تُشير دراسة جديدة إلى أن كمية الطاقة المطلوبة لتوفير مستويات معيشة لائقة لجميع سكان الأرض، والحفاظ في الوقت ذاته على تغيُّر المناخ ضمن هدف 1.5 درجة مئوية لاتفاقية باريس المناخية، هي في حدود 28 إلى 39 في المائة من ميزانية الطاقة العالمية السنوية.
وتؤكد الدراسة، التي نشرتها دورية «رسائل الأبحاث البيئية»، في سبتمبر (أيلول) الماضي، نتائج الأبحاث السابقة في أن العمل المناخي لا يتعارض مع تحسين مستويات المعيشة في جميع أنحاء العالم. وفيما تتباين الطاقة المطلوبة لتوفير مستويات المعيشة اللائقة بين المناطق المختلفة في العالم؛ إذ يزداد استهلاك الطاقة للتدفئة في المناطق الباردة مقارنة بالمناطق الاستوائية مثلاً، فإنه على المستوى الإقليمي يمكن تأمين الحياة الكريمة باستهلاك كميات أقل من الطاقة، مما يشير إلى أن الاستهلاك الحالي في أغلبه لا يساهم فعلياً في رفاهية الإنسان.
هذه الدراسة، التي قامت على حساب كمية الطاقة المطلوبة لتلبية الاحتياجات الأساسية، مثل الإسكان والتدفئة والتبريد والغذاء والمياه والصرف الصحي والصحة والتعليم والاتصالات والنقل في بلدان مختلفة، تتماشى نتائجها إلى حدٍ كبير مع تلك التي توصلت إليها العديد من الدراسات السابقة، ومن بينها دراسة نشرتها دورية «التغيُّر البيئي العالمي» في أكتوبر (تشرين الأول) 2020.
وتتفق الدراستان في أن الطلب العالمي على الطاقة في سنة 2050، من أجل تأمين حياة كريمة لكل البشر، سيتراوح بين 149 و156 إكساجول سنوياً، علما بأن كل إكساجول يعادل كمية الطاقة الموجودة في 174 مليون برميل نفط، وتقلّ هذه الأرقام بأكثر من 60 في المائة عن الاستهلاك العالمي النهائي الحالي للطاقة الذي يقارب 400 إكساجول. ومن المتوقع أن يصل استهلاك الطاقة سنة 2050، وفق معدلات نمو الطلب الحالية، إلى أكثر من 620 إكساجول.
هذا التباين بين الحاجة الفعلية للطاقة ومعدلات الاستهلاك المرتفعة يؤكد إمكانية القضاء على الفقر لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وتحقيق الأهداف المناخية في الوقت ذاته، ولكن هذا الأمر يستلزم سياسات أكثر إنصافاً. وتَظهر الفجوات في مستويات المعيشة اللائقة في أفريقيا جنوب الصحراء على وجه الخصوص، حيث يفتقر أكثر من 60 في المائة من الناس إلى أكثر من نصف مؤشرات مستويات المعيشة، كما توجد فجوات كبيرة في جنوب آسيا وغرب المحيط الهادي.
ويتطلب انتشال الناس من الفقر المدقع إلى الكفاف المستقر كمية قليلة من الطاقة نسبياً. ووفقاً للوكالة الدولية للطاقة، يمكن لتوسيع نطاق الوصول الشامل إلى الكهرباء والتدفئة وغاز الطهي وغيرها من أشكال الطاقة الحديثة بحلول سنة 2030 أن يزيد إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة تقل عن 1 في المائة.
وتعكس أرقام تقرير أصدرته منظمة «أوكسفام» التفاوت الشديد في حجم الانبعاثات بين الأغنياء والفقراء، إذ يخلص إلى أن 10 في المائة، هم الأغنى في العالم، مسؤولون عن نصف انبعاثات غازات الدفيئة العالمية. وفي المقابل، تقتصر مساهمة 3.5 مليارات شخص، هم نصف سكان العالم والأكثر فقراً بينهم، على 10 في المائة فقط من مجمل الانبعاثات.
وبخلاف التخفيف من حدة الفقر، سيكون لتحقيق الأمن الاقتصادي للجميع ثمن باهظ في استهلاك الطاقة. وفيما يبلغ متوسط استهلاك الفرد من الطاقة اليوم 2.5 كيلوواط فقط في جميع أنحاء العالم، فإن تحقيق مستوى معيشة للبشرية جمعاء يماثل مستوى المعيشة الحالي في الولايات المتحدة، حيث يستهلك الفرد 10.4 كيلوواط، سيكون مكلفاً من الناحيتين الاقتصادية والبيئية، إذ إنه يستلزم مضاعفة إنتاج الطاقة أربع مرات.
ومع ذلك، يمكن نظرياً سد الفجوات في مستويات المعيشة من خلال استثمار 290 إكساجول من الطاقة في البنية التحتية الجديدة لتوفير مستويات معيشة لائقة وغير مسرفة لجميع البشر بحلول 2040، ويمثل ذلك نحو ثلاثة أرباع الاستهلاك السنوي العالمي للطاقة حالياً.
وسيخصّص نحو نصف الطاقة المطلوبة لسد فجوات مستويات المعيشة اللائقة لبناء المساكن، وربعها لتوفير وسائل النقل. وللحفاظ على مستويات المعيشة اللائقة بعد ذلك ستكون هناك حاجة لأكبر قدر من الطاقة السنوية للنقل، ثم للصحة والنظافة والمأوى والتغذية.
وفي حين يقع مثل هذا السيناريو ضمن ميزانيات الطاقة التي تتوافق مع إبقاء الاحتباس الحراري تحت السيطرة، إلا أنه سيتطلب إعادة توزيع هائلة وإعادة التوازن لاستخدام الطاقة، من نصف الكرة الشمالي إلى نصفها الجنوبي، ومن الأغنياء إلى الفقراء داخل البلد الواحد. وتملك الحكومات على مختلف المستويات العديد من الأدوات لتحقيق ذلك، بما فيها إعادة تصميم البنية التحتية، وتبني معايير المنتجات البيئية، إلى جانب الإعانات والضرائب.
وحيث إن النقل هو أكثر الاحتياجات الأساسية كثافة في استخدام الطاقة، فإن التأثير الأكبر للسياسات في تحقيق المساواة يكون في تخصيص كثير من الموارد للنقل العام، وتحسين بنيته، وإلغاء الإعانات ومراجعة السياسات التي تشجع استخدام النقل الخاص، وإعادة تصميم المدن لجعلها أكثر ملاءمة للتنقل. ويمكن أن تؤدي مثل هذه السياسات إلى استخدام أكثر مساواة للطاقة عبر المجتمعات، لأن النقل العام أكثر كفاءة في استخدام الطاقة مقارنة بالنقل الخاص.
من دون طاقة كافية، لا يستطيع المزارعون الفقراء الحصول على الأسمدة التي يحتاجون إليها لمحاصيلهم. ولا يزال النقص التام في الحصول على الكهرباء يمنع مليار شخص من الحصول على رعاية طبية جيدة. كما يستمر أكثر من ملياري شخص فقير في حرق الأخشاب والفحم والمخلفات لطهي الطعام، وتسبب تلك الحرائق المكشوفة مشاكل تنفسية تودي بحياة 4 ملايين شخص كل عام.
إن مستقبل الطاقة يتجاوز مسألة توسيع استخدامها إلى كيفية إنتاجها وعدالة استهلاكها. فمن المهم التركيز قبل كل شيء على تحويل أنظمة الطاقة لتصبح نظيفة وفعّالة قدر الإمكان، ومن الضروري أيضاً أن تكون أولوية تركيبات الطاقة الجديدة في الأجزاء الأكثر فقراً في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. وعلى المدى الطويل، فإن أفضل ما يمكن أن تفعله الاقتصادات الغنية والناشئة هو دفع تكنولوجيا الطاقة الأفضل إلى الأمام بأسرع وقت من أجل نشرها عالمياً في العقود المقبلة. لكن الأهم للقضاء على فقر الطاقة في العالم يبقى تعزيز الكفاءة وترشيد الاستهلاك، بدءاً من تعديل أنماط الحياة المفرطة في البذخ في الدول الصناعية الغنية؛ فلا يجوز الطلب من الفقراء القبول باستمرار حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية كشرط لخفض الانبعاثات.
كيف تساهم عدالة توزيع الطاقة في حماية المناخ والحدّ من الفقر؟
كيف تساهم عدالة توزيع الطاقة في حماية المناخ والحدّ من الفقر؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة