شلل تام يصيب منظومة الحكم في العراق بعد 19 عاماً من سقوط صدام

صراعات داخل البيت الشيعي وخلافات كردية - كردية

العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
TT

شلل تام يصيب منظومة الحكم في العراق بعد 19 عاماً من سقوط صدام

العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)
العراق يعيش انسداداً سياسياً كاملاً بعد 19 سنة من سقوط نظام صدام حسين (رويترز)

في ذكرى سقوط بغداد بأيدي الجنود الأميركيين، عام 2003، يبدو العراق غارقاً اليوم في انسداد سياسي تام، في ظل عجز مكوناته السياسية المختلفة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكذلك فشلها في الاتفاق على من هو الطرف الذي يشكل الغالبية النيابية التي تسمح له بتحديد الشخصية التي ستوكل لها مهمة تشكيل الحكومة الجديدة خلفاً لحكومة مصطفى الكاظمي الحالية.
كيف تبدو العلاقة بين الأطراف المتصارعة داخل البيت الشيعي؟ ما مصير مهلة الأربعين يوماً التي منحها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لخصومه الشيعة في الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة الجديدة؟ ما وضع الخلاف بين الأكراد أنفسهم على منصب رئيس الجمهورية؟ هذه جولة على تطورات المشهد السياسي العراقي في ذكرى سقوط النظام السابق...
لم تنجح منظومة الحكم السياسية في العراق، بعد مرور 19 عاماً على سقوط نظام صدام حسين على أيدي الأميركيين، في الاتفاق على عقد سياسي جديد. قال ذلك صراحة الرئيس العراقي برهم صالح في الذكرى التاسعة عشرة لسقوط بغداد، محذراً من استمرار الأزمة السياسية الحالية التي تمر بها البلاد بعد نحو 6 شهور على إجراء الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
قال صالح، وهو أحد 40 مرشحاً يتنافسون على منصب رئيس الجمهورية، في بيان بمناسبة ذكرى سقوط نظام صدام: «في يوم سقوط صنم الاستبداد، الحاجة مُلحة لتلبية مطلب العراقيين بحكم رشيد، ومعالجة الخلل البنيوي في منظومة الحكم». وأضاف: «بعد عقدين من التغيير، يمر بلدنا بظرف حساس وسط انسداد سياسي وتأخر استحقاقات دستورية عن مواعيدها المُحددة، وهو أمر غير مقبول بالمرة بعد مضي أكثر من خمسة أشهر على إجراء انتخابات مُبكرة استجابة لحراك شعبي وإجماع وطني لتكون وسيلة للإصلاح وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي وتصحيح المسارات الخاطئة وتحسين أوضاع المواطنين والاستجابة لمطالبهم».
وجدد صالح الدعوة إلى «عقد سياسي واجتماعي ضامن للسلم الأهلي، يقوم على مراجعة موضوعية لأخطاء الماضي». لكن واقع الحال يشير إلى أن لا أحد يريد مراجعة أخطاء الماضي. فبعد شهور على إجراء الانتخابات البرلمانية التي وصفت بأنها مبكرة (أبكر بشهور فقط من موعدها المبدئي)، لا يزال الشلل التام يصيب كل منظومة الحكم في العراق الذي دخل مرحلة الفراغ الدستوري.
وكان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، قائد تحالف الأغلبية الوطنية، قد فاجأ خصومه في البيت الشيعي (الإطار التنسيقي)، حين رمى الكرة في ملعبهم بشأن ما إذا كانوا قادرين على تشكيل حكومة أغلبية وطنية بدلاً منه، أم لا. ويعرف الصدر وخصومه، بالطبع، أن المعادلة فيها اختلال كبير. وقوام هذا الاختلال أنه في الوقت الذي يملك فيه الصدر أغلبية «الثلثين المعطلين» فإن «الإطار التنسيقي» الذي يضم القوى الشيعية التي سبق لها أن رفضت نتائج الانتخابات يملك «الثلث المعطل».
وكانت المعادلة السياسية في العراق تقوم على مبدأ التوافقية التي تعني توزيع المناصب بما فيها السيادية والوزارية، وسواها طبقاً لمبدأ المحاصصة. لكن الذي حصل بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، هو خروج زعيم التيار الصدري عما كان إجماعاً يحكم البيت الشيعي، حين أصر على تشكيل حكومة أغلبية وطنية ألحقها بشعاره المعروف «لا شرقية ولا غربية». إصرار الصدر على تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية يستلزم مشاركة قوى أخرى خارج البيت الشيعي الذي بات منقسماً بين طرفين: الكتلة الصدرية التي تملك 75 مقعداً في البرلمان العراقي مقابل قوى الإطار التنسيقي (تضم تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، ائتلاف النصر بزعامة حيدر العبادي، عطاء بزعامة فالح الفياض، السند الوطني بزعامة أحمد الأسدي)، التي تملك كلها نحو 81 مقعداً مع اختلاف كبير في حجومها داخل هذه التركيبة.
- فيتو... لا فيتو
ففي الوقت الذي حصل فيه ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، على 34 مقعداً وهو ما جعله الثاني في البيت الشيعي بعد الصدر بعد أن كان المالكي يملك 24 مقعداً في انتخابات 2018، فإن تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم الذي كان عدد مقاعده في الانتخابات الماضية 22 مقعداً لم يحصل في الانتخابات المبكرة سوى على مقعدين اثنين. وفي الوقت نفسه، فإن زعيم ائتلاف النصر حيدر العبادي الذي كان يملك أكثر من 12 مقعداً في الانتخابات السابقة، لم يحصد في الانتخابات الأخيرة إلا مقعداً واحداً. والأمر نفسه ينطبق على منظمة بدر التي يتزعمها هادي العامري ضمن تحالف الفتح الذي كان يملك 21 مقعداً، إذ لم يحصل إلا على 7 مقاعد.
فاجأت النتائج تماماً قادة هذه الأحزاب الشيعية العراقية، الأمر الذي جعلهم يرفضونها ويصفونها بأنها مزورة. وبرغم أنهم قدموا عدة طعون إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ومن ثم إلى المحكمة الاتحادية العليا بشأن ذلك، فإن النتائج جاءت مطابقة للنتائج المعلنة في البداية. كما أن المحكمة الاتحادية أقرت النتائج النهائية للانتخابات، مؤكدة بذلك أن التيار الصدري يتقدم وبفارق كبير عن أقرب منافسيه من الأحزاب والتيارات الشيعية.
وبعد إعلان النتائج، أعلن الصدر، المتصدر، برنامجه لتشكيل حكومة أغلبية وطنية خارج البيت الشيعي الذي أصبح بيتين: بيت يتزعمه مقتدى الصدر ويملك الأغلبية، وبيت بعدة رؤوس لم يعد عملياً يملك الأغلبية. وفي محاولة من الإطار التنسيقي لإجراء مفاوضات مع الصدر لتأمين الكتلة الأكبر وبقائها ضمن البيت الشيعي، فإن المفاوضات التي أجريت بين بغداد والحنانة بمدينة النجف، حيث مقر الصدر، لم تسفر عن نتيجة بسبب الفيتو الذي وضعه الصدر على نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون والخصم الرئيسي للصدر منذ ما سمي عملية «صولة الفرسان» التي قادها المالكي عام 2007 حين كان رئيساً للوزراء آنذاك ضد «جيش المهدي» الذي شكله الصدر بعد احتلال أميركا للعراق عام 2003 بهدف مقاومة الأميركيين. استمرت المفاوضات بين الطرفين واستمر فيتو الصدر على المالكي، حتى قام الصدر بنفسه برفع هذا الفيتو عبر اتصال هاتفي مفاجئ بالمالكي. وفي الوقت الذي بدا فيه أن هذا الاتصال الهاتفي مثّل بداية انفراجة داخل البيت الشيعي، فإن المفاجأة سرعان ما انتهت أو استوعبها المالكي حين عرض الصدر على المالكي القبول بابن عمه جعفر الصدر (سفير العراق الحالي لدى المملكة المتحدة) مرشحه لرئاسة الوزراء طالباً من خصومه في البيت الشيعي قبول هذا الترشيح.
- إشكالية الكتلة الأكبر
لا أحد من الشيعة يرفض من حيث المبدأ مرشحاً مثل جعفر محمد باقر الصدر لترؤس الحكومة. فالصدر الابن هو في النهاية نجل أحد أكبر مراجع الشيعة ومفكريهم في القرن العشرين، فضلاً عن كونه المؤسس والمرجع الأول لحزب الدعوة. لكنه في ظل بناء نمط جديد من التحالفات، فإن المشكلة التي واجهت الجميع هي الكتلة الأكثر عدداً التي تملك حق تكليف رئيس وزراء لتشكيل الحكومة. وطبقاً لما تسرب من معلومات حول المكالمة الهاتفية بين الصدر والمالكي، أبلغ الأخير الصدر بأنه لا يوجد اعتراض من حيث المبدأ على شخصية جعفر الصدر، لكن السؤال يتعلق بكيف يمكن تقديمه لرئاسة الوزراء طالما أن الأمر مرهون بالكتلة الأكبر التي تقدمه. وهنا تساءل المالكي: هل يقدم جعفر الصدر من قبل كتلة شيعية أكبر تمثل التيار الصدري والإطار التنسيقي؟ أم يقدم من قبل كتلة الصدر التي تضم تحالف السيادة السنّي بزعامة محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني؟ عند هذا الحد، انتهت المكالمة الهاتفية وعادت الأمور بين التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى المربع الأول. فالصدر بقي مصراً على أن تقدم كتلته (تحالف إنقاذ وطن) المكلف بتشكيل الحكومة، بينما رأى الإطار التنسيقي أنه في حال تم اللجوء إلى هذا الخيار فإن المكون الشيعي الذي يملك أغلبية السكان والبرلمان سيتحول إلى أقلية للمرة الأولى منذ عام 2003.
- عقدة الرئيس
طوال الدورات البرلمانية الأربع الماضية، لم يكن منصب رئيس الجمهورية عقدة بحد ذاته، إذ إن المناصب السيادية العليا (الرئاسات الثلاث) توزع عرفاً على المكونات (رئاسة الجمهورية للكرد، رئاسة البرلمان للعرب السنة، رئاسة الوزراء للشيعة). وطالما أن الحزبين الكرديين الرئيسيين في إقليم كردستان (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل طالباني) كانا متفقين على تقسيم المناصب بينهما بين بغداد وأربيل، فإنه لم تكن هناك مشكلة في منصب رئيس الجمهورية. حتى عندما حصلت المشكلة المعروفة بين الحزبين عام 2018 ودخلا البرلمان بمرشحين اثنين، فإن الفضاء الوطني داخل البرلمان هو الذي حسم الموقف حين تم انتخاب الرئيس الحالي برهم صالح بأغلبية كبيرة ضد خصمه مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني فؤاد حسين وزير الخارجية الحالي.
وتكررت مشكلة الحزبين الآن، ولكن في ظل ظروف مختلفة قوامها تغيير نمط التحالفات. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني انضم إلى التحالف الثلاثي بزعامة مقتدى الصدر. كما انضم إلى هذا التحالف تحالف السيادة السني. وطالما أن منصب رئيس الجمهورية، طبقاً للدستور العراقي، يحتاج أغلبية الثلثين الذي تم تكريسه عبر التفسير الذي قدمته المحكمة الاتحادية العليا التي اشترطت أن تكون أغلبية الثلثين قائمة عبر كلتا الجولتين، فإن منصب رئيس الجمهورية تحوّل إلى العقدة الكبرى الآن بسبب النص الدستوري وتفسير الاتحادية. ففي هذه الحالة، فإن تحالف الصدر الثلاثي لا يملك أغلبية الثلثين اللازمة لانتخاب مرشحه لرئاسة الجمهورية وهو مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني ريبر أحمد. وريبر أحمد جاء ترشيحه من قبل الحزب الديمقراطي بعد إقصاء المرشح السابق وزير الخارجية الأسبق هوشيار زيباري من قبل المحكمة الاتحادية العليا. وقد حصلت إشكاليات تتعلق بفتح باب الترشح لمنصب رئيس الجمهورية بعد نهاية المهلة الدستورية للترشح، ذلك أن الديمقراطي الكردستاني، بعد إقصاء زيباري، كان يواجه خطر الحرمان من الترشح لهذا المنصب، وهو ما يعني فتح الطريق أمام مرشح الاتحاد الوطني الكردستاني الرئيس الحالي برهم صالح لمنصب رئيس الجمهورية. وقد قبلت المحكمة الاتحادية العليا الطعن الذي قدمه أحد نواب البرلمان العراقي بشأن عدم دستورية فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية للمرة الثانية بعد إقصاء المرشح السابق للحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري. وبينما بدا موقف الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني في غاية الصعوبة نظراً لغموض مصير مرشحه البديل ريبر أحمد البارزاني وزير داخلية إقليم كردستان، فقد اتخذت المحكمة الاتحادية قراراً بدا بمثابة حل وسط مثّل حبل إنقاذ للديمقراطي الكردستاني. فبعد أن اتخذت رئاسة البرلمان قراراً بفتح باب الترشيح لمدة ثلاثة أيام بهدف إتاحة الفرصة للديمقراطي الكردستاني ترشيح بديل لزيباري، فإن المحكمة الاتحادية التي طعنت بهذا القرار منحت في الوقت نفسه البرلمان، بالأغلبية البسيطة وليس نتيجة قرار من رئاسة البرلمان، الحق في إعادة فتح باب الترشيح لمرة واحدة وأخيرة. ونظراً لامتلاك كل من التحالفين («الثلاثي» و«الإطار التنسيقي») ما بات يسمى «الثلث المعطل»، فقد بدا من الصعوبة المضي ببقية الاستحقاقات الدستورية التي تتمثل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية ومن ثم تحديد ما هي الكتلة الأكبر التي ستختار مكلفاً بتشكيل الحكومة.
- انغلاق أم انسداد سياسي؟
في هذه الأثناء، زاد المشهد تعقيداً بعد إخفاق البرلمان في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وإخفاق الأكراد في الاتفاق على مرشح متفق عليه بينهم. في كل الأزمات السياسية السابقة، كانت الأطراف المتنازعة تخرج من عنق الزجاجة في الوقت بدل الضائع ونتيجة ضغط إقليمي في الغالب من إيران، وكان كل واحد منها يخرج وهو راضٍ بالغنيمة التي حصل عليها وبالحصص الوزارية التي نالها. لكن الأمر اختلف في هذه الانتخابات، حيث وصل المشهد السياسي إلى ما بات يصنف على أنه «انسداد سياسي» كامل.
حاول الزعيم الكردي مسعود بارزاني أن يفتح كوة في جدار الانغلاق السياسي حين أطلق مبادرة تهدف إلى إقناع الصدر برفع الفيتو عن المالكي، قبل اتصال الصدر بالمالكي فيما بعد. كان الهدف من مبادرة بارزاني التي لم يتعامل معها الصدر، برغم أن بارزاني حليفه، محاولة لحلحلة الأزمة بين التيار الصدر والإطار التنسيقي. وطبقاً لما بدا مشهداً جديداً في العملية السياسية في العراق بعد عام 2003، فإن المتغير الرئيسي هو أن الصدر دخل بنفسه وبكل ثقله بهدف تغيير المعادلات السياسية. وطبقاً لما أبلغ به «الشرق الأوسط» سياسي قريب من الكواليس، فإن الصدر ألغى دور «العراب» الذي كان يقوم في الماضي بترتيب الأمور، ومن ثم يتم التوافق بين الجميع بصرف النظر عما إذا كان هذا العرّاب خارجياً أم داخلياً، بحيث بات اليوم هو الذي يتصرف ويفاوض، بدليل مجيئه إلى بغداد أكثر من مرة واتصالاته الهاتفية من الأطراف السياسية المختلفة. ورداً على سؤال بشأن رفع فيتو الصدر عن المالكي، يقول هذا السياسي إن «هناك أموراً كثيرة حصلت خلال الفترة الأخيرة من بينها تراجع العلاقة بين الصدريين والحزب الديمقراطي الكردستاني، التي تكاد تكون وصلت إلى حافة حرجة، لا سيما بعد قرارات المحكمة الاتحادية وعدم اعتراف السيد بارزاني وحكومة الإقليم بقراراتها»، مضيفاً أن «الأمر نفسه انسحب على الموقف من تحالف السيادة، خصوصاً أن الصدر انزعج كثيراً من الصورة التي جمعت زعيمي تحالف السيادة الحلبوسي وخميس الخنجر مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بحضور مدير مخابراته». ويمضي المصدر السياسي بالقول إنه «بعد هذه الأمور، بالإضافة إلى تصاعد النقمة الشعبية بعد ارتفاع الأسعار وتأخير تشكيل الحكومة نتيجة للفشل في انتخاب رئيس للجمهورية، قرر الصدر قلب المعادلة على الجميع وإعادة بناء التحالفات».
مع ذلك، بقي الانسداد السياسي قائماً، لا سيما مع الفشل المستمر في انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وفي هذا السياق، أكد قيادي في «الإطار التنسيقي» لـ«الشرق الأوسط»، أن «مواقف الصدر لم تعد واضحة بالنسبة لهم قدر وضوحها بالنسبة لشركائه في التحالف الثلاثي»، مبيناً أنه «في الوقت الذي يحترم فيه الصدر تعهداته مع الأكراد والسنة إلى الحد الذي وصل فيه الأمر حد إعلان الدفاع عنهم بدعوى تعرضهم إلى تهديدات، فإنه اعتمد سياسة غير واضحة مع من يفترض أنهم الركن الآخر في البيت الشيعي حتى بافتراض وجود مشاكل داخل هذا البيت». وأضاف أن «الشروط التي طرحها الصدر لمفهوم الأغلبية الوطنية بدت موجهة ضد الأطراف الشيعية، وأولهم زعيم دولة القانون نوري المالكي، بينما لم يضع أي شرط لمشاركة الآخرين، لا سيما الأكراد والسنة بشأن ما يتبناه على صعيد حكومة الأغلبية الوطنية».
ويتضح مما يراه هذا القيادي في «الإطار التنسيقي» أن أزمة الثقة لا تزال عميقة بين الطرفين، حتى بعد اتصال الصدر بالمالكي. فالمعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» من أكثر من مصدر تفيد بأن «هناك انزعاجاً من وجود قادة سنّة ضمن اجتماع لبحث الأزمة داخل البيت الشيعي في حين لم يتدخل الشيعة في الحوارات بل والسجالات التي كانت تدور بين القادة السنّة والتي لم تحسم الإ خارج العراق، ومن قبل الرئيس التركي تحديداً». وترى مصادر مطلعة أن «الاجتماع كان منذ البداية غير محدد بمناقشة الأزمة داخل البيت الشيعي، خصوصاً بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، إنما كان بهدف مناقشة مفهوم حكومة الأغلبية الوطنية بين التحالف الثلاثي بحضور الصدر وتحالف السيادة بغياب الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي لا أحد يعرف لماذا لم تتم دعوة ممثل عنه لحضور هذا الاجتماع».

أحد مؤيدي مقتدى الصدر في مدينة الصدر شرق بغداد (أ.ف.ب)

- الصواريخ على خط الأزمة
> على الرغم من الجهود التي حاول القيام بها قائد «فيلق القدس» بـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قآني، على صعيد إمكانية حلحلة الأزمة داخل البيت الشيعي، حتى لو أدى ذلك إلى الضغط على حلفاء الصدر من الأكراد والسنة، فمن الواضح أن تلك الجهود باءت بالفشل. وفي هذه الأثناء، دخلت الصواريخ على خط الأزمة من أوسع أبوابها، عندما قصفت إيران ما قالت إنه موقع لـ«الموساد» الإسرائيلي في أربيل. وقد بلغ تبادل الأدوار بين إيران وأذرعها في العراق أوجه مؤخراً. فإيران «الحرس الثوري» أعلنت ضرب أربيل بـ12 صاروخاً باليستياً بدعوى وجود مقر للاستخبارات الإسرائيلية هناك. وبينما أعلنت إيران أنها يمكن أن تواصل قصف مواقع جديدة في إقليم كردستان تنطلق منها هجمات تستهدف إيران، فإن فصيلاً مجهولاً لم يعلن عن نفسه كالعادة أمطر قاعدة بلد الجوية بأربعة صواريخ كاتيوشا، بحجة وجود جنود أميركيين داخل هذه القاعدة التي تضم طائرات «إف 16» حصل عليها العراق من الولايات المتحدة.
لم تغيّر الصواريخ في المعادلة كثيراً، كما أنها لم تجعل الصدر يعيد حساباته. لكن القوى السياسية العراقية أدركت مجتمعة، كما يبدو، أنها وصلت إلى طريق مسدودة بشأن إمكانية التوصل إلى حل لأزمة انتخاب رئيس الجمهورية. ولم يعد أمام الصدر سوى أن يعيد رمي الكرة في مرمى خصومه في البيت الشيعي، حين منحهم فرصة تشكيل الحكومة خلال فترة أربعين يوماً تبدأ من اليوم الأول من شهر رمضان وتنتهي في التاسع من شوال، طالما هم يملكون الثلث بينما هو يملك الثلثين. وبين الثلث والثلثين تبقى الأنظار متجهة الآن نحو ما يمكن أن تقوله المحكمة الاتحادية العليا بعد تجاوز كل المدد الدستورية التي منحتها لانتخاب رئيس الجمهورية.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».