«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (1): مهرجان «كان» ينطلق اليوم واعدًا بدورة حافلة

مخرجون مرموقون وجدوا أنفسهم خارج أسواره

لقطة من «ماد ماكس: طريق الغضب»: فيلم لكل الأذواق
لقطة من «ماد ماكس: طريق الغضب»: فيلم لكل الأذواق
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (1): مهرجان «كان» ينطلق اليوم واعدًا بدورة حافلة

لقطة من «ماد ماكس: طريق الغضب»: فيلم لكل الأذواق
لقطة من «ماد ماكس: طريق الغضب»: فيلم لكل الأذواق

لكل مهرجان، مهما علا سقفه أو انخفض، خصائصه المميّزة. ملامحه الخاصة التي لا تشبه ملامح أي مهرجان آخر. مستواه. طريقة تعامله. نظمه. تفضيلاته من الأفلام والأشخاص. هناك مهرجانات تتحوّل خلال إقامتها لعواصم فنية وإعلامية كبيرة، وأخرى تفضل أن تبقى شبه مندثرة لا تحفل إلا بالحضور الآتي من أحياء المدينة ذاتها. ‬
وإذ تنطلق الدورة الـ68 هذا المساء لتستمر حتى الرابع والعشرين من هذا الشهر تبذل كل الاستعدادات الممكنة لدفع هذا الحدث أميالاً إلى الأمام على صعيده كعيد سينمائي كبير، بل والأكبر حول العالم، وعلى صعيد ترجمة حب فرنسا للسينما ورعايتها لها على نحو لا يحتاج إلى براهين بل يكفي النظر إلى كل تلك السنوات السابقة من عمر هذا المهرجان.
لكن مهرجان «كان» لا يلغي، ولا يريد أن يلغي، المهرجانات الأخرى. ليس هذا همّه مطلقًا ولا حتى تحويلها إلى هوامش. طبعًا يسعى للبقاء على القمّة بكل ما أوتي من عزم وقدرة، لكنه يعلم أن هذا سيبقى دائمًا مرتبطًا بمزاولة «الفورميلا» ذاتها: أفلام لجميع الأذواق ولمخرجين معروفين أو بمواضيع تثير الاهتمام إعلاميا والقدرة على استقبال عشرات ألوف السينمائيين والإعلاميين والزبائن الآتين من كل مكان من العالم ليحضروا هذا الحدث الكبير.

* ثقة في مكانها
الوصول إلى القمّة بين المهرجانات، بل بين كل النشاطات، ليس سهلاً، لكن البقاء على سدّته أصعب. وفي عالمنا اليوم تتعدد المهرجانات على كثرتها (نحو 4 آلاف مهرجان وحدث أو تظاهرة حول العالم).
هناك مهرجانات صاخبة ومكلفة وأحيانا مبذرة، وأخرى تناضل في سبيل أن تضيف يومًا واحدًا إلى أيامها القليلة، هذا إذا ما أسعفها الوضع وأقامت دورتها الجديدة. ثم هناك تلك المهرجانات التي هي «كومبينات» بعضها لا يعيش لأكثر من سنة أو سنتين ثم تنضوي.
من بين المهرجانات التي تتحوّل إلى عواصم، يأتي «كان» في المقدّمة. وعلى السطح، وقبل بدء المهرجان يوم غد الأربعاء، تبدو الدورة الثامنة والستين كما لو أنها خلاصة كل الدورات السابقة: متقنة، جميلة، مثيرة، مليئة بالأفلام النادرة والمخرجين الفنانين والنجوم اللامعة.
لكن أليست كل دورة من دورات هذا المهرجان العتيد تبدو كذلك؟ ما الذي سيجعل من هذه الدورة أمرًا مختلفًا؟
هناك صراع بين منطقين يسودان المهرجان الفرنسي تبعًا لما تذكره بعض المواقع الأميركية نقلاً عن أخرى فرنسية. الأول مفاده أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، ولا يوجد أفضل من «كان» على أي حال، فلماذا محاولة إصلاح ما هو خال من العطل؟ الثاني هو أن التطوير أمر مفروغ منه، إذ إن على المهرجان أن يواصل العمل على التقدم أكثر وأكثر. العاملون في المهرجان منذ سنين طويلة لديهم يقين بأن المهرجان هو أهم مهرجان سينمائي في العالم، وهو ليس فقط يقينهم بل يقين الكثير من السينمائيين والإعلاميين حول العالم وإلا كيف يمكن تفسير الإقبال الكبير على حضوره عامًا بعد عام على الرغم من الوسائل المستحدثة اليوم حيث يمكن، مبدئيًا، الاستغناء عن حضور هذا الحدث عبر متابعته في المواقع الكثيرة وعلى نحو يومي، بل على نحو متواصل في اليوم الواحد.
قبل سنوات حصل إشكال بين أحد الإعلاميين العرب وبين المهرجان تطوّر إلى مشادة سمع فيها الإعلامي عبارة أرادها الموظّف باتة تقفل باب النقاش إذ قال «هذا هو كان» وبذلك عنى أن يوافق الطرف الآخر على ما يفرضه المهرجان من شروط أن لا يوافق، لأن «كان» بمنأى عن التنازل أو المساومة بسبب مكانته الأولى. هذه الثقة الزائدة مستمدة من عوامل مختلفة. فعلى الرغم من أهمية مهرجاني برلين وفينسيا المحيطين به كالكمّاشة، وعلى الرغم من غلاء المدينة إلى درجة مخيفة، ثم على الرغم من أن أفلام «كان» يمكن لاحقًا التقاطها في مهرجانات فيينا ولندن وتورنتو من بين أخرى كثيرة أو انتظار عروضها في أميركا وأوروبا تجاريًا، إلا أنه ما زال المهرجان الأول من دون منازع. الركن من العالم الذي سيحط فيه الأفلام وصانعوها ومشاهدوها والإعلاميون والنقاد من كل حدب وصوب لاهثين لإنجاز نجاحات على كل المستويات المطروحة. لاثني عشر يومًا ستسطو أخبار «كان» على عناوين الصحف وستحتل الصفحات بأكثر من خمسين لغة، وستتنافس الأفلام، كل منها يريد أن يأكل من الكعكة الكبرى ما يستطيع لأن مستقبله مرهون بحضوره منافسًا أو حتى خارج مجال المنافسة في العروض الجانبية أو في سوق الأفلام.
على ذلك، فإن ما يبقى ماثلاً وجوهريًا عامًا بعد عام هو أن المهرجان قد يكون مهمّا وقوي الحضور لكن الأفلام المختارة هي التي لها اليد الأولى في تحديد كم نجحت الدورة أو لم تنجح وإذا ما كان المهرجان يسير قدمًا أو هو ثابت في مكانه.
في حديثه للصحافة خصّ رئيس المهرجان تييري فريمو الانتقادات الموجهة إلى المهرجان على امتداد العام الفاصل بين الدورتين الأخيرة والحالية والتي مفادها أن المهرجان يعتمد على السينمائيين أنفسهم الذين يعودون إليه كل سنة، وأن هؤلاء باتوا زبائن دائمين ما يمنع المسابقة من احتواء مواهب جديدة.

* المهمة الصعبة
الحقيقة هي أنه بالطبع هناك زبائن للمهرجان الأول في العالم. مخرجون متميّزون بأعمالهم الفنية ذات الرؤيا المهمّة الذين يفضلون «كان» على سواه. من هؤلاء التركي نوري بيلج شيلان والتايلندي هاو هسياو - سيين والإيطالي ناني موريتي والصيني جيا جانكي والإسباني بدرو ألمادوفار والأميركيان غس فان سانت وجيم يارموش، وسواهم الكثيرون، لكن هذا لا يمكن تغييره أولاً لمكانة هذه الأسماء وصعوبة استردادها إذا ما قرروا التوجه إلى مهرجانات أخرى، وثانيا لأن حضور هؤلاء إلى المهرجان يعود إلى قراراتهم وقرار شركات الإنتاج أكثر مما يعود إلى رغبة «كان» بهم.
رغم أن هذا أمر مفهوم ومعذور فإن له نتيجة سلبية واحدة هي أن وجود هؤلاء يحد من رغبة المهرجان في جذب أسماء جديدة لكي تؤلّف العدد الغالب من الأفلام المشتركة. هذه مشكلة لا يعاني منها مهرجان برلين أو مهرجان فينيسيا ولا أي مهرجان آخر مما يتيح للمرء الوقوف عند احتمال اكتشافات سينمائية غير متوقعة ومشاهدة أفلام تسلّط عليها الأضواء لذاتها وليس لمن يقف بالضرورة خلفها.
المهمّة الصعبة هذا العام، أكثر من الأعوام السابقة هي أن عدد المخرجين - الزبائن المميزين أو «الكبار» الذين طمحوا للاشتراك في مسابقة «كان» أكثر مما كان عليه في الدورات السابقة مما اضطر الإدارة إلى حسم موضوعها على نحو لا ندري إذا ما أصاب أو أخفق إلا من بعد مشاهدة المنتخب من هذه الأفلام. بكلمات أخرى، قد يكون الفيلم المرفوض للبريطاني ستيفن فريرز «أيقونة» أفضل من الفيلم الفرنسي «مرغريت وجوليان» لفاليزي دونزيللي، أو ربما كان فيلم المخرج الإيطالي ماركو بيلوكيو أفضل من أي من الأفلام الإيطالية المنتخبة للمسابقة، ومنها، كمثال فقط، «شباب» لباولو سورنتينو. لا أحد يدري. حتى الذين انتخبوا الأفلام المتنافسة هذا العام قد لا يدرون واضعين في عين الاعتبار مقاييس تخدم المهرجان أولاً وكل شيء آخر ثانيًا.
لكن ما هو واضح، أن كلام الرئيس فريمو الذي رد فيه على اتهام المهرجان بجلب المخرجين ذاتهم في كل مرّة أريد له دحض هذا الانتقاد بالفعل أيضًا. هذا ما يفسر وجود أسماء جديدة (أو شبه جديدة) في خانة المسابقة هذا العام من بينها لازلو نيميش مخرج «إبن شاوول (الذي كان مساعدًا للمخرج المجري المعتزل بيلا تار) والفرنسي ستيفان برايز، مخرج «رجل بسيط» والكندي دنيس فيلينيوف صاحب «سيكاريو» والمخرجة الفرنسية مايو (أيار)، التي تقدم فيلمها «ملكي» Mon Roi.
هذا يفسر سبب وجود عدد كبير من المخرجين الذين أنهوا أعمالهم وقدّموها إلى «كان» ليجدوا أنفسهم خارج أسواره: من بينهم الإيطالي ماركو بيلوكيو والفرنسي أرنو دسبليشان والبريطانيان ترنس ديفيز وستيفن فريرز والإسرائيلي أموس غيتاي وحتى الفرنسي جان - بول رابنيو الذي طالما حضر بأفلام من بطولة كاترين دينوف أو سواها. أيضا من بين الذين وجدوا أنفسهم خارج الحفل، الروسي ألكسندر زاخاروف والجزائري مرزاق علواش والبولندي ييرزي سكوليموفسكي واليابانية ناوومي كاواس.
ناوومي كاواس حالة نموذجية لوضع «كاني» آخر قائم بحد ذاته: في عام 1997 فازت كاواسي بالكاميرا الذهبية المهداة إلى المخرج الأول. بعد ذلك وجدنا المهرجان يعرض لها كل فيلم جديد تنجزه استحق أو (غالبًا) لم يستحق مثل «جمّد الماء» الذي تم تقديمه في العام الماضي. هذا العام قررت إدارة المهرجان، أخيرًا، أن تحذف فيلمها الجديد «معجون الفاصوليا الحلو» متخلّصة من تقليدها الدائم ولأجل أن تحد من ذلك الصيت بأن المهرجان أصبح ناديًا خاصّا.

* هوليوود والعرب
الحضور الأميركي لا يزال على حاله في أكثر من ناحية. هوليوود تعرف أن «كان» هو أهم وأكبر مهرجانات العالم، لكنها لا تكترث كثيرًا لتقديم أفلامها الكبيرة فيه. ليس في المسابقة على أي حال. ذلك يعود لأسباب حقّة، من وجهة نظرها على الأقل. أحد الأسباب هو أن الجائزة الذهبية الأولى (السعفة الذهبية) لا تفيد الفيلم الأميركي، لو فاز بها إلا إذا كان عملاً مستقلاً كأعمال غس فان سانت وجيم يارموش وجون سايليس وتود هاينز أو وس أندرسون. سبب آخر يعود إلى أنه في المرّات المحدودة التي شاركت فيها بأفلام ذات قيمة فنية عالية رأتها مناسبة لقيم الفيلم المختلف والذاتي فضّلت لجان التحكيم أكثر من مرّة منح الجائزة لأفلام «تستحق أن تفوز لكونها غير مدعومة» ولو لم تكن بمستوى الفيلم الأميركي المشارك. هذا حدث مع كلينت ايستوود أكثر من مرّة، آخرها وأفدحها عندما قدّم فيلمه الرائع «ميستيك ريفر» للمسابقة سنة 2003 ليفوز بالسعفة الذهبية سواه. صحيح أن الفائز كان فيلمًا أميركيًا آخر لكنه بالتأكيد لم يكن أفضل منه (الفيلم المعني هو «فيل» لغس فان سانت).
الذي تستطيع هوليوود فعله هو أن تبعث بأفلام تقليدية لكن كبيرة كجزء من حملة دعائية مسبقة، بأيام أو بأسابيع قليلة، توزيع الفيلم في الصالات الأميركية والعالمية على حد سواء. بالنسبة إلى «كان»، لا يمانع في هذا الفعل الترويجي معتبرًا أن العرض الخاص لفيلم كهذا (خارج المسابقة بالطبع) يفيد لعبة التوازن التي بات ينشدها: الأفلام المنتمية إلى سينما المؤلّف داخل المسابقة، تلك الأخرى خارجها إلا إذا انتمت إلى أقسام متسابقة أخرى مثل «مسابقة أسبوع النقاد» أو «مسابقة نظرة ما».
هذا العام هناك «ماد ماكس: طريق الغضب»، الذي موّلته وورنر، والذي يخدم تمامًا المطلوب لهوليوود وللمهرجان معًا. بالنسبة للسينما العربية فإن المهرجان لا يأتي بجديد أيضا حيال موقفه منها، ولا يبدو أن لديها جديدا على موقفها هي منه. بالنسبة إليها، تقدّم السينما العربية عددًا ملحوظًا من الأفلام الجيّدة كل سنة تذهب دائمًا إلى واحد من المهرجانات العربية الرائدة (أبوظبي أو دبي أو القاهرة) ولاحقًا إلى المهرجانات الإقليمية أو حتى الدولية الأصغر شأنًا من مهرجانات الصف الأول (كان، برلين، فنيسيا) أو الثاني (لوكارنو، كارلوفي فاري، سان سابستيان). هذا جل ما تستطيع فعله غالبًا ولذلك سبب مهم: الطريقة التي يعالج بها المخرجون الجيّدون مواضيعهم تلتزم بشفرات يتم فيها إبراز المضمون على اللغة الإبداعية للصورة. وحتى عندما تكون تلك اللغة متوفّرة (كما حال أفلام المغربي هشام لعسري مثلاً) فإنها تبقى مشغولة بحد أدنى من السعي لكسر الحاجز الذي لو فعلت لوصلت إلى جمهور أبعد.

* شأن عربي
لو لاحظنا الأفلام العربية التي دخلت سباقات «كان» في العقود الخالية لوجدنا معظمها مصنوع بحياكة فنية ملائمة لكيف سيتقبّل الغربي الفيلم ومضمونه. هذا يتضح بالنظر لأفلام المخرج الراحل يوسف شاهين أو أفلام المخرج الجزائري محمد لخضر حامينا. فيلم من إخراج محمد خان أو أحمد عبد الله أو خيري بشارة سوف لن يصل إلى شاشة «كان» الرسمية حتى لو كان جيّدًا جدًا.
هنا يكمن الجانب الآخر من هذا التباعد القائم، فكما أن المخرج العربي الجاد لديه حدود إنتاجية وعناصر فنية لو عمد إليها لاغترب عن واقعه وعالمه، فإن المهرجان الفرنسي، والمهرجانات الكبرى الأخرى، ترفع سقف قبول الأفلام إلى حيث لا يستطيع الفيلم العربي أن يشارك.
ثم هناك التحبيذ للزبون أو ابنه: يسري نصر الله مقبول، خيري بشارة لا يُقبل. فيلم لإيليا سليمان يدخل المسابقة لكنّ فيلما لميشيل خليفي يحتاج إلى واسطة. هذا من دون أن ندخل هنا في مفاضلة فنية بين هذا الفيلم أو ذاك، فالمشترك في المسابقة مخرج مرموق لكن كذلك الذي لا يستطيع النفاذ إليها. فيلم مرزاق علواش الأخير «مدام كوراج» كان من بين الأفلام التي تقدّمت ولم يسمح لها بإنجاز الخطوة، لكن كذلك حال أفلام أخرى مثل «جموع سوداء» لسكوت كوبر مع جوني دب وداكوتا جونسون وبنديكت كمبرباتش و«جين لديها مسدس» لكيفن أوكونور بطولة إيوان مكروغر ونتالي بورتمن التي انتخب فيلمها «حكاية حب وظلام» في عروض خارج المسابقة الرسمية. والأمر نفسه يخص فيلم ألكسندر سوخوروف «احتلال» الذي يتحدّث عن أحوال فرنسا تحت وقع الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. هل يمكن أن يكون المخرج الذي يحفل تاريخه بالجوائز الدولية صنع فيلمًا لا يستحق الاشتراك في «كان» الذي سبق وأن عرض له أفلاما سابقة أو أن زوخوروف سقط ضحية الفرز الجديد بالإقلال من المخرجين - الزبائن بصرف النظر عن قيمة إنجازاتهم؟
كما هو الحال دائمًا، خسارة مهرجان هي ربح لمهرجان آخر ومهرجان فنيسيا يرقب ويترقب وليس من المفاجئ أن نجد بضعة أفلام لم تدخل مسابقة «كان» لكنها ستدخل مسابقة المهرجان الإيطالي المنافس.
على صعيد آخر، هناك ثلاثة أسماء عربية تشترك في لجنة تحكيم قسم «نظرة ما». اللجنة تحت رئاسة الممثلة إيزابيللا روسيليني وهي محاطة بمخرج يوناني هو بانوس كوتراس، وبممثل فرنسي هو طاهر رحيم (وهو من أصل عربي) ومن المخرجتين السعودية هيفاء المنصور واللبنانية نادين لبكي.

** بالأرقام
* المرّة الأولى التي يتم اختيار رئيسين معًا لقيادة لجنة التحكيم وهما المخرجان الشقيقان جووَل وإيتان كووَن.
* «رأس مرفوعة» هو الفيلم الذي يفتتح دورة هذا العام، وهو من إخراج إيمانويل بركو. هذه هي المرّة الثانية التي يفتتح فيها مهرجان «كان» دورة له بفيلم من إخراج امرأة. المرّة الأولى كانت سنة 1993 عندما قدّمت النيوزيلندية جين كامبيون فيلمها «البيانو».
* 17 مليون و500 ألف يورو قيمة الجواهر التي تمّت سرقتها في الأسبوع الماضي من متجر في وسط مدينة «كان».
* ميزانية هذه الدورة تبلغ 23 مليون دولار. يوفر دافعو الضرائب من فرنسيين ومقيمين نصفها ونصفها الآخر يأتي من مؤسسات حكومية.
* يبلغ طول البساط الأحمر 60 مترًا ويتم استبداله مرّتين في اليوم على الأقل.‬
* 83 عدد الأفلام التي سيتم عرضها في هذه الدورة من بينها 19 فيلمًا في المسابقة ‬
* 468 كاميرا أمنية موزّعة طوال الشارع الساحلي (لاكروازيت) والفنادق والصالات وباقي الأماكن التي تشهد نشاطات المهرجان كافة.
* 4500 هو عدد الصحافيين ورجال الإعلام الذين سيغطون المهرجان في دورته الحالية.
* 31.500‬ عدد من تم توزيع البطاقات عليهم (من غير الصحافيين) ويشمل ذلك كل أصحاب المهن السينمائية.
* 210 آلاف عدد سكان مدينة كان خلال المهرجان. يعود الرقم إلى طبيعته (نحو 70 ألف نسمة) بعد انتهاء المهرجان.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)