الفلسفة وصناعة المفاهيم

بين أزمة المعنى والانشغال بإنتاجه وتوليده

الفلسفة وصناعة المفاهيم
TT

الفلسفة وصناعة المفاهيم

الفلسفة وصناعة المفاهيم

غالبا ما تكون الكتب والدراسات المعنونة بهذا الاستفهام (ما هي الفلسفة؟) كتبا مدرسية تتغيى قصدا بيداغوجيا محدودا، وهو تقريب «ماهية» هذا الحقل المعرفي للدارس المبتدئ أو القارئ غير المتخصص. ويغلب على كُتَّابِ هذا النمط من المداخل التعريفية الاكتفاء باستحضار تعدد تعاريف الفلسفة، التي هي من الكثرة بحيث يجوز أن نقول مع كارل ياسبرز «إن عدد تعاريف الفلسفة يكاد يساوي عدد الفلاسفة». كما تكتفي تلك الكتب التمهيدية باستحضار تطور موضوع اشتغال الفكر الفلسفي، وما حصل خلال صيرورة التاريخ من تقليص له، بسبب استقلال العلوم، حتى صارت الفلسفة «أُمّا ثكلى» بعد أن كانت «أُمَّ العلوم»!

لكن كتاب «ما هي الفلسفة؟» لجيل دولوز وفليكس غاتاري يكاد يكون استثناء ضمن هذه الكتب الكثيرة المشابهة له في العنوان. حيث يجوز القول إنه لا يُعرِّف الفلسفة، بل يفلسفها ويبلور نظرية ذات رؤية خاصة متميزة لماهية اشتغال الفيلسوف. وهو بذلك جَسَّدَ بالفعل قول هيدغر إن الجواب عن سؤال ماهية الفلسفة شروع في التفلسف.
إلا أنني أرى دولوز وغاتاري في كتابهما هذا لم يشرعا في التفلسف فحسب، بل قالا ضِمْنا بنهايته! فهذا المتن ليس تعريفا للفلسفة، بل هو بالأحرى تعريف لمأزقها في الزمن ما بعد الحداثي! حيث إن التحديد الذي يقدمانه لوظيفة التفلسف بوصفه «صناعة مفاهيم»، أراه كافيا بحد ذاته للدلالة على أزمة الوعي وانحلال المعنى في زمن ما بعد الحداثة. إذ لم تعد الفلسفة مع دولوز «بحثا عن الحقيقة» ولا إبداعا لرؤى حول العالم، إنما إبداع مفاهيم. لكن لماذا نجعل من هذا التحديد الدولوزي لفعل التفلسف، علامة على إشكالية أزمة الفكر وضياع المعنى؟! أليس ثمة مفارقة بين زعمنا هذا وماهية الاشتغال المفاهيمي؟ أليس إبداع مفاهيم هو بالضبط إبداع معاني؟ فكيف إذن نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيم دالة على أزمة المعنى؟!
قبل أن نجيب عن هذه الاستفهامات، ونرفع تلك المفارقة، لا بد من تحليل طبيعة الصناعة المفاهيمية في حقل تاريخ الفلسفة الغربية ودلالة تحولاتها الراهنة:
تميز فعل التفلسف - في السياق الثقافي الغربي - منذ سقراط بنزوعه نحو الحد الماهوي، حيث كان مشدودا نحو الصناعة المفاهيمية، بما هي اشتغال سيمانطيقي يطلب المعنى، ويشدد في نقد الاستعمال الدلالي الشائع. وقد أثمر هذا الاشتغال السيمانطيقي في تاريخ الفلسفة إرثا ضخما في المفاهيم الفلسفية، حتى أن الفلاسفة أصبحوا يتمايزون ليس فقط بأفكار ورؤى، بل أيضا بنوع الدلالات التي يعطونها للمفاهيم التي يتوسلونها للتفكير. وأكثر من ذلك لقد كان البعض منهم يحرص على إفراغ المفهوم من مدلوله، ليُبَطِّنهُ معنى يشذ به على نحو مخالف تماما، ليس للاستعمال الشائع فحسب، بل حتى للسائد في الحقل الفلسفي ذاته: فمفهوم الحدس مثلا عند كانط مغاير لمدلوله المألوف في الاستعمال الفلسفي، فهو ليس معرفة مباشرة بلا وساطة استدلالية، بل معرفة حسية! كما أن أسماء الفلاسفة تقترن في الغالب بالمفاهيم التي صنعوها، فكانط يقترن اسمه بمفهوم النقد، وبرجسون بـ«الديمومة»، وهيدغر بـ«الكينونة» و«الدازاين»، وهيغل بـ«المطلق» ولايبنز بـ«الموناد»، وهوسرل بـ«القصدية».. لذا حق لدولوز أن يقارن عمل الفيلسوف بعمل الروائي، فكما أن الإبداع السردي يقترن بإبداع الشخصيات، فإن عمل الفيلسوف يقترن بإبداع مفاهيم. ولَمَّاحَة جدا تلك الرؤية الدولوزية إلى مركزية المفاهيم في الفلسفة، فليست محورية المفاهيم في المتن الفلسفي بمقام محورية الشخوص في المتن الروائي فقط، بل إن التفكير الفلسفي إذا ما استحضر الشخصيات سرعان ما تستحيل عنده إلى مفاهيم. ألسنا نتكلم في فلسفة نيتشه عن ديونوسيوس لا كاسم أسطوري بل كدال مفهومي ؟!
غير أن هذا التحديد لفعل التفلسف بوصفه فعل مَفْهَمَة ينبغي تمييز سياق وروده في الفلسفة القديمة والمعاصرة. فالتعليل الذي يقدمه دولوز لوجوب اشتغال التفكير الفلسفي في صناعة مفاهيم مغاير لسياق الاشتغال المفاهيمي في الفلسفة القديمة. ويكفيني هنا لبيان الفارق أن أشير إلى الحد الماهوي عند سقراط كأساس منهجي للعمل المفاهيمي قديما، فقد كانت السقراطية - وكذا التقليد الأفلاطوني الذي ساد بعدها - يعتقد بإمكان تثبيت الدلالة، وصوغ المفهوم صياغة سيمانطيقية ماهوية. وهذا ما يظهر في ترتيب أفلاطون لمراتب طلب الحد بالانتقال من الأفراد، إلى الأجناس، ثم الأنواع، فالماهيات. وهو الناظم المنهجي الذي سيؤثر في تأسيس المنطق الصوري عند تلميذه أرسطو، بما هو منطق كليات يرفع الحد بالماهية إلى درجة التعريف الحقيقي، ناظرا إلى ما عداه بوصفه مفتقرا إلى القدرة على إنتاج الحد.
صحيح أن المنطق رغم وضعه للحد، بما هو تركيب من جنس وفصل، في أعلى مقام، واحتقاره لأنماط التعاريف الأخرى كالتعريف باللفظ والتمثيل والمخالفة.. بدعوى أنها لا تخلص إلى ماهية المفهوم، ورغم أن المناطقة قالوا بنُدْرة الحدود الماهوية، بل اعترفوا بعُسر إنتاجها، فإن الشاهد عندنا هنا هو أن الوعي الفلسفي في القديم كان يعتقد بإمكانية تحصيل الحقيقة الدلالية؛ بينما الاشتغال المفاهيمي عند دولوز نابع من منطلق فكري مغاير، وهو نسبية الدلالة وعدم وجود حقيقة مرجعية يمكن الاستناد عليها.
وهنا نعود إلى تلك المفارقة التي أبرزناها قبل بالاستفهام: كيف نَعُدُّ تعريف الفلسفة، بكونها صناعة مفاهيمية علامة ودليلا على أزمة المعنى؟!
في تحليلهما لمعنى المفهوم داخل الحقل الفلسفي يحرص دولوز وغاتاري، تقريبا، على تخطئة جميع التحديدات التي عَرَّفت المفهوم! وكبديل لها يقدمان معنى للمفهوم ينفي أن يحدده بكونه دالة أو صورة أو تمثيلا.. إن المفهوم كل هذا وزيادة، إنه حصيلة إبداع انطلاقا من سؤال إشكالي، وهو في نظرهما ليس لفظا مفردا، ولا كينونة مجردة ولا متعينة، إنه لا مرجع له ؛ لأنه مرجع ذاته. ويشدد دولوز وغاتاري على عدم الخلط بين المنطق والفلسفة، فالمنطق - حسب زعمها - «يكره المفاهيم». ويحرصا على إسناد موقفهما هذا بالإحالة على المنطقي الكبير فريجه الذي عرف المفهوم المنطقي بوصفه دالة. ويلتقطان هذا التعريف لينفيان وجود المفهوم في حقل المنطق! وقد كان هذا في نظري من أضعف آرائهما، فالرؤية القاصرة الانتقائية بادية بوضوح في تحليلهما لعلاقة المفهوم بالمنطق، حيث لا نجد لديهما شجاعة معرفية في الانفتاح على الدرس المنطقي بكل ثرائه وتنوعه، بل ينتقيان منه رؤى فريجه وراسل!
كما يفتقران إلى قوة الاستدلال عندما يطلقان قولا آخر لا يخلو من افتئات على حقل العلم؛ حيث ينفيان أن يكون للعلم مفاهيم. ودليل زعمهما هذا هو أن التفكير العلمي ليس له سوى دوال تتمظهر في شكل قضايا. لذا فمقولات الصواب والخطأ لا ينبغي أن تطبق إلا على الخطاب العلمي، وليس على الخطاب الفلسفي!
صحيح أن كانط كان قد عرف الفلسفة قبل دولوز وغاتاري بوصفها تفكيرا بالمفاهيم؛ بيد أن هذين الأخيرين لم يقتصرا على تعريفها بالتحديد الكانطي السابق، بل بكونها تفكيرا بالمفاهيم وللمفاهيم! وينبغي أن نعي سبب قَصْرِهما لاشتغال الفيلسوف في الصناعة المفاهيمية. إنهما بذلك يريدان أن يُخلصاه من ثقل إنتاج الحقيقة، وبناء رؤى العالم، ومعنى الوجود؛إنهما يريدان أن يقيله من وظيفة إنتاج السرديات الكبرى، إلى اشتغال دلالي ينحصر في توليد مفاهيم، تلك التي ترد عند الفكر ما بعد الحداثي بميسمها الإجرائي الجزئي، لا بميسمها الكلاسيكي الكلي. وهذا ما جعلنا نعد كتابهما دلالة على أزمة المعنى لا اشتغالا في توليده وإنتاجه.

* لماذا صفحة عن الفلسفة؟
من كان ليصدق أن لحركة تمرد شعبية رومانسية، أطلق عليها «ثورة الياسمين» أن تعبر العالم العربي لتعود به إلى عالم القرون الوسطى الروحية، ومجاهيل التاريخ من رق وسبي وتلذذ بسفك الدماء بطريقة بربرية؟
هذا العري السياسي والثقافي والاجتماعي، لم يفضح فقط هشاشة مشاريع التنوير السابقة، بل كشف عن اختلاط مفاهيم التنوير وحقبه الممتدة من التنوير البريطاني القائم على الفضائل الاجتماعية، والتنوير الفرنسي القائم على العقل في مواجهة الأسطورة، وانتهاء بالتنوير الأميركي الذي تلاهما من حيث النشأة والقائم على الحريات السياسية.
نحاول من خلال هذه الصفحة «أروقة فلسفية» إعادة الاعتبار للتنوير من خلال الفلسفة عبر نخبة من المتخصصين والأكاديميين والمهتمين، ليس باعتبار الفلسفة مشروعًا تنويريًا نخبويًا، بل باعتبارها مشروعًا قابلاً للتسهيل وتمريره للطبقة الشابة المتعلمة التي تكبر في العالم العربي في أحلك أيام خريفه الرمادية.
نسعى من خلال الصفحة تقديم مواد مختلفة «تُصحّف الفلسفة» وتخرجها من غرفها المغلقة في الجامعات وتنزلها لجمعات الحدائق العامة والفصول الدراسية المدرسية، وجعلها مادة ممتعة لقارئ يتناول قهوته في مقهى.
ستركز الصفحة على إعادة قراءة تاريخ الأفكار لكن دون اجترارها، كما أن هذه التاريخية التي ستصبغ نقاشات الصفحة للأفكار، لن تجعلها تنسى معاصرتها وأهمية ربطها بواقعنا الحديث، هدفنا أن تكون هذه الصفحة جسرًا صغيرًا من ضمن جسور كثيرة نحاول أن نمدها من خلال هذه الصحيفة نحو صباحات مشرقة بحق، لا نحو أضواء فجر كاذب.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».