الكاردينال «ريشيليو».. ونهاية الحرب الأهلية الفرنسية

الكاردينال «ريشيليو»
الكاردينال «ريشيليو»
TT

الكاردينال «ريشيليو».. ونهاية الحرب الأهلية الفرنسية

الكاردينال «ريشيليو»
الكاردينال «ريشيليو»

قلما يجود التاريخ السياسي بشخصية مثل شخصية «الكاردينال ريشيليو» الذي كان مما لا شك فيه من أعظم الشخصيات السياسية التي عرفتها فرنسا في التاريخ الحديث، فالرجل لا يمثل فقط طرازًا من رجال الدولة النادرين على المستوى الدولي، ولكنه أيضا يمثل النموذج العظيم للرجل الثاني خلف مركز القوة في الدولة، والآمر والناهي في نفس الوقت، فهو نموذج للشخصية السياسية التي يكرهها كل من هم حول مركز السلطة لتأثيره المباشر على الملك، ولكنه أيضا نموذج للشخصية التي يكرهها الحاكم، ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنها، فهو رجل المتناقضات السياسية، كما أنه أيضا رجل المتناقضات الدينية، فهو كاردينال في السلك الكنسي الكاثوليكي، ولكن البابا يلقبه بـ«بطريرك الكفرة»!، ومع ذلك فهو الذي وضع الحد للحرب الأهلية المذهبية في فرنسا وأكمل عمل الملك هنري الرابع، كما أنه صاغ السياسة الفرنسية والتي أصبحت فيما بعد سمة أنظمة الحكم في أوروبا ورسخ لمفهوم القوة المطلقة للدولة النابعة من الدولة وليس الدين أو أي طبقة، فهو الذي صاغ مفهومًا جديدًا في السياسة الفرنسية ثم الأوروبية وهو مفهوم Raison d›etat أو للأسباب التي تتعلق بقوة الدولة، وقد استخدم الكاتب الفرنسي العظيم ألكسندر دوما شخصية «ريشيليو» ليجسد الشخصية السياسية الكريهة، ولكن حتى هو لم يستطع التخلص منها في رواياته أيضًا!
بدأت رحلة الكاردينال «ريشيليو» في السياسة الفرنسية من خلال انعقاد البرلمان الفرنسي إبان حكم لويس الثالث عشر تحت وصاية أمه «ماريا مديتشي»، وقد كان الرجل ممثلاً لأحد الأقاليم الفرنسية باعتباره رجلاً من رجال الكنيسة الكاثوليكية، وعلى الرغم من أن البرلمان انفض دون جدوى، فإن «ريشيليو» كان قد لفت انتباه الملكة الأم التي رأت فيه العقلية السياسية المناسبة كمستشارها، وقد استطاعت مع مرور الوقت أن تُسوق الرجل سياسيًا لابنها، ولكن سرعان ما تمرد الملك الابن وقضى على كل مستشاري أمه وعزلها مع «ريشيليو» الذي كان قد حظي بلقب «الكاردينال» على الرغم من أنه لم يكن قد بلغ السن القانوني لتقلد هذه الدرجة الكنسية وفقًا للقانون الفرنسي.
ومع ذلك فإن الرجل عاد مرة أخرى إلى حضن البلاط الملكي بكل قوة، فلقد بدأ يتدرج في الثقة حتى جعله الملك لويس الثالث عشر رئيس وزرائه، وعلى الرغم من القدرات المحدودة للملك مقارنة بالرجل، فإن «ريشيليو» كان دائمًا يسعى لإقناع الملك بأن الأفكار كلها أفكاره، والمشورة مشورته، فكان كثيرًا ما يوعز للملك بالسياسات وينفذها على أنها سياسات الملك، وهو ما جعله بعيدًا عن الشبهات لأنه لم يتطلع أبدًا لمنافسة سلطة الملك، بل كان دائمًا يكبح جماح نفسه وغيظه أو غروره، فالرجل كان حكيمًا ويعرف كيف يلعب دوره كرجل ثانٍ في الدولة حتى ولو كان الطرف الأذكى في معادلة القوة مع الملك، وقد تركزت سياسة «ريشيليو» في التأكيد على أهمية دور رجل الدولة والسلطة المطلقة للملك، فهاتان كانتا خلاصة فكر هذا العبقري، وهو الدواء الذي كانت فرنسا في أشد الحاجة له لظروفها السياسية والاجتماعية، ولم يكن يأبه في ذلك الوقت بآراء العامة أو الخاصة فيه، فهذا كان زمن السلطة المطلقة للملك التي دشنها هذا الرجل، فلقد عمل على إضعاف كل القوى التي كانت تنتقص من سيادة الملك، وعلى رأسها السلطة المتراكمة للنبلاء والإقطاعيين، والتي لم تأبه كثيرًا بالمراسيم الملكية، بل تلاعبت بها نظرًا لضعف الدولة بسبب الحرب الأهلية التي ضربت البلاد على مدار عقود ماضية، وهنا كان قرار «ريشيليو» تقليم أظافر كل الأرستقراطية وطبقة ملاك الأراضي من خلال قرار ملكي بإزالة كل القلاع الخاصة بهم والتي كانت مشيدة في غير مجال الدفاع عن الدولة، وكان الهدف منها هو القضاء على القوة النسبية لهذه الطبقة حتى تكون القوة للسلطة المركزية، وليس لأي طرف آخر، كما وضع القوانين التي نظمت سلوكياتهم تمامًا بلا أي مجال للفوضى، بل أنه تجرأ على الطبقة وقطع رقاب بعضها، والتي لم تمتثل لقوانين الملك، جاعلاً بذلك يد الدولة العليا.
أما الطبقة الثانية التي نوى الكاردينال التخلص من ثقلها السياسي فكانت مجموعات البروتستانت الخارجة عن الديانة الكاثوليكية، والتي كانت الحرب بينها وبين الكاثوليك هي سبب الحرب الأهلية الفرنسية لمدة عقود ممتدة، وذلك دون الإقلال من مكتسباتها وحقوقها، فلقد سمح مرسوم «نانت» الذي أصدره الملك هنري الرابع كما رأينا بأحقية البروتستانت في إقامة الميليشيات في قرابة مائة مدينة لحمايتها، كما أنهم باتوا يهددون وحدة الدولة مرة أخرى من خلال الدعم الإنجليزي الذي تلقوه، والذي بدأت بمقتضاه بشائر الحرب الأهلية مرة أخرى تهل، وهنا وضع «ريشيليو» نهاية للحرب الأهلية قبل تفشيها من خلال هزيمة البروتستانت هزيمة عسكرية كاملة، ولكنه عقد لهم ما هو معروف بصلح «أليه» في 1629، والذي بمقتضاه فكك كل الحقوق العسكرية التي كانت لهم، ولكنه منحهم حقوق المواطنة الكاملة والمتساوية مع الكاثوليك في البلاد، واضعًا بذلك نهاية للحرب الدينية في فرنسا، ولكن أغرب ما في الأمر أن كاردينالاً كاثوليكيًا هو الذي منح البروتستانت حقوقهم المتساوية في فرنسا ووضع أسس فكرة المواطنة في البلاد! ولكن هذه الحقيقة تشهد لـ«ريشيليو» وليس ضده رغم ما تردد عن فساده الأخلاقي الذي كان مثار الكثير من الأحاديث والنوادر، وبالقطع كان هذا أحد الأمور التي دفعت البابا في روما إلى كراهيته كراهية التحريم، فمن الذي كان يمكن أن يصدق أن كاردينالاً كاثوليكيًا هو الذي سيمنح البروتستانت في فرنسا الحرية الكاملة والمواطنة العادلة؟ ولكن هذه سمة رجل الدولة العظيم.
ولكن عظمة الرجل السياسية كانت أعمق من ذلك، فلقد اتبع الرجل سياسة مزدوجة ومتناقضة على المستوى المحلي مقابل الدولي، فعلى حين شد ساعده على البروتستانت في الداخل ليجعلهم مواطنين فرنسيين وليس مواطني أقليات دينية، فإنه كان يدعم حركات البروتستانت في ألمانيا، فلقد كان الرجل أفضل من لعب بكارت الاختلاف المذهبي في الإمبراطورية الرومانية المقدسة لكسرها من الداخل، بل إنه قام بدعم الدنمارك والسويد من أجل الدخول في حروب مذهبية لتحرير البروتستانت في ألمانيا، كما أنه كان يمول هذه الجماعات بشكل مباشر خاصة بعد اندلاع حرب الثلاثين عامًا، والتي كانت بمثابة السرطان السياسي الذي كسر الإمبراطورية وأدى لتفتتها بإقرار أحقية الملوك والأمراء تحديد المذاهب بأراضيهم ضاربًا الشعار السامي الكاثوليكي «إله واحد - إمبراطور واحد» في مقتل، ولكن القدر لم يمهل الرجل ليرى نجاح سياسته في 1648 بعد إقرار اتفاقية «وستفاليا»، والتي وضعت حدًا للقوة السياسية الألمانية لمدة قرنين من الزمان فلم تعد هذه الدولة تمثل لفرنسا العدو القاتل الذي كانت تمثله من قبل، وذلك إلى أن وحّدها بسمارك مرة أخرى في منتصف القرن التاسع عشر.
لقد وجه «ريشيليو» كل جهده نحو تقوية قوة التاج بكل ما أوتي من قوة، وذلك لاعتقاده الكامل بأن الدولة الفرنسية في حاجة إلى قوة مركزية تحكمها بعد تفتتها سياسيًا بسبب الحروب المذهبية والفوضى الداخلية، وقد كانت هذه المرحلة من التاريخ الفرنسي في حاجة لمثل هذه السياسة، فالدول عندما يتهدد كيانها وتتفتت وحدتها وتصير مهددة تصبح القوة المطلقة للدولة طوق نجاتها لفرض النظام بداخلها، من ثم ضرورة الحكم على «ريشيليو» من منظور عصره ومن منظور الحاجة السياسية لفكره آنذاك، ورغم الاختلافات الممتدة حول هذه الشخصية فإنها ستظل أيقونة سياسية لا خلاف على عظمتها، فهو تجسيد لمفهوم رجل الدولة الذي انتشل بلاده من الحرب الأهلية والخيبة الملكية والعسر الطبقي وحوّلها إلى أقوى دولة في أوروبا، ولو حكمنا على الرجل من وجهة نظر البابا في روما لوجدناه «كافرًا»، ولو حكمنا عليه من وجهة نظر الدولة الفرنسية سنجده «عظيمًا»، فالدور الذي لعبه «ريشيليو» كان سياسيًا وليس دينيًا، ومن ثم وجب الحُكم عليه من هذا المنطلق، فهكذا تُحكم الدول.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».