مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

قائد «القيادة الوسطى » يشدد على أهمية «الوفاء بالتزامات » واشنطن تجاه حلفائها

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»
TT

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

يكاد يكون قائد «القيادة الأميركية الوسطى» (سينتكوم)، أحد أبرز الشخصيات العسكرية الأميركية الممثلة والفاعلة والمؤثرة، في التعبير عن الموقف الأميركي في منطقة عمليات هذه القيادة. ولطالما حظيت «جولات» قائدها على دول المنطقة، بمتابعات دقيقة؛ لمعرفة اتجاهات بوصلة تلك القيادة، في أوقات السلم والحرب معاً.
وإذا كان الموقف الأميركي الرسمي، غالباً ما تعبر عنه وزارة الخارجية، سواء بشخص وزيرها أو ممثليه ومساعديه، أو من الموفدين الخاصين والشخصيين من البيت الأبيض، فإن خصوصية منطقة العمليات التي تغطيها «سينتكوم»، كانت تعطي قائدها موقعاً متقدماً في تقديم «ضمانات»، عن مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها السياسية والأمنية في تلك المنطقة. غير أن التبدلات الاستراتيجية التي توالت على نظرة الولايات المتحدة إلى أولوياتها السياسية والتحديات التي تواجهها، في ظل صعود الصين كأكبر «منافس» استراتيجي لها، ألقت بشكوك عميقة على تلك الالتزامات. وأدت في السنوات الأخيرة إلى حصول تغييرات وتداعيات على دور القيادة المركزية وعملياتها في المنطقة، وأولويتها بالنسبة إلى العقيدتين العسكرية والسياسية لأميركا.

اليوم، مع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا أن «المناقشات العميقة» التي يجريها قادة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، ويعبّرون عنها بشكل علني، تشير إلى أن «إعادة» نظر جارية، لتقييم مدى صوابية الاستمرار في سياسة الابتعاد عن المناطق «الهامشية» وصلاحيتها، في الرد على التحديات التي عادت لتفرض نفسها بقوة. هذا ما عبر عنه الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، في شهادته قبل أيام أمام مجلس النواب، عندما حذّر من أن المرحلة المقبلة، قد تشهد «احتمال نشوب صراع دولي كبير بشكل متزايد».
ومع تولي الجنرال مايكل كوريلا مقاليد قيادة منطقة عمليات القيادة الوسطى، تطرح تساؤلات عمّا إذا كانت قيادته ستحدث فارقاً، وتحمل تغييراً في نظرة الولايات المتحدة إلى المنطقة؟ فالرجل جاء إلى مقر الاحتفال في تامبا بولاية فلوريدا، (مقر القيادة الوسطى)، آتياً مباشرة من مهمة الإشراف على نشر القوات الأميركية في أوروبا، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
من نافل القول، أن الاستراتيجية الأميركية التي جرى تبنيها مبكراً، منذ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وحافظ عليها الرئيس دونالد ترمب، كانت تشير إلى أن القارة الأوروبية ومنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، لم تعد أولوية. وبالتالي، تتحول الطاقات والموارد نحو مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادي والهندي. ورغم أن الرئيس الحالي جو بايدن، لا يزال حتى اللحظة، ملتزماً بتلك الاستراتيجية، فإن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، أعلن الجمعة الماضية أن «الأحداث الأخيرة في أوروبا، غيرت الكثير من الأمور، بما في ذلك كيفية تفكير الولايات المتحدة في وضع قوتها الحالي». وقال إن «التغيير في الوضع الأمني في أوروبا قد يعني وجود قوة أميركية في أوروبا مختلفة عما كان متصوراً في البداية قبل غزو روسيا لأوكرانيا». وأردف «البيئة الأمنية مختلفة الآن. وأعتقد أننا نعمل على افتراض أن أوروبا لن تكون كما هي «بعد الآن»... «لذلك؛ ربما لا ينبغي أن يكون لدينا النظرة نفسها إلى وضعنا في أوروبا».

- من هو مايكل كوريلا؟
في بطاقة تعريفه المنشورة على موقع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ومواقع إلكترونية أخرى، فإن اللواء مايكل «إريك» كوريلا، القائد الخامس عشر للقيادة الأميركية الوسطى، المولود عام 1966 في ولاية كاليفورنيا، نشأ في إلك ريفر بولاية مينيسوتا، وخدم في سلاح المشاة بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت عام 1988، وحصوله على درجة البكالوريوس في هندسة الطيران. وبعدها حصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة ريجيس، ودرجة الماجستير في دراسات الأمن القومي من الكلية الحربية الوطنية.
وخلال حياته المهنية، قاد كوريلا وحدات العمليات الخاصة المحمولة جواً، والميكانيكية، وقوات «سترايكر»، ووحدات العمليات الخاصة المشتركة في القتال وحفظ السلام وعمليات النشر التشغيلية. وشارك في الهجوم المظلي في بنما، وخدم في عملية «عاصفة الصحراء» في العراق، وعملية «استعادة الأمل» في هايتي، والعملية المشتركة في كوسوفو ومقدونيا، وعملية «العزم المشترك» في البوسنة والهرسك، وعملية «حرية العراق»، وعملية «الحرية الدائمة» في أفغانستان، وعملية «العزم المتأصل» في العراق أيضاً.
لقد أمضى كوريلا نحو عقد من الزمن من 2004 إلى 2014 في قيادة العمليات التقليدية والخاصة في العراق وأفغانستان، التابعة لمنطقة القيادة الوسطى. فعام 2005، عيّن في العراق قائداً لكتيبة «سترايكر» في فرقة المشاة الخامسة والعشرين. وحصل على «النجمة البرونزية» بعد معركة في مدينة الموصل، التي «أصيب فيها ثلاث مرات، لكنه واصل إطلاق النار على المتمردين أثناء توجيه قواته». وكان قائداً سابقاً للفوج 75 (راينجر).
ومن العام 2012 إلى 2014 كان مساعد القائد العام لقيادة العمليات الخاصة المشتركة. وشغل من العام 2016 حتى 2018، منصب القائد العام للفرقة 82 المحمولة جواً، التي نشرت الشهر الماضي في الجناح الشرقي لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو). ومن العام 2018 وحتى 2019 شغل منصب رئيس أركان القيادة الوسطى، ليتولى بعدها قيادة الفيلق 18 المحمول جواً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ومسؤولية الإشراف على نشر القوات الأميركية في ألمانيا، استجابة للأزمة الروسية – الأوكرانية نهاية عام 2021 وبداية 2022.
في احتفال تسليم وتسلم مقاليد القيادة الأميركية الوسطى الجديدة، بين كوريلا والقائد السابق الجنرال كينيث ماكينزي، في أول أبريل (نيسان) الحالي، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إن «المنطقة التي تغطيها قيادة (سينتكوم)، هي المكان الذي نحمي فيه الممرات المائية لكي تتدفق التجارة العالمية». وأضاف «إنها المكان الذي نحارب فيه الإرهابيين الذين يهددون مواطنينا، والمكان الذي نعمل فيه مع شركائنا لمواجهة الاضطراب من إيران ووكلائها».
وتابع أوستن «إن القيادة الوسطى أمر أساسي لأمننا، وأساسية لاستعداداتنا ولتنفيذ مهمتنا». وشدد على أن «الشراكات التي تعقدها (سينتكوم) في المنطقة، بالغة الأهمية وتركز عليها»، في إشارة إلى العلاقات التي تربطها مع دولها، خصوصاً بعد ضم إسرائيل إليها.
هذا، وعُدّ كلامه عن إيران و«دورها المزعزع للاستقرار» مع وكلائها في المنطقة، مؤشراً على «تحفظات» العسكريين الأميركيين عن السياسات المتبعة معها، والصعوبات السياسية التي تواجهها إدارة الرئيس جو بايدن في «تسويق» العودة إلى اتفاق نووي مع إيران، في ظل استبعادها مناقشة كل من برنامجها الصاروخي الباليستي وسياساتها الإقليمية، وعلاقاتها المتوترة مع دول المنطقة المعترضة.
ولفت أيضاً كلام الجنرال كوريلا، القائد الجديد لـ«سينتكوم»، الذي قال إن «خصومنا يبحثون عن أي مؤشر على تذبذب التزام أميركا بالأمن الجماعي في المنطقة... أعداؤنا مستعدون للاستفادة من أي فرص تظهر، يجب ألّا نمنحهم أياً منها». وذلك في ترداد لكلام سلفه الجنرال ماكينزي عن ضرورة «إظهار التزاماتنا تجاه حلفائنا». وأردف كوريلا «إن القيادة الوسطى يجب أن تشارك في ضمان استمرار التجارة العالمية في المنطقة، ويجب أن تضمن أيضاً ألا تؤدي التهديدات هناك، إلى تطوير القدرة على إلحاق الضرر بالوطن الأميركي».
للعلم، توالت تصريحات مسؤولي «البنتاغون» خلال الأيام الماضية، التي تتحدث عن دور الولايات المتحدة في منطقة عمليات القيادة المركزية الوسطى، لتعلن نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، دانا سترول، أن إيران هي المصدر الرئيس للاضطراب في المنطقة، في حين لا يزال تنظيم «داعش» يشكل أيضاً تهديداً، على الرغم من عدم سيطرته على أراض في العراق وسوريا. وبينما لفتت إلى أن وزارة الدفاع «تدعم الجهود الدبلوماسية» لوزارة الخارجية لتهدئة النزاعات الجارية في المنطقة، أكدت أن منطقة الشرق الأوسط «تعد مسرحاً رئيسياً للتنافس» مع الصين.

- نظرة جديدة للمنطقة
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تتحدث عن ضرورة تغيير النظرة إلى منطقة عمليات القيادة الوسطى، «التي ارتبطت تاريخياً بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة المبنية على خريطة ذهنية ضيقة، موروثة عن حقبة سنوات الحرب الباردة الأولى». ويقول تقرير لمجلة «فورين أفيرز»، إن واشنطن، بإداراتها ومؤسساتها السياسية وجامعاتها ومراكز فكرها، نظرت إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، استناداً إلى الاستمرارية الجغرافية، والتفاهمات المنطقية للمنطقة، وتاريخ القرن العشرين. إلا أن هذه الخريطة أصبحت قديمة بشكل متزايد، حيث تعمل القوى الإقليمية الرائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي، بالطريقة نفسها التي تعمل بها داخله. ثم إن العديد من المنافسات الأكثر أهمية فيها، تلعب الآن خارج تلك الحدود المفترضة.
ويضيف التقرير، أن «البنتاغون» لطالما عرفت هذا الأمر؛ وهو ما أدى إلى فصل القارة الأفريقية عن منطقة عمليات «سينتكوم» عام 2007، وإنشاء القيادة الأميركية في أفريقيا. ورغم ذلك، لا تزال المنطقة التي تغطيها القيادة الوسطى، تشمل أيضاً جيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا، وكينيا، وباكستان، والصومال، والسودان.
أيضاً يقول التقرير، إن هذا الاختلال الدراماتيكي في النظر إلى المنطقة، يشير إلى خطورة التمسك بنموذجها «القديم»، على صنع السياسات والمؤسسة العسكرية الأميركية. فهو ليس فقط خارج نطاق السياسة الحالية والممارسة العسكرية، بل إنه يعوق أيضاً محاولات مواجهة العديد من أكبر التحديات اليوم... من أزمات اللاجئين المتسلسلة إلى حركات التمرد الإسلامية، إلى الدور الذي تقوم به الدول الإقليمية الكبرى، كإيران وتركيا وحتى إسرائيل، التي باتت تساهم بشكل متنامٍ في إعادة تشكيل المنطقة.
ومع تحول إيران إلى واحدة من أكثر القوى الإقليمية خطورة على استقرارها، في ظل طموحاتها الإمبراطورية وتزايد علاقاتها مع الصين وروسيا، يتساءل البعض عمّا إذا كان لا يزال ممكناً احتواء خطرها من دون اعتماد سياسات تستلهم ما يجري تنفيذه في مواجهة طموحات روسيا «القيصرية»؟
وغني عن القول، أن في طليعة أهداف السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط إبان «الحرب الباردة»، كانت الحفاظ على الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل وإبعاد النفوذ السوفياتي. ورغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ الثورة الإيرانية، وأحداث «11 سبتمبر (أيلول)»، حافظت سياسة واشنطن لعقود عديدة على تدفق النفط وعلى الاستقرار، وعلى تعريفها القديم للمنطقة.
ولكن مع تراجع واشنطن عن الاهتمام بها، وتعميق الدول الخليجية الغنية لاستثماراتها وروابطها العميقة مع دول أخرى في الغرب، وتنامي روابطها مع آسيا، وتكثيف إيران نشر شبكاتها بالوكالة ونفوذها في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، وخوضها منافسة متزايدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وبناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين... صار على واشنطن أن تتعامل مع بكين أيضاً. فالصين تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عنها. وهو ما ضاعف من فرص سوء التفاهم الخطير، ناهيك عن المبالغة في تقدير آثار «الانسحاب الأميركي».
أيضاً في تقييم للنتائج الأولى للحرب في أوكرانيا، قال مسؤول دفاعي الأسبوع الماضي، إن قادة «البنتاغون» باتوا «يشعرون بثقة جديدة في القوة الأميركية». وأردف «منذ عقد من الزمن، كان قادة البنتاغون يراقبون بقلق متزايد الحصار في أفغانستان، وصعود الصين كقوة عالمية وبرنامج التحديث العسكري الروسي الطموح، وتحديات القوى الإقليمية الأخرى»... «كان الإجماع في بكين وموسكو وحتى بين البعض في واشنطن أن حقبة (الهيمنة الأميركية العالمية) تقترب بسرعة من نهايتها». ولكن اليوم عادت الثقة بالقوة الأميركية، مدفوعة بالفاعلية المفاجئة للقوات الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة، والخسائر الفادحة لروسيا في ساحة المعركة، والدروس التحذيرية التي يعتقد أن الصين «تأخذها في الاعتبار» من هذه الحرب. ونقل عن وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، تقييماً مشابهاً قائلاً إن كلاً من (الرئيسين الصيني والروسي) شي (جينبينغ) و(فلاديمير) بوتين وصفا الولايات المتحدة بأنها «في حالة انحدار»، ومشلولة سياسياً ومتشوقة للانسحاب من بقية العالم. قبل أن يضيف «إلا أن بعد الذي جرى في أوكرانيا على شي أن يتساءل عن جيشه في هذه المرحلة (...) مقاومة الأوكرانيين يجب أن تجعله يتساءل عمّا إذا كان قد قلل من أهمية عواقب هجوم عسكري على تايوان». وهو ما قد يكون مؤشراً على احتمال أن تخضع سياسات واشنطن في منطقة عمليات القيادة الوسطى لإعادة نظر هي الأخرى.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.