم يعد راغباً في دفع المال لنظام لا يستطيع إصلاح ذاته، من جهة، ولبلد فقد كل وظائفه التاريخية التي ميزته في زمن ولى، من جهة ثانية.
وهذه الأخيرة تبدو حلماً بعيد المنال. فالقطاع المصرفي ما زال يرفض الاعتراف بإفلاسه، ويمتنع في الوقت ذاته عن تسوية كارثة الودائع التي يتقاذف المسؤولية عن ضياعها مع الدولة والمصرف المركزي. ولم يستطع مجلس النواب إقرار مشروع التحكم برأس المال (الكابيتال كونترول) الذي كان من المفترض بدء العمل به بعد أسابيع من انهيار الاقتصاد اللبناني في خريف 2019، ولا يقل خطورة البهلوانيات المالية التي يلجأ إليها حاكم مصرف لبنان، الملاحق دولياً والمحمي محلياً، والتي تكلف مليارات الدولارات مما تبقى من احتياط المصرف. وآخر هذه «الإنجازات» كان الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة أمام الدولار بعد شهور من التدخل المصطنع في السوق لتوفير دعاية سياسية لحكومة المقياتي.
وفي غضون ذلك، انخفضت ساعات التغذية بالتيار الكهربائي من ساعتين إلى أقل من ساعة يومياً بعد نضوب مادة الفيول اللازمة لتشغيل محطات الإنتاج. لم تجد الحكومة غير اللجوء إلى حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد لاستئناف إدمانها على استيراد الوقود - وسط عمليات مشبوهة مع التجار - إثر ظهور الرفض الكامل من البنك الدولي لتمويل مشروع استجرار الغاز من مصر، في حال لم تتبن وزارة الطاقة خطة إصلاحية متكاملة. وهذا من رابع المستحيلات. إذ إن الوزارة هذه تشكل أوزة تبيض ذهباً لكل منظومة الفساد الحاكمة، في مقدمتها حزب رئيس الجمهورية وصهره.
من جهة ثانية، أظهرت الشخصيات التي قدمت نفسها ممثلة لانتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) قصوراً شديداً في الارتقاء إلى مستوى التحديات. المتابع لكيفية تشكيل اللوائح المعارضة التي يتعين عليها خوض الانتخابات في 15 مايو (أيار) المقبل، تصيبه الدهشة من الأساليب المافيوية التي اعتمدها هؤلاء «التغييريون» و«الثوار»، والتي لا تختلف في شيء عن أساليب الجماعة الحاكمة. علماً بأن بعض المجموعات المشاركة في التشكيل لا يزيد عدد أنصارها عن أصابع اليد الواحدة مع ذلك سمحت لنفسها بفرض مرشحيها، ومارست النقض بحق مرشحين آخرين.
حملت هذه الأجواء الجمعيات التي باتت تعرف بـ«المنصات»، والتي تساهم في تمويل حملات لوائح المعارضة على وقف نشاطها بعدما أيقنت استحالة توحيد المعارضين لوائحهم خلافاً لما كانوا أعلنوه في مراحل سابقة. من هنا، ليس من الشطط الجزم أن المعارضين بكافة مجموعاتهم وألوانهم، سيكونون أقلية غير فاعلة في حال تمكن أي منهم من الجلوس تحت قبة البرلمان. وبذلك يكون الأمل في أن تحمل الانتخابات النيابية بداية عملية تراكم من أجل إصلاح حقيقي قد وئدت على أيدي أصحابها وذواتهم المتورمة وطموحاتهم المراهقة.
يترك كل ذلك الساحة مفتوحة على مصراعيها لليأس والفوضى. يأس دفع بحوالي ستين شخصاً من بينهم العديد من النساء والأطفال إلى ركوب زورق متهالك للهروب إلى إيطاليا، فاعترضه زورق حربي لبناني وصدمه (على ما يقول الناجون وينفيه الجيش) ما تسبب في غرق المركب وغرق ستة أشخاص وفقدان ما يقارب من الثلاثين. في الوقت ذاته كان أحد شوارع بيروت يشهد اشتباكاً بين مسلحين يقال إن بعضهم ينتمي إلى «سرايا المقاومة» التي أنشأها «حزب الله» لاختراق الطوائف الأخرى. ورغم اندراج الاشتباك ضمن مظاهر انحلال الدولة وتفسخ أجهزة السلطة، إلا أن هناك من يعده بمثابة رسالة من «حزب الله» حول قدرته على تخريب الانتخابات وضرب الأمن في العاصمة، في حال لم تأت نتائج الانتخابات وفق ما يراه مناسباً. ووُضع في السياق ذاته إطلاق الصاروخ من جنوب لبنان. من دون استبعاد الفرضية التقليدية عن قيام فصائل فلسطينية بالخطوة احتجاجاً على ما يجري في المسجد الأقصى.
مسار الأمور هو المزيد من الفقر والجوع والظلام مقابل تشدد المجموعة المتسلطة في التمسك بمواقعها ورفض أدنى وأبسط أشكال الإصلاح... إلى أن يقضي الله أمراً.



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».