يهدف الردع إلى ضرب رغبة الآخر في الحصول على شيء، أو اعتماد سلوك لا يتناسب مع مصلحة الرادع. إذن، هناك رادع ومردوع، والعلاقة بينهما علاقة ديناميّة غير ثابتة، فيها كثير من الافتراضات والحسابات، خاطئة كانت أم صحيحة. إن أمتن علاقة بين الرادع والمردوع هي في عدم سقوط منظومة الردع، أي أن الرادع يتابع الردع، والمردوع يتقيّد بقوانين وأسس المعادلة التي أرساها الرادع. وهكذا تنتفي أسباب الحرب.
أين تدخل اللاتماثليّة (Asymmetry) في منظومة الردع؟ تقوم العلاقات الإنسانيّة في جوهرها على اللاتماثليّة. أن تكون دائماً جوليات الجبّار في كلّ زمان ومكان، هذا أمر ينافي الطبيعة. بين المرأة والرجل هناك لا تماثليّة، وبين المثقّفين هناك لا تماثليّة، وحتماً هناك لا تماثليّة في علاقات الدول بين بعضها وبعض؛ خصوصاً القوى العظمى. وبناءً عليه، تقوم منظومة الردع على اللاتماثليّة بشكل أساسيّ، إذ يُركّز الرادع على نقاط ضعف المردوع، والعكس صحيح.
إذن، الردع منظوميّة حيّة، متبدّلة، ديناميّة، ترتكز على اللاتماثليّة في لعبة الفعل وردّ الفعل. وإذا هرب أي فريق من نقاط ضعفه، فهذا يعني سقوط اللاتماثليّة، وبالتالي الردع. فهل هذا ممكن؟ هناك نقاط ضعف لا يمكن تعويضها، وهناك أخرى يمكن العمل عليها. إذن، هناك لا تماثلية ثابتة، وأخرى متغيّرة. كما أن تغيير وتعديل اللاتماثليّة والهروب من نقاط الضعف المؤقّتة والظرفيّة، يحصل عادة عبر التعديلات في الخطط الاستراتيجيّة، وتأمين الوسائل اللازمة لذلك.
على سبيل المثال لا الحصر، تُعتبر أوروبا الشرقيّة بالنسبة لروسيا النقطة الأضعف في حساباتها الجيوسياسيّة وفي أمنها القومي. ولكونها المحيط المباشر لروسيا، فهي تعتبر مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها، كما عبّر عن ذلك الرئيس بوتين قبيل حربه على أوكرانيا.
في مكان آخر، يُعتبر إقليم جينجيانغ الصيني نقطة الضعف الأهم للصين. فهو الممر الأساسي لمشروع الرئيس شي جينبينغ، «الحزام والطريق» . كما ينطبق الأمر نفسه على إقليم التيبت لأنه مصدر مياه مهم، كما يُشكّل عازلاً جغرافياً مع الهند. وإذا سقط الردع، تقع الحرب.
حاول الرئيس بايدن ردع الرئيس بوتين عن اجتياح أوكرانيا عبر التهديد بالعقوبات، وكذلك عبر نشر معلومات سريّة عن نيات بوتين، وحتى معلومات وصور جويّة عن الانتشار العسكري الروسي حول أوكرانيا؛ لكن الرئيس بوتين لم يرتدع، فوقعت الحرب، وفُرضت على روسيا عقوبات لم يشهدها تاريخ الصراعات في العالم. وبين ليلة وضحاها، أصبحت روسيا معزولة عن العالم كلّه؛ خصوصاً الغربيّ.
فما هي حالة الردع الحالي في أوكرانيا؟ يشهد الردع على الساحة الأوكرانيّة مخاضاً عسيراً، قد يُمكن لنا تسميته بالردع التراكمي (Cumulative Deterrence). فماذا يعني هذا المفهوم؟ لم تسِر الحرب كما أرادها الرئيس بوتين، حينما أعتقد أن الحرب ستكون خاطفة، وبشكل يفرض فيه أمراً واقعاً (Fait Accompli) لا يعطي الوقت الكافي لأميركا والغرب للردّ بسرعة.
يرتكز الردع التراكمي على المقاربة التالية:> عدم السماح للرئيس بوتين بالنصر السريع.
> إطالة الوقت قدر الإمكان، مقابل التخلّي له عن مساحة جغرافيّة محدودة؛ لكن بثمن بشري ومادي كبير على الجيش الروسيّ.
> إبقاء الغرب مُوحّداً قدر الإمكان، حتى مع شعارات «آيديولجيّة- ديمقراطيّة» مقابل «أوتوقراطيّة».
> استمرار تدفّق الأسلحة من «الناتو»، ومنع الجيش الروسي من تحقيق أي نصر، وإذا حقق شيئاً فلن يتمّ الاعتراف له به وشرعنته.
> محاولة الضغط المستمرّ على الصين، الحليف الأساسي للرئيس بوتين، بهدف إجبارها على اتخاذ موقف مما يجري.
> إذا نجحت هذه الاستراتيجيّة لخلق ردع تراكمي، فقد يؤدّي هذا الأمر إلى:
مزيد من الضغوط الداخليّة على الرئيس بوتين لوقف الحرب؛ خصوصاً من الدائرة المؤثرة حوله والتي تقوم على المثلثّ المهمّ التالي:
- الأثرياء الأوليغارك؛ فحالياً هم الأكثر تضرّراً.
- الجيش ووزير الدفاع؛ لكن الوزير مقّرب جدّاً من الرئيس بوتين.
- وأخيراً وليس آخراً، المنظومة الأمنيّة- الاستخباراتيّة، وهي الأكثر تأثيراً في حال التغيير الداخلي الروسيّ.
> وفي الخاتمة، يبقى أمران مهّمان في هذه الحالة:
- تحضير الجسر الذهبي لخروج مُشرّف، هذا إذا حصل.
- وهذا الجسر يحتّم مكسباً معيّناً لمن سيأتي بعد الرئيس بوتين.
حالة الردع في أوكرانيا
حالة الردع في أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة