بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

قصة حزينة لصراع طبقي وفصل عنصري وتراجع اقتصادي

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي
TT

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

بالتيمور.. من مارتن لوثر كينغ إلى فريدي غراي

رغم مرور أيام على أحداث العنف والشغب في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند، فإن نيران الغضب لم تخمد، وربما ستظل أحداث بالتيمور تؤرق الضمير الأميركي لما تحمله من خليط من الصراع الطبقي والعنصري بين البيض والسود.
وتأتي أحداث بالتيمور المثيرة والخطيرة بعد أحداث شغب مماثلة ولأسباب عنصرية أيضا بين البيض والسود، وقدر كبير من العنف من قبل رجال الشرطة تجاه السود. فقد شهدت مدينة فيرغسون بولاية ميزوري (وسط الولايات المتحدة) أعمال شغب مماثلة في أغسطس (آب) العام الماضي أثر مقتل الشاب الأسود مايكل براون برصاص شرطي أبيض. اندلعت الاحتجاجات في 17 ولاية أميركية بعد قرار عدم محاكمة الشرطي الأبيض الذي قتل براون. وفي نيويورك توفي إيريك غارنر مخنوقا وهو يصرخ لرجال الشرطة الجاثمين لتقييد حركته «لا أستطيع التنفس».

أظهرت إحصاءات أميركية أن أكثر من 570 شخصا في الولايات المتحدة أغلبهم من السود قتلوا على أيدي عناصر الشرطة الأميركية منذ مقتل مايكل براون في أغسطس 2014 حتى مقتل فريدي جراي في بالتيمور في أبريل (نيسان) 2015. وتشير التقارير إلى أن أفراد الشرطة ارتكبوا جرائم أفظع من أخطاء ضحاياهم التي لا تستحق أن يفقدوا حياتهم من اجلها خاصة أن الضحايا كانوا عزلا. وفي معظم الحالات اشتعلت المظاهرات الغاضبة من تصرفات الشرطة وأعلن إجراء التحقيقات حول ممارساتها انتهت معظم تلك التحقيقات إلى تبرئة رجال الشرطة أو عدم وجود أدلة تكفي لإدانتهم.

كيف اندلعت مظاهرات بالتيمور

بدأت أحداث بالتيمور في السابع والعشرين من أبريل (نيسان) الماضي حينما ألقى محتجون حجارة وقوالب طوب ضد ضباط شرطة بالتيمور عقب جنازة الشاب الأسود فريدي غراي، 25 عاما، الذي توفي أثناء احتجازه لدى الشرطة إثر كسر في الفقرات الرقبية. ونقلت كاميرات التلفزيون الأميركية أعمال نهب وتخريب ومظاهرات غاضبة حيث أحرق المتظاهرون سيارات الشرطة ونهبوا عددا من المتاجر وأحرقوا بعض البنايات وألقوا على رجال الشرطة الحارة والزجاجات والعصى. وأعلنت حالة الطواري ومنع التجول في أعقاب تلك الأحداث وأرسل حاكم ولاية ميريلاند تعزيزات من الحرس الوطني. وعند سؤال أحد المتظاهرين عند أسباب اندلاع العنف في المدنية قال: «الناس ملوا من قتل الشرطة لشباب سود دون سبب»، وأبدى حزنه على ما يحدث من أحداث تخريب وحرق ونهب لكنه قال: «هذا كان يجب أن يحدث».
وتباينت الروايات حول ما الذي حدث بالضبط للشاب الأسود فريدي جراي وأسباب إصابة عموده الفقري ووفاته بعد أسبوع واحد من نقله إلى المستشفى بعد احتجازه من قبل الشرطة. وذهبت معظم الروايات إلى أنه تعرض لمعاملة عنيفة من شرطة المدينة. وبعد التحقيقات في أسباب وفاة فريدي جراي أعلن المدعي العام لولاية ميريلاند محاكمة ستة من ضباط الشرطة (بينهم ثلاثة ضباط سود) بتهم القتل من الدرجة الثانية والاعتداء والاعتقال غير القانوني. ورغم بعض الارتياح والترحيب بتقديم رجال الشرطة إلى المحاكمة فإن المظاهرات لم تخمد في بالتيمور بما يشير إلى أنها أكثر من مجرد سوء معاملة لرجل أسود وانتقاد للنظام الاجتماعي والاقتصادي الأميركي بأكمله الذي يضطهد الأقليات، ويستخدم منفذو القانون القوة المفرطة ضد أفراد تلك المجتمعات، والسياسات الاقتصادية التي تدفع الأميركيين الأفارقة إلى الطبقات الفقيرة ونظام العدالة الجنائية التي يضعهم دائما في دائرة الشبهات خاصة فيما يتعلق بتجارة المخدرات وغيرها من أنواع الجرائم الجنائية.

لماذا بالتيمور؟

جغرافيا تعد مدينة بالتيمور في الشمال الشرقي للولايات المتحدة في منتصف ولاية مريلاند، وهي أكبر مدن ولاية مريلاند ويقطنها 620 ألف نسمة يمثل السود 63 في المائة منهم بينما يمثل البيض 29 في المائة من عدد السكان. وتحتل بالتيمور المرتبة السادسة والعشرين من مدن الولايات المتحدة من حيث عدد السكان وقد أثارت تلك الأحداث سؤالا ظل يدور في الأذهان وهو «لماذا وقعت أحداث الشغب؟ ولماذا مدينة بالتيمور؟»
بعض المحللين سردوا تحليلات عميقة حول أوضاع الأميركيين الأفارقة وما يعانونه من فقر ومعدلات بطالة مرتفعة ويعيشون في تجمعات وأحياء تسودها الجريمة والمخدرات وفقدان الثقة بين الشرطة وسكان تلك المجتمعات. وتقول التقارير إن الحي الذي كان فريدي جراي يعيش به (حي ستاندتاون وينشستر) يعد من أفقر أحياء بالتيمور حيث خمس سكانه من العاطلين عن العمل. وفي المقابل يقول سيما اير أستاذ الاقتصادي بجامعة بالتيمور إن أعمال التنمية ومناطق الجذب السياحي والمحلات التجارية الفاخرة تم بناؤها حول ميناء بالتيمور الذي تسكنه في الغالب الأقلية البيضاء. والبعض أشار إلى جذور مشكلة العنصرية والتفرقة العنصرية ضد السود في المجتمع الأميركي رغم تقلد عدد كبير من السود لمناصب رفيعة في الحكومة الأميركية وفي الحياة العامة ووصول أول أميركي أسود إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة. والبعض أشار إلى بالتيمور باعتبارها استمرارا لنضال السود في أميركا منذ حرب تحرير العبيد في القرن التاسع عشر حتى نضال وانتصار مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي. مدينة بالتيمور نفسها لديها تاريخ ونمط من الفصل العنصري الذي شاع قبل أكثر من قرن من الزمان ولا تزال أطلاله باقية، ففي عام 1910 اعتمدت مدينة بالتيمور سياسية تمنع السود من السكن في الأحياء التي تقطنها أغلبية بيضاء وقد أدى تطبيق تلك السياسات إلى تقسيم المدينة إلى كتل سكنية بيضاء وأخرى سوداء.
وفي السادس من أبريل عام 1968 بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ اجتاحت المظاهرات مدينة بالتيمور مثلها مثل الكثير من المدن الأميركية الأخرى وخلال المظاهرات في بالتيمور تم نهب وإحراق أكثر من ألف شركة وقتل ستة أشخاص وأصيب 700 آخرون خلال تلك الأحداث. ويقول مايكل هيجنبوثام أستاذ القانون بجامعة بالتيمور فإن أحداث الشغب في بالتيمور في أبريل 1968 تتشابه إلى حد كبير مع أحداث الشغب في أبريل 2016 وتتفق مع اندلاع المظاهرات بعد وفاه شخص (مارتن لوثر كينغ في عام 1968 وفريدي جراي في عام 2015 مع ملاحظة أن كينغ كان رمزا للنضال من احل الحقوق المدنية، فيما يشير البروفسور بيتر ليفي المؤرخ بكلية يورك أن الاضطرابات الحالية في بالتيمور تركزت بشكل أساسي على العلاقة المتوترة بين مجتمع الأميركيين السود ورجال الشرطة.
البعض اتهم الشرطة بالعنف المفرط ودللوا على انتهاكات الشرطة في مدينة بالتيمور بصفة خاصة، بالسجلات التي تشير إلى دفع أكثر من 5 ملايين دولار في تسوية قضايا ضد انتهاكات قامت بها الشرطة ومعظم القضايا تخضع لقواعد تلزم الضحايا بعدم الحديث عما تعرضوا له مقابل مبالغ التسرية وحماية سمعة جهاز الشرطة. ووفقا لقرارات المحكمة الدستورية العليا فمن حق رجل الشرطة استخدام القوة في حالتين الأولي هي حماية حياته وحياة أبرياء آخرين والثانية هي منع المشتبه به من الهرب. البعض الآخر تعاطف مع رجال الشرطة وما يعانيه رجل الشرطة من مخاطر أثناء تأدية عمله. وذهبت بعض الآراء إلى إلقاء اللوم على الضحية فريدي جراي لمحاولته الهروب من الشرطة والمطالبة بأهمية إطاعة أوامر الشرطة وهيبة رجال الشرطة وهيبة الدولة.
بعض المحللين اعتمدوا على تحليلات علماء النفس والاجتماع حول الدهنية العنصرية حيث ما زالت صورة الرحل الأبيض هي نموذج للرجل المبدع والمثقف والملتزم بالقواعد والقانون مقابل الصورة الذهنية للرجل الأسود الجاهل رمز الجريمة والشغب وكسر القواعد وعدم احترام القوانين. وذهب البعض إلى رفض ربط أحداث بالتيمور بالعنصرية بين البيض والسود خاصة عند المقارنة بين أحداث فيرغسون حيث أغلبية السكان ورجال الشرطة من البيض، مقابل أحداث بالتيمور حيث أغلبية السكان من السود (64 في المائة من سكان بالتيمور من السود) وأغلبية رجال الشرطة ونصف أعضاء بلدية المدينة، بل وحاكمة مدينة بالتيمور نفسها من الأميركيين السود.
وثارت الأسئلة حول توصيف أحداث بالتيمور هل هي أزمة عنصرية أم أزمة طبقية؟ وتعددت الإجابات فرأت صحيفة واشنطن تايمز أن الأسباب معظمها طبقي يتعلق بضعف البنية التحتية وتفشي الجهل والفقر والبطالة. وذهبت صحيفة لوس أنجليس إلى أن السبب هو عدم الاستماع لآراء الأميركيين السود والاهتمام بتحسين مستوى معيشتهم. وأشارت صحف أميركية أخرى إلى الحاجز الطبقي بين رجال الشرطة وسكان بالتيمور حيث يتعالى أفراد الشرطة على الفقراء ويشعر السكان أنهم مستهدفون ويتم التعامل معهم بطريقة غير عادلة.
ويقول تيم لينش مدير معهد كاتو للعدالة الاجتماعية إن القضية في بالتيمور لا تتعلق بالعرق أو الطبقة وإنما تتعلق بالأساس بإحساس المرء أنه مواطن من الدرجة الثانية.
وتقول جنيفر فاي الباحثة بمعهد بروكينغز إن الانقسام الطبقي في مدينة بالتيمور في الأحياء الفقيرة يسجل تضاعفا مقابل الأحياء في وسط المدينة حين تنشط القوة الاقتصادية في عدة مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية والخدمات اللوجستية المقدمة في ميناء بالتيمور وما تملكه المدينة من شبكة قوية من الجامعات والمستشفيات من الطراز العالمي.
وأوضحت الباحثة أن أول خطوة في طريق الشفاء لمدينة بالتيمور هو تعظيم فرص التنمية الاقتصادي للمدينة وإجراء فحص اقتصادي واسع حول الخلفيات التي أدت إلى هذه الأحداث وإجراء التغييرات اللازمة لمنع تكرار تلك الحوادث في أي مدينة أخرى. ما حدث في بالتيمور ومخاطر أن يتكرر في مدن أخرى بولايات أخرى يكشف عن ثقوب في ثوب النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأميركي ويعيد للأذهان ما قاله القس الأسود مارتن لوثر كينغ «ليس كافيا أن أقف أمامكم وأشجب الشغب دون أن أشجب في نفس الوقت الظروف التي لا تطاق التي يعيشها مجتمعنا - هذه الظروف التي تجعل الأفراد يشعرون بعدم وجود خيارات سوى المعارضة العنيفة لكي يجلبوا الانتباه لقضيتهم وأنا مضطر للقول إن الشغب هو لغة الأفراد غير المسموع أصواتهم».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.