مسيرة الحكومات المغربية من مبارك البكاي إلى ابن كيران

كتاب مغربي عن 15 شخصية تولت منصب رئاسة الوزراء

مسيرة الحكومات المغربية من مبارك البكاي إلى ابن كيران
TT

مسيرة الحكومات المغربية من مبارك البكاي إلى ابن كيران

مسيرة الحكومات المغربية من مبارك البكاي إلى ابن كيران

للكاتب والصحافي المغربي مصطفى العراقي، صدر أخيرا عن مكتبة «مرس السلطان» بالدار البيضاء كتابه الجديد «من باحماد إلى ابن كيران: الصدر الأعظم قطيعة أم استمرارية؟»، وفيه يرسم الكاتب عددا من البورتريهات للشخصيات السياسية التي تولت عبر تاريخ المغرب الحديث مسؤولية منصب الوزارة الأولى سابقا، والتي تحولت بعد دستور 2011 إلى مؤسسة رئيس الحكومة.
يشار إلى أن عنوان «الصدر الأعظم» في التاريخ هو الجامع لسلطات متعددة، والماسك بزمام الأمور، و«العلبة السوداء» للسلطان.
لكن، هل هناك قطيعة أم استمرارية لمؤسسة الصدر الأعظم في حكومة ابن كيران؟ يرى المؤلف أنه ما زال هناك صراع مستمر بين قوى تعيد المغرب إلى الماضي بمختلف مرجعياته، وقوى تريد أن تبني مغربا متقدما حداثيا ومتطورا يقوم على دولة الحق والقانون. ويضيف «ما زالت بصمات الصدر الأعظم حاضرة في الممارسة السياسية في المغرب، وهي ليست فقط داخل المؤسسات الملكية، بل أيضا داخل مؤسسات دستورية أخرى بما فيها أحزاب سياسية»، مشيرا إلى أن فكر الصدر الأعظم ما زال جاثما كسلوك وممارسة سياسية.
وأبرز العراقي في كتابه أن البورتريهات التي تناول الحديث عنها هي 14 شخصية تحملت مسؤولية الوزارة الأولى بالمغرب (رئاسة الحكومة حاليا)، واقتسموا العقود الستة الماضية من تاريخ هذه المؤسسة بعد استقلال المملكة المغربية في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي، مشيرا إلى تفاوت مدد مسؤوليتهم وتنوع مشاربهم، وأن كل واحد منهم جاء إلى المنصب من مسار يختلف في ظروفه وسياقاته عن سابقه وعن لاحقه، مضيفا أن الشخصية الخامسة عشرة جرى تعيينها من طرف الملك محمد السادس عقب نتائج اقتراع 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، وعين أعضاء حكومتها يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) 2012.
كما أوضح العراقي في كتابه أن ثلاثا من هذه الشخصيات تقلدت المنصب ذاته في عهد الملك محمد الخامس الراحل في فبراير (شباط) 1961، وثماني منها تقلدت المنصب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، 1999، وأربعا منها تقلدت مناصبها في عهد الملك محمد السادس، وما زال رابعهم (عبد الإله ابن كيران) يمارس مهامه حاليا.
وذكر العرقي أن عبد الرحمن اليوسفي الذي عين في فبراير 1998 هو الوزير الأول الوحيد الذي تحمل هذه المسؤولية بين ملكين وعهدين: نهاية عهد الملك الحسن الثاني وبداية عهد محمد السادس، مدشنا بذلك مرحلة جديدة في تاريخ المغرب تعددت تسمياتها وتنوعت نعوتها.
ينقسم هذا الكتاب إلى جزءين؛ الأول يتناول مؤسسة الوزير الأول (رئيس الوزراء) من خلال الدساتير التي عرفها المغرب منذ 1962، كما يبحث هذا الجزء في العمق التاريخي لهذه المؤسسة الدستورية بالعودة إلى بعض أوجه «الصدر الأعظم» الذي كان بمثابة كبير وزراء السلطان، والمشرف على إدارة بعض شؤون السلطة المركزية وعلاقتها بممثليها في القبائل والمناطق أو بالدول الأجنبية، وكيف قلصت السلطات الاستعمارية من المجالات الإدارية والسياسية للصدر الأعظم، وللسلطان المغربي، ومنحتها لمقيمها العام.
أما الجزء الثاني من هذا الكتاب فهو محاولة رسم بورتريهات للشخصيات التي تحملت مسؤولية رئاسة الحكومة أو الوزارة الأولى منذ استقلال المغرب منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي إلى اليوم، من مبارك البكاي الهبيل إلى ابن كيران، والوقوف عند أبرز محطات حياة هذه الشخصيات الخمس عشرة، وما تميزت به المرحلة التي قضتها في المسؤولية، وما طبعها من تضاريس سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
ومن بين الأسئلة التي سعى العراقي إلى الإجابة عنها في كتابه: هل تخلص الوزير الأول رئيس الحكومة من صورة الصدر الأعظم، أم أن ثقل هذه الحمولة التاريخية ما زال جاثما على مجالات اختصاص رأس التشكيلة الحكومية؟.. وهل استطاع الحقل السياسي المغربي، في سيرورة دسترته وممارسته، تطوير هذه المؤسسة، أم أنه حافظ على الجوهر وأجرى فقط بعض إصلاحات الواجهة؟.. وهل هناك استمرار للصدر الأعظم أم قطيعة معه؟
ويقول المؤلف إنه تعرف عن قرب على ثلاث شخصيات من هؤلاء الذين تقلدوا منصب الوزير الأول؛ الأول هو عبد الله إبراهيم، الذي عرفه وهو طالب في كلية الحقوق بالدار البيضاء، حيث درس عنده مدة سنتين متتاليتين في شعبة العلوم السياسية، أما الثاني فهو عبد الرحمن اليوسفي، الذي عرفه وهو مناضل بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والثالث هو عباس الفاسي، الذي عرفه أثناء ممارسته الصحافة، وسافر معه وهو وزير ثم وزير أول، وحاوره في أحد البرامج التلفزيونية بالقناة الثانية.
وتجدر الإشارة إلى أنه فارق الحياة من بين الأربعة عشر وزيرا أول ثماني شخصيات، هم مبارك البكاي الهبيل، وأحمد بلافريج، وعبد الله إبراهيم، وأحمد باحنيني، ومحمد بنهيمة، والمعطي بوعبيد، وعز الدين العراقي، وعبد اللطيف الفيلالي. وأصغرهم سنا في تقلد هذا المنصب هو مبارك البكاي الهبيل، وكان عمره 48 سنة، أما أكبرهم سنا فهو عبد الرحمن اليوسفي الذي تبوأ المسؤولية وهو في سن الـ74.
وأفاد العراقي بأن كريم العمراني قضى في الوزارة الأولى ما يقارب 13 سنة موزعة على ست ولايات، أطولها الحكومة العاشرة التي قضى فيها سبع سنوات ونصف سنة، وهي أطول مدة يقضيها وزير أول على رأس الحكومة، وأقصر مدة كانت تلك التي قضاها أحمد بلافريج، سبعة أشهر و12 يوما فقط، مضيفا أن ثلاثا من هذه الشخصيات فقط أنيط بها المنصب استنادا إلى صناديق الاقتراع، وتصدر تشكيلاتهم السياسية التي قادوها المرتبة الأولى في نتائج الانتخابات، ويتعلق الأمر بعبد الرحمن اليوسفي، وعباس الفاسي، وعبد الإله ابن كيران، أما الباقون فجاءوا بإرادة من القصر.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.