الفلسفة وصناعة المفاهيم

بين أزمة المعنى والانشغال بإنتاجه وتوليده

الفلسفة وصناعة المفاهيم
TT

الفلسفة وصناعة المفاهيم

الفلسفة وصناعة المفاهيم

غالبا ما تكون الكتب والدراسات المعنونة بهذا الاستفهام (ما هي الفلسفة؟) كتبا مدرسية تتغيى قصدا بيداغوجيا محدودا، وهو تقريب «ماهية» هذا الحقل المعرفي للدارس المبتدئ أو القارئ غير المتخصص. ويغلب على كُتَّابِ هذا النمط من المداخل التعريفية الاكتفاء باستحضار تعدد تعاريف الفلسفة، التي هي من الكثرة بحيث يجوز أن نقول مع كارل ياسبرز «إن عدد تعاريف الفلسفة يكاد يساوي عدد الفلاسفة». كما تكتفي تلك الكتب التمهيدية باستحضار تطور موضوع اشتغال الفكر الفلسفي، وما حصل خلال صيرورة التاريخ من تقليص له، بسبب استقلال العلوم، حتى صارت الفلسفة «أُمّا ثكلى» بعد أن كانت «أُمَّ العلوم»!

لكن كتاب «ما هي الفلسفة؟» لجيل دولوز وفليكس غاتاري يكاد يكون استثناء ضمن هذه الكتب الكثيرة المشابهة له في العنوان. حيث يجوز القول إنه لا يُعرِّف الفلسفة، بل يفلسفها ويبلور نظرية ذات رؤية خاصة متميزة لماهية اشتغال الفيلسوف. وهو بذلك جَسَّدَ بالفعل قول هيدغر إن الجواب عن سؤال ماهية الفلسفة شروع في التفلسف.
إلا أنني أرى دولوز وغاتاري في كتابهما هذا لم يشرعا في التفلسف فحسب، بل قالا ضِمْنا بنهايته! فهذا المتن ليس تعريفا للفلسفة، بل هو بالأحرى تعريف لمأزقها في الزمن ما بعد الحداثي! حيث إن التحديد الذي يقدمانه لوظيفة التفلسف بوصفه «صناعة مفاهيم»، أراه كافيا بحد ذاته للدلالة على أزمة الوعي وانحلال المعنى في زمن ما بعد الحداثة. إذ لم تعد الفلسفة مع دولوز «بحثا عن الحقيقة» ولا إبداعا لرؤى حول العالم، إنما إبداع مفاهيم. لكن لماذا نجعل من هذا التحديد الدولوزي لفعل التفلسف، علامة على إشكالية أزمة الفكر وضياع المعنى؟! أليس ثمة مفارقة بين زعمنا هذا وماهية الاشتغال المفاهيمي؟ أليس إبداع مفاهيم هو بالضبط إبداع معاني؟ فكيف إذن نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيم دالة على أزمة المعنى؟!
قبل أن نجيب عن هذه الاستفهامات، ونرفع تلك المفارقة، لا بد من تحليل طبيعة الصناعة المفاهيمية في حقل تاريخ الفلسفة الغربية ودلالة تحولاتها الراهنة:
تميز فعل التفلسف - في السياق الثقافي الغربي - منذ سقراط بنزوعه نحو الحد الماهوي، حيث كان مشدودا نحو الصناعة المفاهيمية، بما هي اشتغال سيمانطيقي يطلب المعنى، ويشدد في نقد الاستعمال الدلالي الشائع. وقد أثمر هذا الاشتغال السيمانطيقي في تاريخ الفلسفة إرثا ضخما في المفاهيم الفلسفية، حتى أن الفلاسفة أصبحوا يتمايزون ليس فقط بأفكار ورؤى، بل أيضا بنوع الدلالات التي يعطونها للمفاهيم التي يتوسلونها للتفكير. وأكثر من ذلك لقد كان البعض منهم يحرص على إفراغ المفهوم من مدلوله، ليُبَطِّنهُ معنى يشذ به على نحو مخالف تماما، ليس للاستعمال الشائع فحسب، بل حتى للسائد في الحقل الفلسفي ذاته: فمفهوم الحدس مثلا عند كانط مغاير لمدلوله المألوف في الاستعمال الفلسفي، فهو ليس معرفة مباشرة بلا وساطة استدلالية، بل معرفة حسية! كما أن أسماء الفلاسفة تقترن في الغالب بالمفاهيم التي صنعوها، فكانط يقترن اسمه بمفهوم النقد، وبرجسون بـ«الديمومة»، وهيدغر بـ«الكينونة» و«الدازاين»، وهيغل بـ«المطلق» ولايبنز بـ«الموناد»، وهوسرل بـ«القصدية».. لذا حق لدولوز أن يقارن عمل الفيلسوف بعمل الروائي، فكما أن الإبداع السردي يقترن بإبداع الشخصيات، فإن عمل الفيلسوف يقترن بإبداع مفاهيم. ولَمَّاحَة جدا تلك الرؤية الدولوزية إلى مركزية المفاهيم في الفلسفة، فليست محورية المفاهيم في المتن الفلسفي بمقام محورية الشخوص في المتن الروائي فقط، بل إن التفكير الفلسفي إذا ما استحضر الشخصيات سرعان ما تستحيل عنده إلى مفاهيم. ألسنا نتكلم في فلسفة نيتشه عن ديونوسيوس لا كاسم أسطوري بل كدال مفهومي ؟!
غير أن هذا التحديد لفعل التفلسف بوصفه فعل مَفْهَمَة ينبغي تمييز سياق وروده في الفلسفة القديمة والمعاصرة. فالتعليل الذي يقدمه دولوز لوجوب اشتغال التفكير الفلسفي في صناعة مفاهيم مغاير لسياق الاشتغال المفاهيمي في الفلسفة القديمة. ويكفيني هنا لبيان الفارق أن أشير إلى الحد الماهوي عند سقراط كأساس منهجي للعمل المفاهيمي قديما، فقد كانت السقراطية - وكذا التقليد الأفلاطوني الذي ساد بعدها - يعتقد بإمكان تثبيت الدلالة، وصوغ المفهوم صياغة سيمانطيقية ماهوية. وهذا ما يظهر في ترتيب أفلاطون لمراتب طلب الحد بالانتقال من الأفراد، إلى الأجناس، ثم الأنواع، فالماهيات. وهو الناظم المنهجي الذي سيؤثر في تأسيس المنطق الصوري عند تلميذه أرسطو، بما هو منطق كليات يرفع الحد بالماهية إلى درجة التعريف الحقيقي، ناظرا إلى ما عداه بوصفه مفتقرا إلى القدرة على إنتاج الحد.
صحيح أن المنطق رغم وضعه للحد، بما هو تركيب من جنس وفصل، في أعلى مقام، واحتقاره لأنماط التعاريف الأخرى كالتعريف باللفظ والتمثيل والمخالفة.. بدعوى أنها لا تخلص إلى ماهية المفهوم، ورغم أن المناطقة قالوا بنُدْرة الحدود الماهوية، بل اعترفوا بعُسر إنتاجها، فإن الشاهد عندنا هنا هو أن الوعي الفلسفي في القديم كان يعتقد بإمكانية تحصيل الحقيقة الدلالية؛ بينما الاشتغال المفاهيمي عند دولوز نابع من منطلق فكري مغاير، وهو نسبية الدلالة وعدم وجود حقيقة مرجعية يمكن الاستناد عليها.
وهنا نعود إلى تلك المفارقة التي أبرزناها قبل بالاستفهام: كيف نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيمية علامة ودليلا على أزمة المعنى؟!
في تحليلهما لمعنى المفهوم داخل الحقل الفلسفي يحرص دولوز وغاتاري، تقريبا، على تخطئة جميع التحديدات التي عَرَّفت المفهوم! وكبديل لها يقدمان معنى للمفهوم ينفي أن يحدده بكونه دالة أو صورة أو تمثيلا.. إن المفهوم كل هذا وزيادة، إنه حصيلة إبداع انطلاقا من سؤال إشكالي، وهو في نظرهما ليس لفظا مفردا، ولا كينونة مجردة ولا متعينة، إنه لا مرجع له ؛ لأنه مرجع ذاته. ويشدد دولوز وغاتاري على عدم الخلط بين المنطق والفلسفة، فالمنطق - حسب زعمها - «يكره المفاهيم». ويحرصا على إسناد موقفهما هذا بالإحالة على المنطقي الكبير فريجه الذي عرف المفهوم المنطقي بوصفه دالة. ويلتقطان هذا التعريف لينفيان وجود المفهوم في حقل المنطق! وقد كان هذا في نظري من أضعف آرائهما، فالرؤية القاصرة الانتقائية بادية بوضوح في تحليلهما لعلاقة المفهوم بالمنطق، حيث لا نجد لديهما شجاعة معرفية في الانفتاح على الدرس المنطقي بكل ثرائه وتنوعه، بل ينتقيان منه رؤى فريجه وراسل!
كما يفتقران إلى قوة الاستدلال عندما يطلقان قولا آخر لا يخلو من افتئات على حقل العلم؛ حيث ينفيان أن يكون للعلم مفاهيم. ودليل زعمهما هذا هو أن التفكير العلمي ليس له سوى دوال تتمظهر في شكل قضايا. لذا فمقولات الصواب والخطأ لا ينبغي أن تطبق إلا على الخطاب العلمي، وليس على الخطاب الفلسفي!
صحيح أن كانط كان قد عرف الفلسفة قبل دولوز وغاتاري بوصفها تفكيرا بالمفاهيم؛ بيد أن هذين الأخيرين لم يقتصرا على تعريفها بالتحديد الكانطي السابق، بل بكونها تفكيرا بالمفاهيم وللمفاهيم! وينبغي أن نعي سبب قَصْرِهما لاشتغال الفيلسوف في الصناعة المفاهيمية. إنهما بذلك يريدان أن يُخلصاه من ثقل إنتاج الحقيقة، وبناء رؤى العالم، ومعنى الوجود؛إنهما يريدان أن يقيله من وظيفة إنتاج السرديات الكبرى، إلى اشتغال دلالي ينحصر في توليد مفاهيم، تلك التي ترد عند الفكر ما بعد الحداثي بميسمها الإجرائي الجزئي، لا بميسمها الكلاسيكي الكلي. وهذا ما جعلنا نعد كتابهما دلالة على أزمة المعنى لا اشتغالا في توليده وإنتاجه.

* لماذا صفحة عن الفلسفة؟
من كان ليصدق أن لحركة تمرد شعبية رومانسية، أطلق عليها «ثورة الياسمين» أن تعبر العالم العربي لتعود به إلى عالم القرون الوسطى الروحية، ومجاهيل التاريخ من رق وسبي وتلذذ بسفك الدماء بطريقة بربرية؟
هذا العري السياسي والثقافي والاجتماعي، لم يفضح فقط هشاشة مشاريع التنوير السابقة، بل كشف عن اختلاط مفاهيم التنوير وحقبه الممتدة من التنوير البريطاني القائم على الفضائل الاجتماعية، والتنوير الفرنسي القائم على العقل في مواجهة الأسطورة، وانتهاء بالتنوير الأميركي الذي تلاهما من حيث النشأة والقائم على الحريات السياسية.
نحاول من خلال هذه الصفحة «أروقة فلسفية» إعادة الاعتبار للتنوير من خلال الفلسفة عبر نخبة من المتخصصين والأكاديميين والمهتمين، ليس باعتبار الفلسفة مشروعًا تنويريًا نخبويًا، بل باعتبارها مشروعًا قابلاً للتسهيل وتمريره للطبقة الشابة المتعلمة التي تكبر في العالم العربي في أحلك أيام خريفه الرمادية.
نسعى من خلال الصفحة تقديم مواد مختلفة «تُصحّف الفلسفة» وتخرجها من غرفها المغلقة في الجامعات وتنزلها لجمعات الحدائق العامة والفصول الدراسية المدرسية، وجعلها مادة ممتعة لقارئ يتناول قهوته في مقهى.
ستركز الصفحة على إعادة قراءة تاريخ الأفكار لكن دون اجترارها، كما أن هذه التاريخية التي ستصبغ نقاشات الصفحة للأفكار، لن تجعلها تنسى معاصرتها وأهمية ربطها بواقعنا الحديث، هدفنا أن تكون هذه الصفحة جسرًا صغيرًا من ضمن جسور كثيرة نحاول أن نمدها من خلال هذه الصحيفة نحو صباحات مشرقة بحق، لا نحو أضواء فجر كاذب.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.