منذ منتصف الليل الماضي، بدأت فترة الصمت الانتخابي في فرنسا ومعها تنتهي الحملة الانتخابية الرئاسية، بحيث يمنع على المرشحَين اللذين تأهلا للجولة الحاسمة (الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون ومنافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن)، القيام بأي نشاط سياسي، أكان ذلك إطلاق التصريحات أو المشاركة في تجمعات ومهرجانات أو توزيع منشورات بانتظار أن تظهر أولى النتائج بدءاً من الساعة الثامنة مساء غد (الأحد). ولذا، فإن ماكرون ولوبن استفادا من اليومين الأخيرين (الخميس والجمعة) اللذين أعقبا مناظرتهما التلفزيونية ليل الأربعاء الماضي، من أجل تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، تعبئة جمهورهما والتركيز على أن النتائج ليست معروفة سلفاً؛ والثاني، السعي لاجتذاب المترددين في المشاركة بالانتخابات وإقناعهم بضرورة وأهمية التوجه إلى صناديق الإقتراع غداً (الأحد)؛ والثالث، الاستمرار في العمل لتوسيع القاعدة الانتخابية لكل منهما مع توجيه اهتمام خاص لناخبي مرشح اليسار المتشدد جان لوك ميلونشون الذي حل ثالثاً في الدورة الأولى وجمع ما يزيد على سبعة ملايين ناخب.
مرشحة اليمين مارين لوبن في جولتها بشمال فرنسا أمس (أ.ف.ب)
ثمة ظاهرة لم تعرفها الانتخابات الرئاسية منذ انطلاق الجمهورية الخامسة في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1958، وتتمثل في نداء وجّهه ثلاثة من القادة الأوروبيين (المستشار الألماني ورئيسا وزراء إسبانيا والبرتغال) ونشرته صحيفة «لوموند» المستقلة، اعتبروا فيه أن انتخابات الأحد الرئاسية «ليست بالنسبة إلينا انتخابات كغيرها»، ودعوا صراحة إلى إعادة انتخاب الرئيس ماكرون وليس «مرشحة اليمين المتطرف التي تقف علناً في صف أولئك الذين يهاجمون حريتنا وديمقراطيتنا». ورأى القادة الثلاثة أن اختيار ماكرون يعني «بقاء فرنسا منارة للديمقراطية». وفي إشارة واضحة إلى لوبن، قال الثلاثة إن في أوروبا «شخصيات شعبوية ويمينية متطرفة تعتبر الرئيس الروسي نموذجاً آيديولوجياً وسياسياً».
ويرى محللون سياسيون أن نداء الثلاثة يعني «وجود تخوفات حقيقية من أن تأتي الانتخابات بمفاجأة عنوانها مارين لوبن في قصر الإليزيه، الأمر الذي يدفعهم للتدخل في الانتخابات الفرنسية». ومصدر الخوف أن وصول لوبن إلى سدة الرئاسة سيكون بمثابة «إعصار سيضرب الاتحاد الأوروبي»، بالنظر لمواقف الأخيرة منه ولبرنامجها الداعي إلى تغيير الاتحاد الساعي مع ماكرون إلى مزيد من الاندماج وبناء السيادة الأوروبية، وأن يحل مكانه «تحالف» بين «الأمم الأوروبية». كذلك تدعو مرشحة اليمين المتطرف إلى خفض المساهمة المالية الفرنسية في ميزانية الاتحاد والتخلي عن الحلف الفرنسي - الألماني الذي كان وراء قيامه وفسخ الشراكات في الميدان الدفاعي.
ثمة أمران يشكلان مصدر إزعاج لمارين لوبن على المستوى المحلي والأوروبي في آن، وقد برزا في «المبارزة» التلفزيونية: الأول، ربطها بالرئيس الروسي بالاستناد لتصريحاتها السابقة ولحصولها على قرض من مصرف تشيكي - روسي عام 2015 لتغطية نفقات حزبها الانتخابية. والثاني، التركيز على اعتبارها تنتمي إلى اليمين المتطرف، وهو ما تسعى إلى التخلص منه. وأمس، أعلن ماكرون أن منافسته «نجحت في التقدم متخفية وراء قناع الاعتدال، بينما أساسيات اليمين المتطرف ما زالت قائمة». وأضاف الرئيس المنتهية ولايته أن «الملايين من مواطنينا صوتوا لحزبها ولمشروعها الذي يعطي الانطباع أنه يعزز القوة الشرائية، إلا أن ما تدعيه لا يوفر الحلول». وفي هجوم مباشر عليها، قال ماكرون ما حرفيته: «السيدة لوبن وريثة والدها (جان ماري لوبن الذي أسس حزب الجبهة الوطنية الذي تحول اسمه إلى «التجمع الوطني»)، كما أنها وريثة حزب وآيديولوجيا فيها كثير من معاداة السامية». وسبق لماكرون أن اتهمها بأن رغبتها في منع الحجاب في الفضاء العام سيفضي إلى «حرب أهلية» في فرنسا. وردت لوبن على ذلك نافية أن تكون ممثلة اليمين المتطرف، معتبرة أن ذلك «يعد إهانة لها وإهانة للملايين من الفرنسيين» الذين صوتوا لها في الدورة الأولى. واتهمت لوبن الوسائل الإعلامية بالسعي لـ«شيطنتها»، بينما دأبت في السنوات الأخيرة على تجميل صورتها والابتعاد عن كل ما يعد تطرفاً. إلا أن برنامجها الانتخابي يستعيد كل التدابير التي تعد بالغة التطرف.
وأمس، ألقى المرشحان بما تبقى لهما من قوة في المعركة الحاسمة، إن من خلال مقابلتين صحافيتين مطولتين أو من خلال تجمعين انتخابيين: لوبن في منطقة شمال فرنسا قريب من منتجع «لو توكيه»، حيث يملك ماكرون وزوجته منزلاً، والأخير في مدينة فيجاك الواقعة في منطقة أوكسيتانيا جنوب غربي البلاد.
وفيما تفيد آخر استطلاعات الرأي بأن ماكرون نجح في الأيام الأخيرة في إحراز تقدم إضافي، حيث يقدر بأنه سيحصل على نسبة من الأصوات تتراوح ما بين 55.5 في المائة إلى 57.5 في المائة مقابل 42.5 في المائة إلى 44.5 في المائة لمنافسته، ما يعني أن الأول اقترب كثيراً من الفوز بولاية ثانية، فقد سعت لوبن إلى تنشيط فريقها وناخبيها بالتأكيد على أن استطلاعات الرأي «ليست هي من يصنع الانتخابات الفعلية». وتسعى لوبن إلى إخافة الناخبين من فوز ماكرون، مستخدمة فزاعة رغبته في تغيير نظام التقاعد ورفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، بينما النظام الحالي ينص على أنه في الـ62 عاماً. وتجدر الإشارة إلى أن ماكرون سعى قبل وصول جائحة «كوفيد - 19» إلى تمرير قانون بهذا المعنى. إلا أنه لاقى معارضة شعبية قوية في الشارع وحتى داخل قبة البرلمان وقد تم التخلي عنه عملياً لاحقاً. ومرة بعد أخرى، تؤكد لوبن أن فوز ماكرون سيؤدي إلى «كارثة اجتماعية»، وأن «ولايته الثانية ستكون أسوأ من الأولى». وذهبت أمس إلى التنبيه من أن على الناخبين الاختيار «إما ماكرون أو فرنسا»، داعية ناخبيها إلى الإطاحة بما يسعى ماكرون لبنائه وهو «الجبهة الوطنية» للوقوف بوجه وصولها إلى قصر الإليزيه. وتعني هذه الجبهة تضافر كل القوى السياسية المؤمنة بقيم الجمهورية إلى قطع طريق الرئاسة على لوبن. وسبق لهذه «الجبهة أن قضت على حلمها الرئاسي في عام 2017، كما قضت على حلم والدها في عام 2002». وفي الأيام الأخيرة تكاثرت دعوات السياسيين والمثقفين، وحتى الرياضيين للانتخاب لصالح ماكرون رغم التحفظات الكثيرة التي عبروا عنها بخصوص أداء الأخير، وأيضاً بخصوص برنامجه السياسي.
ويشكل ناخبو ميلونشون «بيضة القبان». ولذا سعى ماكرون إلى تحسين صورته لدى ناخبيه وإضفاء طابع اجتماعي على برنامجه، فيما الصورة العالقة به أنه «رئيس الأغنياء». واللافت أنه قام الخميس بزيارة لمدينة «سان دوني» التي صوتت غالبيتها لصالح ميلونشون. وتعرف هذه المدينة التي دفن ملوك فرنسا في كاتدرائيتها، بكثافة المهاجرين من أفريقيا وبلدان المغرب وهي تعاني من الفقر والبطالة... ومرة أخرى، نبّه ماكرون من «خطورة» برنامج لوبن على الاتحاد الأوروبي وعلى السلم الاجتماعي وكذلك على الاقتصاد.
يبقى أن انتخابات لاحقة (تشريعية) ستجرى في يونيو (حزيران) المقبل. ويريد ميلونشون الاستفادة منها لإيصال أكبر كتلة نواب إلى البرلمان وطموحه أن يفرض نفسه رئيساً للحكومة. بيد أن سيناريو كهذا يبدو بعيد التحقق. ولكن ثمة مخاوف من أن تعرف فرنسا هزات اجتماعية الصيف المقبل في حال انتخب ماكرون أو منافسته لوبن.