منذ الأزمة الماليّة العالميّة نهاية العقد الماضي والحديث عن إخفاقات الليبراليّة لا يكاد يتوقف، وتقاطر كتّاب من كل الاتجاهات يميناً ويساراً لتأبين المشروع الليبرالي ووصف توحّش تطبيقاته وخواء الديمقراطيّات والتحاق الطبقات المتلبرلة بمشاريع تحركها من وراء ستر آيديولوجيّات محافظة متطرفة. وكان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين قد أعلن في وقت ما «أن الديمقراطية الليبرالية عفا عليها الزمن». فرنسيس فوكوياما، الذي صنع لذاته سمعة عالميّة عندما نشر مقالاً صحافيّاً عام 1989 بعنوان «نهاية التاريخ؟» – نشر لاحقاً (1992) في كتاب معروف أزيلت من عنوانه علامة السؤال بعد نهاية التاريخ وأضيفت إليه عبارة (والإنسان الأخير) - ذهب فيه إلى الادعاء بأن انهيار الشيوعيّة السوفياتيّة وتفكك حلف وارسو أظهرا الديمقراطية الليبرالية باعتبارها «منتهى التطوّر الآيديولوجي للبشرية» وتصبح عالميّة ونهائيّة باطراد، كان شاهداً على سلسلة من الأحداث مثل هجوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والحروب على أفغانستان والعراق، ولاحقاً الأزمة المالية لعام 2008 التي أثرت سلباً على ثقة الليبرالية بنفسها، وحقق الشعبويون اليمينيون والتقدميون اليساريون نجاحات كبيرة في السياسة الغربية على حساب المركز الليبرالي بما في ذلك الولايات المتحدة بعدما تولى دونالد ترمب السلطة هناك، ورفض بريطانيا لليبرالية على النّمط الأوروبي لمصلحة ليبراليّة انعزاليّة محافظة سياسياً، وحتى مع استمرار تمسّك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالإطار الشكليّ على الأقلّ للديمقراطية الليبرالية، فإن المستفيدين منه كنظام سياسيّ اقتصادي يشعرون بالحرج الشديد بعدما لم يعد ممكناً المجادلة بشأن حقيقة توسع الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وفشله في التعاطي مع الكساد الكبير الذي رافق جائحة «كوفيد - 19» سوى عبر طبع مزيد من العملة. وقد أقدم مثقفون عديدون على التنديد بفكرة «نهاية التاريخ» المهلهلة باعتبارها ذروة الغطرسة الهيغلية (نسبة إلى هيغل) المنحى في النظر إلى العالم، ورأوا في صاحبها مؤمناً ساذجاً بحتمية فكرة التقدم الآتي من الغرب، ومصاباً بعمى اختياريّ عن جرائم الديمقراطيات الليبرالية. لكن كتابه الجديد «الليبراليّة والساخطون عليها»* يظهر أن الرّجل وإن أظهر بعض التواضع معترفاً بـ«أن الليبرالية من الجليّ كانت في تراجع خلال السنوات الأخيرة»، فإنّه لم يفقد إيمانه بعد، إذ يتصدى فيه للناقدين، مدعياً بأن الليبرالية لا تزال سليمة وجذابة حتى بمواجهة أنظمة منافسة قد تلوح في الأفق، ومؤكداً على كون أزمة الديمقراطيات الليبرالية متأتية أساساً من تحديّات داخليّة، وبشكل رئيسيّ من المعارضين داخل النّظام الدّيمقراطي.
لكن مرافعة فوكوياما في هذا الكتاب القصير (173 صفحة) للدّفاع عن الليبراليّة تعاني من صعوبات موضوعيّة تتعلق بواقع الديمقراطيّات الليبرالية الغربيّة اليوم، وفكريّة أيضاً عبر التعسّف في ابتداع المبررات لإخفاقاتها البارزة. ولعل الصعوبة الأولى ترتبط بنقطة الانطلاق حيث لا يسهل إطلاقاً تعريف الليبراليّة بشكل محدد، وأصبحت الكلمة تعني أشياء مختلفة للتيارات السياسيّة والفكريّة المختلفة. ويقرر فوكوياما بأنها مفهوم أقرب ما يكون إلى الليبراليّة الكلاسيكيّة كنظام اجتماعيّ يقوم على أساس مبدأ المساواة في الحقوق الفردية وحكم القانون وحريّات الأفراد وإدارة الاختلاف سلمياً في المجتمعات التعددية، وإن لم ينكر أن هنالك إمكانيّة داخل ذلك النظام لتطوّر أوجه من عدم المساواة الواضحة إلى مستوى ما في كل من تلك المجالات. ويقدّم فوكوياما تطبيقات تلك المبادئ في سياسة تقوم على التسامح المتجذر في احترام الاستقلال الذاتي الفردي الذي تكفله حكومة محدودة وقانونية. ومن العناصر الأخرى للنظام العتيد الملكية الخاصة والأسواق الحرة، التي - عند فوكوياما دائماً - تضمن ازدهاراً واسعاً، لكنّه لا يشير فيما إذا كان يتعيّن لهذه العناصر أن تتراصف معاً أم أن المسألة انتقائيّة، كما لا يوضّح كيف تَضْمَنُ السّوق الحرّة ازدهارا واسعاً وكل ما شهده العالم إلى الآن خلال القرن الأخير كان سلسلة من الأزمات الرأسماليّة المتعاقبة من كساد نهاية عشرينات القرن الماضي إلى الحلقة الحاليّة بداية من 2008. وبدلاً من الإجابة عن هذه التساؤلات المحوريّة يسوق للقراء شريعة مختلطة لا داعي لها من أفكار هوبز ولوك وروسو وجيفرسون وكانط، كما واضعي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان (1789)، ليذكرنا بأن الليبرالية والديمقراطية قد لا تجتمعان دائماً، فهناك ديمقراطيات غير ليبرالية (الهند مثلاً) وليبراليات غير ديمقراطيّة (سنغافورة مثلاً)، وهو أمر لا يخدم قضيّة الليبراليّة بأي شكل، ويجعل منها رداء فضفاضاً يرتديه حلفاء الغرب على أمزجتهم الخاصّة.
وبعد متاهة من التعريفات والتجريدات، ينتقل فوكوياما إلى هدفه الأساسي: مواجهة الساخطين على الليبرالية الكلاسيكية: اقتصاديو السوق الحرة المتطرفة على اليمين والأخطر منهم النقاد الاجتماعيون والثقافيون على اليسار، محاولاً التصدي للإخفاق الذي ألصق بالليبراليّة حول التفاوتات الاقتصادية التي نمت في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على مدى السنوات الـ40 الماضية. ويعزو فوكوياما ذلك إلى النظريّة «النيوليبرالية» في الاقتصاد، التي يراها تشويهاً لليبرالية الكلاسيكيّة وتجديفاً عليها، وهي التي عنده تتمتع بوظيفة اجتماعيّة أكبر كثيراً من مجرد تعظيم الكفاءة الاقتصادية لرأس المال الحر. وسخر بعض النقاد من تنصّل فوكوياما من فظائع النيوليبراليّة، وهو الآتي من قلب المحافظين الجدد والمستشار لإدارة ريغان، حتى لكأنه بدا لوهلة في بعض مقاطع الكتاب كمنظّر ديمقراطي اجتماعي من الدّول الإسكندنافيّة.
ومع ذلك، احتفظ فوكوياما بمعظم دفاعه للتصدي ليسار ما بعد الحداثة، لا سيّما أولئك الذين شقوا سياسات التسامح مع التعدد إلى تخندقات جندريّة وجنسيّة وعرقيّة ودينيّة تسببت في شق المجتمع، بل من توسيعه أفقياً. ويلقي باللوم تحديداً على اثنين من (المخربين) الفرنسيين المشهورين، ميشال فوكو وجاك دريدا، اللذين تسببا فوق ذلك بـ«أزمة معرفية» من عدم الثقة في السلطات العلمية والواقع الموثق، الأمر الذي وفّر المادة الخام لتشييد ما يسميه فوكوياما أوهام «اليمين القومي الشعبوي» المناهضة للسلطات الليبراليّة.
تنتهي المرافعة الفوكوياميّة إلى تقديم قائمة قصيرة من المهام الحميدة لدعم الوسط الليبرالي: حكومة فعالة غير شخصية، تفويض ديمقراطيّ بالسلطة، مكافحة الاحتكار، خصوصاً بالنسبة لوسائل الإعلام الجماهيري الكبيرة ووطنية ضد المخطئ، لا الآخر. ورسالة الكتاب الأساسية هي أن الديمقراطية الليبرالية تظل أفضل طريقة لترتيب أوضاع المجتمع، ربما مع إيلاء مزيد من الاهتمام لتحسين بعض الجوانب السلبية للسياسات الاقتصادية الليبرالية وتبنّي مزيد من الاحترام للآراء وأشكال الحياة التقليدية. وفوكوياما في ذلك لا يختلف عن المثقفين الليبراليين المصابين عامّة بعقدة التفوق، والذين يصرّون على أن التاريخ اختارهم ليسير إلى جانبهم وحدهم، مبشراً بالحريات الفردية المتسعة ومذيباً للقيود الخانقة للاعتقادات الدينية والفخر القوميّ والولاء القبلي وحتى الالتزام الأسري. فوكويوما، ليس في النهاية إلا نتاج عصر الغطرسة الليبراليّة لحظة انقضاء الحرب الباردة، ويبدو في كتابه الأخير هذا أنّه لن يبرأ من نوستالجيا لحظة الانتصار تلك.
إن متاعب الليبرالية اجتماعية وبنيوية، وأكثر بكثير من أن تكون مجرّد مناورات فكرية وتلاعباً بالتسميات والمصطلحات. ولا شكّ أنّ تصحيح إخفاقاتها، ناهيك بتطويرها كمشروع سياسيّ تقدميّ ملهم، سوف يتطلب أكثر من مجرد التحليلات الذاتية التي يمكن لفوكويوما وغيره من نجوم الأكاديميا امتلاك رفاهيّة كتابتها، فيما يدفع الملايين من الناس العاديين - الساخطين الحقيقيّين على الليبرالية - ثمن أخطائهم الفادحة وسوء تأويلهم لمالآت الأمور وتقلبات الأزمنة.