من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير
TT

من التاريخ: الانقسام الكبير

من التاريخ: الانقسام الكبير

لقد كان الوضع في القارة الأوروبية في مطلع الألفية الميلادية الثانية غريبا للغاية، فلقد كانت هناك إمبراطوريتان؛ الأولى هي الإمبراطورية الألمانية التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة والتي قلد البابا ليو التاسع أول إمبراطور لها وهو شارلمان التاج قبل ذلك بقرنين من الزمان، مكونا تحالفا جديدا بين كنيسة روما التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في وسط وغرب القارة الأوروبية، وأكبر قوة سياسية موازية ممثلة في إمبراطورية «الفرانكس»، ومن ناحية أخرى كانت هناك الدولة البيزنطية في الشرق ومركزها الديني ممثلا في كنيسة القسطنطينية، وعلى حين كانت كنيسة روما أيسر حالا وأكثر شمولا وقوة بسبب ظروفها السياسية البعيدة عن أحضان السلطة السياسية المركزية، فإن كنيسة بيزنطة ظلت تابعا ضعيفا للسلطة المركزية للدولة البيزنطية.
وعلى الرغم من التعاون الذي دار بين الكنيستين على فترات متباعدة، خاصة في أغلبية من المجامع الدينية الأساسية بعد مجمع نيقية في 325 ميلاديا، فإن التوتر كان السمة الأساسية الغالبة على العلاقة، خاصة بعدما أصبحت كنيسة روما أكثر قوة واستقلالية مع مرور الوقت، لا سيما أنها تستند إلى مبدأ «التوارث البطرسي» الذي جعل باباوات روما دائما يعتقدون أنهم ورثة بطرس الرسول الذي قال فيه السيد المسيح إنه سيبني كنيسته عليه، وهو ما ميزهم بطبيعة الحال. وقد استمرت العلاقة مشدودة، ولكن بلا خلافات تذكر، حتى جرى تتويج شارلمان إمبراطورا رومانيا مقدسا في روما، وبهذه الخطوة تحول الثقل السياسي/ الديني من إمبراطور بيزنطة إلى غرب أوروبا، فكان هذا أول بوادر للانشقاق بين الكنيستين والإمبراطوريتين على حد سواء، وقد أضعف من وضع الشرق أن الإمبراطورية تعرضت لهزائم منكرة على يد الدولة الإسلامية الجديدة التي ابتلعت أكثر من نصف أراضيها، وذلك في الوقت الذي أصر فيه شارلمان وخلفاؤه على ضرورة الحفاظ على القيمة والقامة الغربية مقابل الشرقية.
لقد استمر التوتر الخفي بين الكنيستين، وزاد منه بوادر الاختلافات العقائدية الخفيفة، وأخذ يتطور بسبب بعض المجامع الكنسية التي لم تقبل روما أجزاء مما أقرته، كذلك فإن الاختلاف الثقافي بدأ يطفو أيضا بقوة منذ القرن الرابع، فلقد كانت الكنيسة الشرقية تعتمد بشكل أساسي على اللغة اليونانية والثقافة الهيلينية، وكانت أكثر مرونة خاصة بالنسبة للمسائل المتعلقة بالتبشير والقواعد الخاصة بالأداء الكنسي، بينما كانت كنيسة روما أكثر حزما وتشددا سواء لطرقها أو لثقافتها، فلقد اقتبست اللغة اللاتينية ولجأت للمفكرين الأوائل للكنيسة لتثبيت عقيدتها خاصة الكتب الخاصة بالقديس أغسطس St. Augustine الذي كان متشددا بشكل كبير، كما أنها كانت أكثر ثروة وقوة من الأخيرة، وأكثر استقلالية أيضا، ولكن بداية التوتر الحقيقي جاءت مع الخلافات المتعلقة بالصور والتماثيل في العبادة والمعروفة بالخلاف الرافض للأيقوناتIconoclastcism، حيث قرر الإمبراطور البيزنطي في القرن الثامن بعد تأثره بالأعراف الإسلامية رفضه أية صور أو تماثيل تجسد السيد المسيح أو السيدة العذراء، وذلك في الوقت الذي رفضت فيه كنيسة روما هذا القرار، مؤكدة أن تمثيل السيد المسيح إنما جاء تقريبا لِنَسُوته لدى غالبية المسيحيين، خاصة أن طبيعة السيد المسيح بالنسبة لهم بشرية وإلهية، بالتالي يمكن تجسيده، وقد جرى رأب الصدع بين الطرفين في مرحلة لاحقة ولكن ليس قبل أن يخلق من التوتر الكثير.
لقد جاءت اللحظة الحاسمة في تاريخ كنيستي روما والقسطنطينية في عام 1054 ميلاديا بعدما اعتلى البابا ليو التاسع البابوية وقبلها بسنوات قليلة، وقد كان هذا البابا ابن خالة الإمبراطور الألماني، وكان مصمما على إركاع كنيسة القسطنطينية لاعتقاده الكامل بسيادة روما من ناحية، ولأنه رأى في الكنيسة والدولة البيزنطية ضعفا سياسيا وكنسيا يحتاج معه لعدم تأجيل نقل مركز الثقل المسيحي من بيزنطة (اليونان) إلى روما والغرب، وقد لجأ في البداية لتكتيكات سياسية لكسر العلاقة بين الإمبراطورية البيزنطية وكنيسة القسطنطينية، ولكن ما كان لهذا التحرك أن يلقى الصدى المناسب في البلاط الإمبراطوري حتى وإن كانت علاقة الإمبراطور مشدودة مع مايكل بطريرك الكنيسة، فلجأت روما لتغيير التكتيك من خلال الهجوم المباشر على البطريركية ذاتها وتصغيرها، فأرسل البابا في روما للبطريرك مايكل رسالة شديدة اللهجة تضمنت: «.. إن كنيسة روما هي الأم والرب زوجها، أما القسطنطينية فهي ابنة شقية وفاسدة، وأن أي كنيسة تخرج عن روما فهي تعد تجمعا للهراطقة.. ومجمعا للشياطين». وقد بدأت قناعة البابا ليو التاسع تقوى بأن أي محاولة لرأب الصدع بين الطرفين لن يكتب لها النجاح إلا إذا توحدت الكنيسة تحت راية بابا روما.
في إطار مسلسل الشد والجذب الدائر أصدر البطريرك مايكل مرسوما بمنع الكنائس التابعة لروما في أراضيه من إقامة القداس لأسباب ترجع إلى أن القربان الذي تقدمه في عمليات التناول ليس مخمرا وفقا للتقاليد المتبعة في الشرق، وذلك ردا على قيام بابا روما بالضغط على الكنائس الشرقية في شبه الجزيرة الإيطالية لفرض عدم تخمير القرابين، وقد طلب البطريرك مايكل من البابا ليو التاسع إرسال ممثلين له للتفاوض في القسطنطينية، وهو ما جرى بالفعل فتعامل المبعوثان معه بعدم لياقة معتمدين على دعم الإمبراطور لهما، وقد تصدوا بمزيج من العجرفة والإهانة لكل الحجج التي تقدمت بها قيادات الكنيسة البيزنطية، وعندما حاول المبعوثان لقاء البطريرك مايكل مرة أخرى أصر الرجل على عدم اللقاء بهما لما بدر منهما في حقه، فما كان منهما إلا أن اقتحما عليه قداسه في كنيسة آيا صوفيا الكبيرة (التي تحولت إلى أكبر مسجد بعد الفتح العثماني)، وقاما بتعليق عريضة كبيرة بها مرسوم من بابا روما بعزل البطريرك مايكل لخروجه عن الدين هو وتابعيه في الكنيسة، وجاء المرسوم ليعلن عن عشر مخالفات لكنيسة القسطنطينية منها القضية التي طالما كانت مصدرا للخلاف الخفي بين الطرفين وهي قضية مرتبطة بالإقنيم الابن في عقدية التثليث أو الـ«Filioque»، فقد رأت الكنيسة الكاثوليكية أن إقنيم الروح القدس في إطار التثليث مشتق من إقنيم الأب والابن على حد سواء، بينما رأت كنيسة القسطنطينية أنها مشتقة من الأب وحده، ووسط ذهول الحضور خرج الرجلان يرددان بصوت عال: «هكذا رأى الرب وهكذا حكم الرب» في تعبير واضح أن السلطة تكمن في أيدي بابا روما وليس بطريركية القسطنطينية.
لقد أخذ المبعوثان البطريرك مايكل على غرة فلم يفعل شيئا وسط ذهول جميع الحاضرين، ولكن الذهول لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما جمع مجمعا لبعض الكنائس الشرقية التي ردت على بابا روما بالشيء نفسه، وهو الحرمان الكنسي وإعلان خروج كل أتباع الكاثوليكية عن الدين المسيحي، ومن هنا ظهر الخلاف المذهبي للأرثوذكس مقابل الكاثوليك، وهو الخلاف الذي يظل عالقا إلى اليوم في الوجدان الأوروبي، فلم يتم رأب الصدع على الرغم من المحاولات الممتدة لذلك، وهكذا فصل البابا ليو التاسع الكنيستين فصلا تاما، وعلى أثره ظهرت آثار انقسام أوروبا إلى مشرق سياسي أوروبي ضعيف ينتظر دماره على أيدي المسلمين والقبائل البربرية، مقابل مغرب أوروبي قوي ينتظره مستقبل سياسي كبير، بينما لم تتعاف المسيحية من صدمة هذا الانفصال الكبير الذي لحق بها حتى اليوم.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.