تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

قدرته على العمل مع إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية أثبتت كفاءته

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف  يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن
TT

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

تيم ليندركينغ... دبلوماسي محترف  يقود جهود أميركا لوقف حرب اليمن

بعد 14 شهراً من تعيينه مبعوثاً خاصاً لبلاده لدى اليمن، وعند اتفاق الحكومة اليمنية والحوثيين على هدنة ثنائية برعاية أممية، قال المبعوث الأممي تيم ليندركينغ «هذه لحظة حاسمة بالنسبة لليمن، تمنح الأمل والشعور بالفرصة».
كان تصريح المبعوث الذي نشرته «الشرق الأوسط» من الرياض في ذلك اليوم، بمثابة انفراجة بسيطة، لعقدة واحدة من مئات العقد التي تشكل الأزمة اليمنية، التي لا تخفى على المبعوث الأممي الذي قال خلال تلك التصريحات، إن إعلان الهدنة الأخيرة أشاع «طاقة للتجمع هنا»، وأضاف «سأكون حاضراً (لدعم) الشعب اليمني، كما ستكون الولايات المتحدة حاضرة، فالرئيس (الأميركي) أعطى التزاماً لليمن».
لم يمر على حديث المبعوث سوى أيام معدودات حتى خرج اليمن واليمنيون بمجلس قيادة رئاسي يضم رئيساً وسبعة أعضاء، يمثلون مختلف الأطياف السياسية. كان ذلك نتاج مشاورات عقدت في الرياض برعاية خليجية، وتميزت بأنها كانت يمنية - يمنية خالصة، وحظيت بدعم واشنطن التي بعثت بمبعوثها ليكون حاضراً في المنطقة طيلة فترة انعقادها بين 29 مارس (آذار) و7 أبريل (نيسان) 2022.
ويبقى التحدي اليمني ماثلاً أمام ليندركينغ، الذي تقول الصفحة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية، إنه حاصل على درجة الماجستير في التاريخ والعلاقات الدولية من جامعة واشنطن في العام 1989، وعلى درجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة ويسليان في العام 1985. حصل على جائزة الاستحقاق الرئاسية، وعلى 9 جوائز شرف عليا من وزارة الخارجية، وجائزة الاستحقاق للخدمة المدنية من دائرة الجيش عن خدمته في العراق.

بدأ المبعوث مهمته في الرابع من فبراير (شباط) 2021 مبعوثاً خاصاً، لكنه لم يكن بعيداً عن اليمن؛ إذ شغل سابقاً منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية في مكتب الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية.
وسبق للمبعوث زيارة اليمن في مناسبة عدة. كانت إحداها في العام 2019 وقبل توسده منصبه الجديد، حيث زار عدن. كما زار بعد توليه المهمة الجديدة محافظة شبوة، وذلك بعد تحريرها من قِبل قوات العمالقة المسنودة بدعم تحالف دعم الشرعية في اليمن.
وتصفه الخارجية الأميركية بأنه «موظف مهني قديم في السلك الدبلوماسي للخارجية، وشغل سابقاً، منصب نائب رئيس البعثة في سفارة الولايات المتحدة في الرياض، من العام 2013 إلى 2016، كما شغل منصب مدير مكتب باكستان في وزارة الخارجية من العام 2010 إلى 2013».
ومن العام 2008 إلى 2010، أكمل ليندركينغ فترتَي عمل في العاصمة العراقية بغداد. الأولى بصفته كبير مستشاري الديمقراطية في السفارة الأميركية، والأخرى بصفته المستشار السياسي، للقائد العام للقوات متعددة الجنسيات في العراق، الجنرال تشارلز جاكوب. وقبل عمله في العراق، عمل ليندركينغ مستشاراً اقتصادياً ونائب رئيس البعثة بالوكالة، في سفارة الولايات المتحدة في الكويت. كما شغل منصب المستشار السياسي في سفارة أميركا بالرباط من العام 2002 إلى 2006.
وشملت جولات ليندركينغ الأخرى في السلك الدبلوماسي، العمل مساعداً خاصاً لوكيل الوزارة للشؤون السياسية مارك غروسمان، من العام 2001 إلى 2002، ومسؤولاً عن مكتب لبنان من العام 2000 إلى 2001، ومسؤولاً مراقباً في مركز العمليات. كما عمل ليندركينغ أيضاً في دكا، عاصمة بنغلاديش، ودمشق عاصمة سوريا. انضم ليندركينغ إلى السلك الدبلوماسي في العام 1993، بعد أن عمل في مجال اللاجئين، حيث شغل العديد من المناصب مع المنظمات غير الحكومية الأميركية، ومع الأمم المتحدة في نيويورك والسودان وباكستان وأفغانستان وتايلند. وهو ما يعطيه أفضلية في التعامل مع قضايا المنطقة وفهم مشكلاتها؛ الأمر الذي أشار إليه الرئيس بايدن عند تسميته مبعوثاً خاصاً لليمن. وقال «إن تمتعه بخبرة طويلة في المنطقة، ستساهم في تنفيذ مهمته، والعمل مع مبعوث الأمم المتحدة وجميع أطراف النزاع للدفع باتجاه حل دبلوماسي».

إلمام وكفاءة
يقول البراء شيبان، المحلل السياسي عضو مشاورات الرياض اليمنية، إن «المبعوث الأميركي من الشخصيات التي تتمتع حتى من قبل تعيينها بإلمام بالملف اليمني. لقد تعامل مع اليمنيين بشكل كبير، ولديه تجربة في التعامل مع الملف، حتى عندما تلتقيه تجد لديه المعرفة والخبرة».
ويعتقد شيبان أن المبعوث كان أكثر حماسة ونشاطاً عندما بدأ بتسلم الملف؛ إذ عقد كثيراً من اللقاءات، وكان يلتقى حتى مع اليمنيين الموجودين داخل الولايات المتحدة لكن يبدو أن تعاطي الإدارة الأميركية الحالية قيّد من إمكانية تحركه أو المرونة التي كان يبدو أنه سيتحرك من خلالها في حال وجود إدارة أميركية مختلفة، أو على الأقل تعاط أميركي مختلف مع الملف اليمني.
«الكثير من اليمنيين يثنون على تجربتهم معه، خصوصاً لدى عقد نقاشات ولقاءات؛ إذ يتفاعل بشكل منفتح وإيجابي أكثر أحياناً حتى من المبعوثين الأمميين». يضيف المحلل السياسي «ألاحظ أن نشاطه عندما بدأ كان أكبر؛ لأن يدرك أهمية استعادة الدولة ومفهوم استعادة مؤسساتها وإنهاء حال الملشنة (التحول إلى الميليشيات) التي حصلت في اليمن منذ انقلاب الحوثيين على السلطة (في سبتمبر/أيلول 2014). بيد أن تعامل الإدارة الحالية خصوصاً في تعاطيها مع الملف الإيراني، لا سيما من خلال الدور الواضح والكبير للمبعوث الأميركي للملف الإيراني روبرت مالي، أثر بشكل كبير على قدرة المبعوث الأميركي في التعامل مع الملف اليمني، فاضطر إلى التراجع عن مواقف سابقة كثيرة، أبرزها أهمية كسر الحوثيين عسكرياً قبل الوصول إلى السلام. كان خطاب المبعوث قبل تولي هذه المهمة هو أن الضغط العسكري على الجماعة يستطيع إجبارهم على عملية سياسية. ونظرته للحوثيين كانت مختلفة، فقد كان يرى أن الجماعة الحوثية تستجيب للضغط العسكري، لكن بعدما أزالت الإدارة الجديدة الحوثيين من قائمة الإرهاب اضطر ليندركينغ إلى المناورة والتحرك في إطار الإدارة الجديدة. والمحاذير التي وضعتها الإدارة الأميركية واضح أنها قيّدت من قدرته على المناورة وأثرت على طريقة أدائه وتعاطيه مع الملف اليمني».

إيران والحوثيون
رغم عمل ليندركينغ تحت إدارتين، جمهورية وديمقراطية، فإن قدرته على وصف العلاقة الإيرانية - الحوثية ما زالت متقاربة. فقد اتهم ليندركينغ إيران بلعب دور ضار باليمن، بمواصلتها تسليح الحوثيين وتدريبهم وتجهيزهم، وإرسال الأسلحة والمعدات العسكرية وتهريبها لليمن، وذلك في تحدٍ لقرارات مجلس الأمن الدولي. وخلال مقابلة أجراها الموقع الإخباري «ذا وورلد»، أعرب ليندركينغ عن اعتقاده أن ضرر إيران تعدى اليمن إلى استهداف منشآت النفط السعودية، وجزم بأنها لا تلعب دوراً إيجابياً حتى اللحظة، كما ذهب إلى حد اتهامها بأنها «العامل الرئيسي الذي يلعب التأثير الأكثر ضرراً».
وجود الجهات الخارجية والمتمثلة هنا بإيران ضاعف من استحالة الحلول السياسية اليمنية، في ظل تمسك الحوثيين ومن ورائهم طهران بأن تبقى الجماعة ميليشيات لا يمكن أن تنخرط بشكل سياسي وتقاسم بقية اليمنيين السلطة، أو تنقل الصراع من الأسلحة إلى صناديق الانتخابات.
وللمبعوث تصريح شهير حول الشعب الإيراني خلال مقابلة أجراها مع «الشرق الأوسط» في شهر مايو (أيار) عام 2019، حين قال «نتعاطف جداً مع الشعب الإيراني الذي تحكمه قيادات من أمثال قاسم سليماني والحرس الثوري و(فيلق القدس) بالإضافة إلى دعمهم جماعة (حزب الله) في لبنان ونظام الأسد والتدخل في الشأن السياسي اللبناني والعراقي». وكان ذلك التصريح يسبق مقتل القيادي في الحرس الثوري قاسم سليماني بنحو سبعة أشهر.
ولطالما تحاول الإدارة الأميركية أن تفصل بين الملفين اليمني والإيراني، ورغم استحالة ذلك، وحتى إن حاولت واشنطن فعل ذلك، فكثير من اليمنيين يعتقدون بأن إيران لن تفصل الملفين، وستتعامل مع اليمن كورقة تستطيع تحريكها متى ما توافقت مصالحها ومراوغاتها مع الغرب، سواء في محادثات البرنامج النووي الإيراني أو غيرها من التحركات السياسية.
في الحوار ذاته، قال ليندركينغ أيضاً «نرى أن الإيرانيين يلجأون إلى كل السبل لإطالة أمد الحرب. ويجب أن يكون الشعب اليمني في مقدمة أولوياتنا. ويجب أن نفكر في كيفية إنهاء القتال واستعادة الخدمات الحكومية وحل الأزمات الإنسانية في البلاد التي لا يمكن حلها مع استمرار النزاع وعدم الاستقرار».
كما قال المبعوث في مقابلة أخرى مع «الشرق الأوسط» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 «لم نرَ إيران تلعب أي دور إيجابي في اليمن، وقلنا ذلك منذ فترة طويلة، إذا أرادت إيران أن تُظهر أنها يمكن أن تكون جهة فاعلة ومسؤولة، فعليها أن تبدأ بإنهاء تدخلها في الصراع في اليمن».

صعوبات المهمة
يعتقد الدكتور حمزة الكمالي، وكيل وزارة الشباب والرياضة عضو الفريق الحكومي الإعلامي لمشاورات السويد، أن ليندركينغ يتميز بأن لديه فهماً حقيقياً لأزمة اليمن بعيداً عن النظرة القاصرة التي تحصر الملف عند رؤية اليمن بوصفه خطراً أمنياً على الولايات المتحدة ومصالح واشنطن، كما ينظر ليندركينغ لليمن بنظرة اليمنيين «أي أنه لا ينظر إلى جانب الصراع العربي - الإيراني لليمن بقدر ما يقرأ ما يتعلق بمستقبل اليمن على المستوى السياسي والاجتماعي. هذه النظرة وهذه القراءة والقدرة الكبيرة على الاستماع التي يمتلكها المبعوث مكّنته من فهم أكثر للصراع رغم تغير الإدارات الأميركية. ويعد حصوله على ثقة إدارة ديمقراطية ليكمل عمله الذي كان تحت إدارة جمهورية في الملف ذاته، دليلاً على كفاءته».
ومن البديهي – كما يقول الكمالي - أن يواجه المبعوث صعوبة في الملف اليمني بسبب تغير الإدارة الأميركية، ومن وجهة نظر يمنية «نعتقد بأن هناك عشوائية في اتخاذ القرار الأميركي قد تكون أثرت على أداء المبعوث، سواء الكونغرس أو وزارة الخارجية التي أعتقد أن وجهة نظر وزير الخارجية تسطع فيها بموازاة ملفات أخرى في المنطقة».
النقطة الأخرى التي أوردها البراء شيبان، تتمثل في القيود التي يعمل في ظلها المبعوث الأميركي «فهناك أولوية واضحة للإدارة الأميركية، وهي عقد صفقة اتفاق نووي مع إيران». ويقول، إن هذه الأولوية تعني أن الحماسة التي بدأ بها ليندركينغ باتت الآن أقل مما كانت عندما تولى مهامه. كذلك، كان لحال الفتور التي صاحبت العلاقة الأميركية - الخليجية، أثر واضح على جهود ليندركينغ.
بالنسبة للحال الراهنة والمستقبل، يذهب شيبان إلى أن ليندركينغ يحاول إيجاد منفذ لتغيير تعاطي الإدارة الأميركية مع الملف اليمني، حتى يستطيع القيام بخطوات تختلف عن التعاطي الحالي، وإذا تغير ذلك التعاطي سيمتلك المبعوث أوراق ضغط، ومشكلة المبعوث الحالية هي افتقاده أي أوراق ضغط أو تأثير على الجماعة الحوثية، والسبب الرئيسي باعتقادي هو أن إدارته لا تخدمه في هذه المرحلة، ولكن في حال تغيّر التعاطي - وهو ما قد يحصل في المستقبل القريب - فإن ذلك سيمنح المبعوث الأميركي أدوات ضغط تمكنه من القيام بدور الوسيط بشكل أفضل مما هو الحال في الوضع الراهن.
أما حمزة الكمالي، فيتصور أن تمكين ليندركينغ بشكل أكثر فيما يتعلق بالقرار الأميركي في اليمن سينجم عنه «حلحلة أكبر على الصعيدين السياسي والعسكري»، مضيفاً «أرى أن فهم ليندركينغ يجعله صاحب رؤية لليمن، سواء بقى في منصبه أم لم يبق، فهو من أبرز السياسيين الأميركيين القلائل الذين يفهمون اليمن. إدراك المبعوث للأبعاد الاجتماعية والمكونات اليمنية، ولقاءاته مع الجاليات اليمنية في الخارج، كل ذلك يؤكد عمق نظرة الرجل للمجتمع اليمني، وهذا ما ينعكس بشكل لا إرادي على رؤيته ومقاربته للملف اليمني».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.