من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير
TT

من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير

لقد كان الوضع في القارة الأوروبية في مطلع الألفية الميلادية الثانية غريبا للغاية، فلقد كانت هناك إمبراطوريتان؛ الأولى هي الإمبراطورية الألمانية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة والتي قلد البابا ليو التاسع أول إمبراطور لها وهو شارلمان التاج قبل ذلك بقرنين من الزمان، مكونا تحالفا جديدا بين كنيسة روما التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في وسط وغرب القارة الأوروبية، وأكبر قوة سياسية موازية ممثلة في إمبراطورية «الفرانكس»، ومن ناحية أخرى كانت هناك الدولة البيزنطية في الشرق ومركزها الديني ممثلا في كنيسة القسطنطينية، وعلى حين كانت كنيسة روما أيسر حالا وأكثر شمولا وقوة بسبب ظروفها السياسية البعيدة عن أحضان السلطة السياسية المركزية، فإن كنيسة بيزنطة ظلت تابعا ضعيفا للسلطة المركزية للدولة البيزنطية.
وعلى الرغم من التعاون الذي دار بين الكنيستين على فترات متباعدة، خاصة في أغلبية من المجامع الدينية الأساسية بعد مجمع نيقية في 325 ميلاديا، فإن التوتر كان السمة الأساسية الغالبة على العلاقة، خاصة بعدما أصبحت كنيسة روما أكثر قوة واستقلالية مع مرور الوقت، لا سيما أنها تستند إلى مبدأ «التوارث البطرسي» الذي جعل باباوات روما دائما يعتقدون أنهم ورثة بطرس الرسول الذي قال فيه السيد المسيح إنه سيبني كنيسته عليه، وهو ما ميزهم بطبيعة الحال. وقد استمرت العلاقة مشدودة، ولكن بلا خلافات تذكر، حتى جرى تتويج شارلمان إمبراطورا رومانيا مقدسا في روما، وبهذه الخطوة تحول الثقل السياسي/ الديني من إمبراطور بيزنطة إلى غرب أوروبا، فكان هذا أول بوادر للانشقاق بين الكنيستين والإمبراطوريتين على حد سواء، وقد أضعف من وضع الشرق أن الإمبراطورية تعرضت لهزائم منكرة على يد الدولة الإسلامية الجديدة التي ابتلعت أكثر من نصف أراضيها، وذلك في الوقت الذي أصر فيه شارلمان وخلفاؤه على ضرورة الحفاظ على القيمة والقامة الغربية مقابل الشرقية.
لقد استمر التوتر الخفي بين الكنيستين، وزاد منه بوادر الاختلافات العقائدية الخفيفة، وأخذ يتطور بسبب بعض المجامع الكنسية التي لم تقبل روما أجزاء مما أقرته، كذلك فإن الاختلاف الثقافي بدأ يطفو أيضا بقوة منذ القرن الرابع، فلقد كانت الكنيسة الشرقية تعتمد بشكل أساسي على اللغة اليونانية والثقافة الهيلينية، وكانت أكثر مرونة خاصة بالنسبة للمسائل المتعلقة بالتبشير والقواعد الخاصة بالأداء الكنسي، بينما كانت كنيسة روما أكثر حزما وتشددا سواء لطرقها أو لثقافتها، فلقد اقتبست اللغة اللاتينية ولجأت للمفكرين الأوائل للكنيسة لتثبيت عقيدتها خاصة الكتب الخاصة بالقديس أغسطس St. Augustine الذي كان متشددا بشكل كبير، كما أنها كانت أكثر ثروة وقوة من الأخيرة، وأكثر استقلالية أيضا، ولكن بداية التوتر الحقيقي جاءت مع الخلافات المتعلقة بالصور والتماثيل في العبادة والمعروفة بالخلاف الرافض للأيقوناتIconoclastcism، حيث قرر الإمبراطور البيزنطي في القرن الثامن بعد تأثره بالأعراف الإسلامية رفضه أية صور أو تماثيل تجسد السيد المسيح أو السيدة العذراء، وذلك في الوقت الذي رفضت فيه كنيسة روما هذا القرار، مؤكدة أن تمثيل السيد المسيح إنما جاء تقريبا لِنَسُوته لدى غالبية المسيحيين، خاصة أن طبيعة السيد المسيح بالنسبة لهم بشرية وإلهية، بالتالي يمكن تجسيده، وقد جرى رأب الصدع بين الطرفين في مرحلة لاحقة ولكن ليس قبل أن يخلق من التوتر الكثير.
لقد جاءت اللحظة الحاسمة في تاريخ كنيستي روما والقسطنطينية في عام 1054 ميلاديا بعدما اعتلى البابا ليو التاسع البابوية وقبلها بسنوات قليلة، وقد كان هذا البابا ابن خالة الإمبراطور الألماني، وكان مصمما على إركاع كنيسة القسطنطينية لاعتقاده الكامل بسيادة روما من ناحية، ولأنه رأى في الكنيسة والدولة البيزنطية ضعفا سياسيا وكنسيا يحتاج معه لعدم تأجيل نقل مركز الثقل المسيحي من بيزنطة (اليونان) إلى روما والغرب، وقد لجأ في البداية لتكتيكات سياسية لكسر العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطية وكنيسة القسطنطينية، ولكن ما كان لهذا التحرك أن يلقى الصدى المناسب في البلاط الإمبراطوري حتى وإن كانت علاقة الإمبراطور مشدودة مع مايكل بطريرك الكنيسة، فلجأت روما لتغيير التكتيك من خلال الهجوم المباشر على البطريركية ذاتها وتصغيرها، فأرسل البابا في روما للبطريرك مايكل رسالة شديدة اللهجة تضمنت: «.. إن كنيسة روما هي الأم والرب زوجها، أما القسطنطينية فهي ابنة شقية وفاسدة، وأن أي كنيسة تخرج عن روما فهي تعد تجمعا للهراطقة.. ومجمعا للشياطين». وقد بدأت قناعة البابا ليو التاسع تقوى بأن أي محاولة لرأب الصدع بين الطرفين لن يكتب لها النجاح إلا إذا توحدت الكنيسة تحت راية بابا روما.
في إطار مسلسل الشد والجذب الدائر أصدر البطريرك مايكل مرسوما بمنع الكنائس التابعة لروما في أراضيه من إقامة القداس لأسباب ترجع إلى أن القربان الذي تقدمه في عمليات التناول ليس مخمرا وفقا للتقاليد المتبعة في الشرق، وذلك ردا على قيام بابا روما بالضغط على الكنائس الشرقية في شبه الجزيرة الإيطالية لفرض عدم تخمير القرابين، وقد طلب البطريرك مايكل من البابا ليو التاسع إرسال ممثلين له للتفاوض في القسطنطينية، وهو ما جرى بالفعل فتعامل المبعوثان معه بعدم لياقة معتمدين على دعم الإمبراطور لهما، وقد تصدوا بمزيج من العجرفة والإهانة لكل الحجج التي تقدمت بها قيادات الكنيسة البيزنطية، وعندما حاول المبعوثان لقاء البطريرك مايكل مرة أخرى أصر الرجل على عدم اللقاء بهما لما بدر منهما في حقه، فما كان منهما إلا أن اقتحما عليه قداسه في كنيسة آيا صوفيا الكبيرة (التي تحولت إلى أكبر مسجد بعد الفتح العثماني)، وقاما بتعليق عريضة كبيرة بها مرسوم من بابا روما بعزل البطريرك مايكل لخروجه عن الدين هو وتابعيه في الكنيسة، وجاء المرسوم ليعلن عن عشر مخالفات لكنيسة القسطنطينية منها القضية التي طالما كانت مصدرا للخلاف الخفي بين الطرفين وهي قضية مرتبطة بالإقنيم الابن في عقدية التثليث أو الـ«Filioque»، فقد رأت الكنيسة الكاثوليكية أن إقنيم الروح القدس في إطار التثليث مشتق من إقنيم الأب والابن على حد سواء، بينما رأت كنيسة القسطنطينية أنها مشتقة من الأب وحده، ووسط ذهول الحضور خرج الرجلان يرددان بصوت عال: «هكذا رأى الرب وهكذا حكم الرب» في تعبير واضح أن السلطة تكمن في أيدي بابا روما وليس بطريركية القسطنطينية.
لقد أخذ المبعوثان البطريرك مايكل على غرة فلم يفعل شيئا وسط ذهول جميع الحاضرين، ولكن الذهول لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما جمع مجمعا لبعض الكنائس الشرقية التي ردت على بابا روما بالشيء نفسه، وهو الحرمان الكنسي وإعلان خروج كل أتباع الكاثوليكية عن الدين المسيحي، ومن هنا ظهر الخلاف المذهبي للأرثوذكس مقابل الكاثوليك، وهو الخلاف الذي يظل عالقا إلى اليوم في الوجدان الأوروبي، فلم يتم رأب الصدع على الرغم من المحاولات الممتدة لذلك، وهكذا فصل البابا ليو التاسع الكنيستين فصلا تاما، وعلى أثره ظهرت آثار انقسام أوروبا إلى مشرق سياسي أوروبي ضعيف ينتظر دماره على أيدي المسلمين والقبائل البربرية، مقابل مغرب أوروبي قوي ينتظره مستقبل سياسي كبير، بينما لم تتعاف المسيحية من صدمة هذا الانفصال الكبير الذي لحق بها حتى اليوم.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.