المغربي محسن الوكيلي: «أسير البرتغاليين» مغامرة سردية تُسخّر الماضي لفهم الحاضر

غلاف «أسير البرتغاليين»
غلاف «أسير البرتغاليين»
TT

المغربي محسن الوكيلي: «أسير البرتغاليين» مغامرة سردية تُسخّر الماضي لفهم الحاضر

غلاف «أسير البرتغاليين»
غلاف «أسير البرتغاليين»

بوصول روايته «أسير البرتغاليين» إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر»، يكون الروائي المغربي محسن الوكيلي قد أكد أن الحضور المتواصل للروائيين المغاربة في مشهد التتويج الثقافي العربي ليس وليد الصدفة أو فلتة إبداعية، بل نتيجة لدينامية إيجابية صارت تميز المشهد الإبداعي المغربي، في السنوات الأخيرة.
في هذا الحوار، يتحدث الوكيلي عن «بوكر»، وعن منجزه الإبداعي، قبل التركيز على روايته الأخيرة، حيث سيشدد على أن للتاريخ في السرد جاذبيته التي لا تقاوم؛ وأنه لا يوجد حاضر إلا على ما مضى، كما لا يبنى مستقبل إلا على حاضر، ومن هنا تكون «العودة إلى الماضي حاسمة في فهمنا لما يجري اليوم ولما يمكن أن يحدث مستقبلاً».
وفيما يلي نص الحوار:
> تم اختيار روايتك الأخيرة ضمن القائمة القصيرة لـ«بوكر»... أود أن أسألك عن مشاعرك وأنت تتلقى الخبر؟
- جائزة «بوكر» من الجوائز العربية والعالمية العريقة. لا يمكنني إلا أن أكون سعيداً بوصول رواية «أسير البرتغاليين» إلى القائمة القصيرة في منافستها على اللقب. نعم، أسعدني تلقي الخبر، كان لا بد للصوت أن يذهب أبعد في طريقه إلى جمهور القراء والشغوفين بالأدب عامة والرواية خاصة.
> ما رأيك في وجهات النظر والآراء التي تظهر بين الحين والآخر لتنتقص أو تنتقد الخلفيات التي تحكم الجوائز، عربيا وعبر العالم؟ وإلى أي حد يمكن لجوائز الرواية أن تؤثر بشكل إيجابي في تأكيد حضور وتطور الرواية العربية؟
- لا يوجد إجماع مطلق حول أي نشاط أو تظاهرة إنسانية. من الطبيعي جداً، لا سيما في وجود متوجين وخارجين من المنافسة، أن ترتفع أصوات منتقدة. الأمر ليس جديداً في ثقافة الجوائز العالمية، جائزة «نوبل» أكبر دليل على هذا. في الوقت نفسه يصعب على أي أحد أن ينفي الدور الذي تلعبه الجوائز بشكل عام في تكريس الرواية العربية وتطوريها. لقد بات جمهور القراء في عموم الدول العربية يتطلع إلى جائزة «بوكر». الكتب التي تنافس على الجائزة تحقق انتشاراً واسعاً وتجلب أيضا مبدعين جدداً. هذا أمر مهم للغاية وأراه ضرورياً لتكريس الرواية في مجتمعاتنا.
> هل يمكن أن تلخص لنا «أسير البرتغاليين» في بضع كلمات؟
- هي مغامرة سردية تُسخر الأدب والتاريخ لأجل فهم أدق للحاضر.

محسن الوكيلي

> تتعدد شخصيات الرواية، لنكون، مثلا، مع الأسير وهو يلعب مع سجانه «لعبة يقايض فيها السجان الأيام بالحكايات». كأنها حكاية شهرزاد من زمن آخر، بمضامين مختلفة يجمعها مبدأ المقايضة بالحكي؟
- حكاية شهرزاد مستمرة، لا تعترف بزمان أو مكان، فمبدأ المقايضة موجود في ثقافة جنس بني البشر، قد يكون عادلاً وقد يكون ظالما مثل ما في «أسير البرتغاليين». المقايضة بالحكم أقسى صور المقايضة لأنه يمتد ليطال كل شيء في حياة الفرد والجماعة.
> هذا خامس عمل سردي تنجزه في ظرف عشر سنوات... ألا يحتاج المبدع إلى بعض الوقت لإنجاز عمل روائي؟
- أستحضر، هنا، ما كتبه أمبرطو إيكو في «اعترافات روائي ناشئ» عن «جزيرة اليوم السابق» و«بندول فوكو» و«اسم الوردة»، وحديث أوهان باموك في كتابه «الروائي الساذج والروائي الحساس» عن تجربته مع كتابة الرواية، مشيراً إلى «متحف البراءة»، التي قال عنها إنها أخذت منه «عشر سنوات من التخطيط وأربع سنوات من الكتابة».

عشر سنوات أصدرت فيها خمس روايات وأعمالا أدبية أخرى، في القصة والمسرح. أؤمن بأن الزمن ليس محددا في جودة النصوص، هناك أعمال روائية عالمية استغرقت كتابتها بضعة شهور. الأمر يرتبط بالمبدع نفسه وقدراته الإبداعية ومدى تكريسه للوقت المخصص للكتابة. أسوق هنا مثالا بيّنا: «رواية مائة عام من العزلة» للكبير غابرييل غارسيا ماركيز.
> إلى أي حد ساعدك مسارك الجامعي كحاصل على الإجازة في التاريخ والحضارة في كتابة «رواية تاريخية»؟
- الرواية آسرة بما توفره من إمكانيات التعبير. إنها أكثر الأجناس انفتاحاً على غيرها. يمكنك أن توظف الشعر والقصة القصيرة وتقنيات الإخراج السينمائي والمسرحي بكل يسر وهو ما يتأتى في غيرها. مع ذلك أنا أعشق القصة القصيرة وأداوم على كتابتها بشكل مستمر، كما أكتب النص المسرحي بشغف. بيد أن الرواية تأخذني أكثر من غيرها. هذا أمر صحيح تماماً. أحببت الأدب، ومعه التاريخ والفلسفة. أؤمن بأن الفلسفة والتاريخ ركيزتان لكل عمل سردي متميز. درست التاريخ في الجامعة. كانت دراسة رافد مهم، لكن اهتمامي بقراءة المؤلفات التاريخية استمر. صادفت في هذا الإبحار الحر كتبا ملهمة وعبقرية. أعمال ستبقى معي إلى نهاية الدرب.
> أنت من الوجوه الروائية المغربية الشابة التي برزت عربياً، في السنوات الأخيرة. ما سر هذا الحضور، وكيف هي علاقتك بالأجيال السابقة، التي تكرست مغربياً وعربياً؟
- أعتقد أن الإبداع بكل صنوفه وعاء لرسائل إنسانية، إسهام في بناء عالم أكثر انفتاحا وتسامحا وجمالا. من هنا أعمل بجد، وبشكل يومي. الحضور هو تجل للصبر والثبات والمثابرة والإيمان بالإنسان. تربطني علاقات جميلة مع كتاب من مختلف الأجيال، بعضهم رحل، لكن أعمالهم لا تزال حاضرة معنا وبيننا، محمد شكري ومحمد زفزاف وعبد الكريم غلاب وغيرهم كانوا ملهمين بالنسبة لي. آخرون ما زالوا بيننا أشبه بفوانيس. أحترمهم جميعا، أحافظ على علاقات طيبة معهم دون استثناء لأنهم يستحقون منا كل الاحترام. دونهم ما كنا لنكون.
> من هو الروائي المغربي أو العربي الذي تجد نفسك قريباً منه؟
- روائيون كثر تعلقت بهم، مغاربة وعرب. أحببت الطاهر بن جلون ومحمد زفزاف. يبقى محمد شكري الأقرب إليّ. إنه أحد الكتاب الذين انطلقوا من الصفر وحققوا ما لم يحققه غيرهم في المغرب.
> لماذا برأيك هذا الارتفاع الملحوظ في منسوب الروايات التي تبني أحداثها انطلاقا من الماضي؟
- شخصياً أكتب أكثر الروايات التي تعنى بالحاضر كما هو الشأن مع رواية «رياح آب» و«شظايا» و«في كراهية الحدود». الروايات التي تنحاز للتاريخ ليست الأكثر انتشاراً. لننظر إلى القائمة الطويلة لـ«بوكر» وسنكتشف أن معظم ما كتب كان خارج نطاق التاريخ والذاكرة. مع ذلك فللتاريخ في السرد جاذبيته التي لا تقاوم. مرد هذا في نظري أننا في حاجة دائمة للعودة للماضي حتى نفهم حاضرنا. لا يوجد حاضر إلا على ما مضى، كما لا يبنى مستقبل إلا على حاضر. من هنا تكون العودة إلى الماضي حاسمة في فهمنا لما يجري اليوم ولما يمكن أن يحدث مستقبلاً. الرواية باعتبارها الجنس الأدبي الأكثر انتشاراً معنية بتكريس الوعي وبناء عالم أفضل. ولعلها الأجدر والأكفأ للخوض في هذه العلاقة الشائكة من جهة والممتعة من جهة أخرى.
> يتحدث بعض الروائيين عن المصادر التي اعتمدوها في بناء عوالمهم السردية ذات الخلفية التاريخية. لا بد أن هناك مراجع اعتمدتها بالنسبة لـ«أسير البرتغاليين»؟
- لا يمكن للروائي أن يكتب نص سردياً بطابع تاريخي دون أن يرجع إلى مراجع تاريخية. لا بد لنا، فضلا عن معرفة الأحداث والوقائع، أن نعرف نمط السلوك والذهنية السائدة للإنسان آنذاك. للأسف معظم المراجع التاريخية تكتفي بسرد سيرة الحكام والوقائع الكبرى على حساب حياة الشعوب، لكن بعضها يفتح أبوابا نطل عبرها على ماضينا، سأكتفي بذكر مرجع أثار اهتمامي أكثر من غيره. إنه كتاب «الدولة السعدية التكمدارتية» لمؤلف مجهول.
> بمناسبة صدور روايتك الأخيرة، هل سبق لك أن زرت البرتغال؟
- كلا، لم أزر البرتغال إلى حد اليوم، لكن آثارهم الباقية في أرضنا كانت كافية، ولعلها الأهم، بالنسبة للرواية، فمعظم الأحداث جرت على أرض مغربية في مدن وحصون كان البعض منها برتغاليا.
> ربما تستحق «أسير البرتغاليين» أن تترجم إلى البرتغالية ليستعيد بها البرتغاليون جانباً من علاقتهم مع المغرب، في قرون سابقة؟
- يحتاج الأدب للترجمة لكي يحقق غاياته القصوى في ملاقاة ثقافات جديدة. «أسير البرتغاليين»، بتطرقها لزمن سجل احتكاكاً كبيراً بين ثقافة المغرب بأبعادها المختلفة وثقافة البرتغال بأبعادها المتنوعة تكون في حاجة للترجمة إلى أكثر من لغة، على رأسها البرتغالية. سيكون جميلا أن يقرأ البرتغاليون عن ماضيهم المحفور في أرضنا.
> تَكتب الرواية والقصة. أيهما الأقرب إلى نفَسك... هل أنت قاص أكثر أم روائي أكثر أم هما معا؟
- نعم، أكتب في أجناس أدبية مختلفة، كما ذكرتُ سابقا، أعشق القصة والرواية على السواء. أجد نفسي أكثر في الرواية، ذلك أنني أكتب أحيانا القصة داخل الرواية. الرواية منفتحة أكثر، لا تعترف بحدود، لعل هذا ما يجعل منها الشكل الأدبي الأقرب إليّ. لكنني في الأخير قاص وروائي بالدرجة نفسها.
> رواية تمنيتَ لو أنك أنت من كتبها؟
-«مائة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.