مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

قائد «القيادة الوسطى » يشدد على أهمية «الوفاء بالتزامات » واشنطن تجاه حلفائها

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»
TT

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

مايكل كوريلا... جنرال أميركي يواجه تحديات «عالم يتغيّر»

يكاد يكون قائد «القيادة الأميركية الوسطى» (سينتكوم)، أحد أبرز الشخصيات العسكرية الأميركية الممثلة والفاعلة والمؤثرة، في التعبير عن الموقف الأميركي في منطقة عمليات هذه القيادة. ولطالما حظيت «جولات» قائدها على دول المنطقة، بمتابعات دقيقة؛ لمعرفة اتجاهات بوصلة تلك القيادة، في أوقات السلم والحرب معاً.
وإذا كان الموقف الأميركي الرسمي، غالباً ما تعبر عنه وزارة الخارجية، سواء بشخص وزيرها أو ممثليه ومساعديه، أو من الموفدين الخاصين والشخصيين من البيت الأبيض، فإن خصوصية منطقة العمليات التي تغطيها «سينتكوم»، كانت تعطي قائدها موقعاً متقدماً في تقديم «ضمانات»، عن مدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها السياسية والأمنية في تلك المنطقة. غير أن التبدلات الاستراتيجية التي توالت على نظرة الولايات المتحدة إلى أولوياتها السياسية والتحديات التي تواجهها، في ظل صعود الصين كأكبر «منافس» استراتيجي لها، ألقت بشكوك عميقة على تلك الالتزامات. وأدت في السنوات الأخيرة إلى حصول تغييرات وتداعيات على دور القيادة المركزية وعملياتها في المنطقة، وأولويتها بالنسبة إلى العقيدتين العسكرية والسياسية لأميركا.

اليوم، مع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا أن «المناقشات العميقة» التي يجريها قادة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، ويعبّرون عنها بشكل علني، تشير إلى أن «إعادة» نظر جارية، لتقييم مدى صوابية الاستمرار في سياسة الابتعاد عن المناطق «الهامشية» وصلاحيتها، في الرد على التحديات التي عادت لتفرض نفسها بقوة. هذا ما عبر عنه الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، في شهادته قبل أيام أمام مجلس النواب، عندما حذّر من أن المرحلة المقبلة، قد تشهد «احتمال نشوب صراع دولي كبير بشكل متزايد».
ومع تولي الجنرال مايكل كوريلا مقاليد قيادة منطقة عمليات القيادة الوسطى، تطرح تساؤلات عمّا إذا كانت قيادته ستحدث فارقاً، وتحمل تغييراً في نظرة الولايات المتحدة إلى المنطقة؟ فالرجل جاء إلى مقر الاحتفال في تامبا بولاية فلوريدا، (مقر القيادة الوسطى)، آتياً مباشرة من مهمة الإشراف على نشر القوات الأميركية في أوروبا، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
من نافل القول، أن الاستراتيجية الأميركية التي جرى تبنيها مبكراً، منذ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وحافظ عليها الرئيس دونالد ترمب، كانت تشير إلى أن القارة الأوروبية ومنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، لم تعد أولوية. وبالتالي، تتحول الطاقات والموارد نحو مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادي والهندي. ورغم أن الرئيس الحالي جو بايدن، لا يزال حتى اللحظة، ملتزماً بتلك الاستراتيجية، فإن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، أعلن الجمعة الماضية أن «الأحداث الأخيرة في أوروبا، غيرت الكثير من الأمور، بما في ذلك كيفية تفكير الولايات المتحدة في وضع قوتها الحالي». وقال إن «التغيير في الوضع الأمني في أوروبا قد يعني وجود قوة أميركية في أوروبا مختلفة عما كان متصوراً في البداية قبل غزو روسيا لأوكرانيا». وأردف «البيئة الأمنية مختلفة الآن. وأعتقد أننا نعمل على افتراض أن أوروبا لن تكون كما هي «بعد الآن»... «لذلك؛ ربما لا ينبغي أن يكون لدينا النظرة نفسها إلى وضعنا في أوروبا».

- من هو مايكل كوريلا؟
في بطاقة تعريفه المنشورة على موقع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ومواقع إلكترونية أخرى، فإن اللواء مايكل «إريك» كوريلا، القائد الخامس عشر للقيادة الأميركية الوسطى، المولود عام 1966 في ولاية كاليفورنيا، نشأ في إلك ريفر بولاية مينيسوتا، وخدم في سلاح المشاة بعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت عام 1988، وحصوله على درجة البكالوريوس في هندسة الطيران. وبعدها حصل على ماجستير إدارة الأعمال من جامعة ريجيس، ودرجة الماجستير في دراسات الأمن القومي من الكلية الحربية الوطنية.
وخلال حياته المهنية، قاد كوريلا وحدات العمليات الخاصة المحمولة جواً، والميكانيكية، وقوات «سترايكر»، ووحدات العمليات الخاصة المشتركة في القتال وحفظ السلام وعمليات النشر التشغيلية. وشارك في الهجوم المظلي في بنما، وخدم في عملية «عاصفة الصحراء» في العراق، وعملية «استعادة الأمل» في هايتي، والعملية المشتركة في كوسوفو ومقدونيا، وعملية «العزم المشترك» في البوسنة والهرسك، وعملية «حرية العراق»، وعملية «الحرية الدائمة» في أفغانستان، وعملية «العزم المتأصل» في العراق أيضاً.
لقد أمضى كوريلا نحو عقد من الزمن من 2004 إلى 2014 في قيادة العمليات التقليدية والخاصة في العراق وأفغانستان، التابعة لمنطقة القيادة الوسطى. فعام 2005، عيّن في العراق قائداً لكتيبة «سترايكر» في فرقة المشاة الخامسة والعشرين. وحصل على «النجمة البرونزية» بعد معركة في مدينة الموصل، التي «أصيب فيها ثلاث مرات، لكنه واصل إطلاق النار على المتمردين أثناء توجيه قواته». وكان قائداً سابقاً للفوج 75 (راينجر).
ومن العام 2012 إلى 2014 كان مساعد القائد العام لقيادة العمليات الخاصة المشتركة. وشغل من العام 2016 حتى 2018، منصب القائد العام للفرقة 82 المحمولة جواً، التي نشرت الشهر الماضي في الجناح الشرقي لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو). ومن العام 2018 وحتى 2019 شغل منصب رئيس أركان القيادة الوسطى، ليتولى بعدها قيادة الفيلق 18 المحمول جواً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ومسؤولية الإشراف على نشر القوات الأميركية في ألمانيا، استجابة للأزمة الروسية – الأوكرانية نهاية عام 2021 وبداية 2022.
في احتفال تسليم وتسلم مقاليد القيادة الأميركية الوسطى الجديدة، بين كوريلا والقائد السابق الجنرال كينيث ماكينزي، في أول أبريل (نيسان) الحالي، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إن «المنطقة التي تغطيها قيادة (سينتكوم)، هي المكان الذي نحمي فيه الممرات المائية لكي تتدفق التجارة العالمية». وأضاف «إنها المكان الذي نحارب فيه الإرهابيين الذين يهددون مواطنينا، والمكان الذي نعمل فيه مع شركائنا لمواجهة الاضطراب من إيران ووكلائها».
وتابع أوستن «إن القيادة الوسطى أمر أساسي لأمننا، وأساسية لاستعداداتنا ولتنفيذ مهمتنا». وشدد على أن «الشراكات التي تعقدها (سينتكوم) في المنطقة، بالغة الأهمية وتركز عليها»، في إشارة إلى العلاقات التي تربطها مع دولها، خصوصاً بعد ضم إسرائيل إليها.
هذا، وعُدّ كلامه عن إيران و«دورها المزعزع للاستقرار» مع وكلائها في المنطقة، مؤشراً على «تحفظات» العسكريين الأميركيين عن السياسات المتبعة معها، والصعوبات السياسية التي تواجهها إدارة الرئيس جو بايدن في «تسويق» العودة إلى اتفاق نووي مع إيران، في ظل استبعادها مناقشة كل من برنامجها الصاروخي الباليستي وسياساتها الإقليمية، وعلاقاتها المتوترة مع دول المنطقة المعترضة.
ولفت أيضاً كلام الجنرال كوريلا، القائد الجديد لـ«سينتكوم»، الذي قال إن «خصومنا يبحثون عن أي مؤشر على تذبذب التزام أميركا بالأمن الجماعي في المنطقة... أعداؤنا مستعدون للاستفادة من أي فرص تظهر، يجب ألّا نمنحهم أياً منها». وذلك في ترداد لكلام سلفه الجنرال ماكينزي عن ضرورة «إظهار التزاماتنا تجاه حلفائنا». وأردف كوريلا «إن القيادة الوسطى يجب أن تشارك في ضمان استمرار التجارة العالمية في المنطقة، ويجب أن تضمن أيضاً ألا تؤدي التهديدات هناك، إلى تطوير القدرة على إلحاق الضرر بالوطن الأميركي».
للعلم، توالت تصريحات مسؤولي «البنتاغون» خلال الأيام الماضية، التي تتحدث عن دور الولايات المتحدة في منطقة عمليات القيادة المركزية الوسطى، لتعلن نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، دانا سترول، أن إيران هي المصدر الرئيس للاضطراب في المنطقة، في حين لا يزال تنظيم «داعش» يشكل أيضاً تهديداً، على الرغم من عدم سيطرته على أراض في العراق وسوريا. وبينما لفتت إلى أن وزارة الدفاع «تدعم الجهود الدبلوماسية» لوزارة الخارجية لتهدئة النزاعات الجارية في المنطقة، أكدت أن منطقة الشرق الأوسط «تعد مسرحاً رئيسياً للتنافس» مع الصين.

- نظرة جديدة للمنطقة
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الأصوات تتحدث عن ضرورة تغيير النظرة إلى منطقة عمليات القيادة الوسطى، «التي ارتبطت تاريخياً بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة المبنية على خريطة ذهنية ضيقة، موروثة عن حقبة سنوات الحرب الباردة الأولى». ويقول تقرير لمجلة «فورين أفيرز»، إن واشنطن، بإداراتها ومؤسساتها السياسية وجامعاتها ومراكز فكرها، نظرت إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، استناداً إلى الاستمرارية الجغرافية، والتفاهمات المنطقية للمنطقة، وتاريخ القرن العشرين. إلا أن هذه الخريطة أصبحت قديمة بشكل متزايد، حيث تعمل القوى الإقليمية الرائدة خارج الشرق الأوسط التقليدي، بالطريقة نفسها التي تعمل بها داخله. ثم إن العديد من المنافسات الأكثر أهمية فيها، تلعب الآن خارج تلك الحدود المفترضة.
ويضيف التقرير، أن «البنتاغون» لطالما عرفت هذا الأمر؛ وهو ما أدى إلى فصل القارة الأفريقية عن منطقة عمليات «سينتكوم» عام 2007، وإنشاء القيادة الأميركية في أفريقيا. ورغم ذلك، لا تزال المنطقة التي تغطيها القيادة الوسطى، تشمل أيضاً جيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا، وكينيا، وباكستان، والصومال، والسودان.
أيضاً يقول التقرير، إن هذا الاختلال الدراماتيكي في النظر إلى المنطقة، يشير إلى خطورة التمسك بنموذجها «القديم»، على صنع السياسات والمؤسسة العسكرية الأميركية. فهو ليس فقط خارج نطاق السياسة الحالية والممارسة العسكرية، بل إنه يعوق أيضاً محاولات مواجهة العديد من أكبر التحديات اليوم... من أزمات اللاجئين المتسلسلة إلى حركات التمرد الإسلامية، إلى الدور الذي تقوم به الدول الإقليمية الكبرى، كإيران وتركيا وحتى إسرائيل، التي باتت تساهم بشكل متنامٍ في إعادة تشكيل المنطقة.
ومع تحول إيران إلى واحدة من أكثر القوى الإقليمية خطورة على استقرارها، في ظل طموحاتها الإمبراطورية وتزايد علاقاتها مع الصين وروسيا، يتساءل البعض عمّا إذا كان لا يزال ممكناً احتواء خطرها من دون اعتماد سياسات تستلهم ما يجري تنفيذه في مواجهة طموحات روسيا «القيصرية»؟
وغني عن القول، أن في طليعة أهداف السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط إبان «الحرب الباردة»، كانت الحفاظ على الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل وإبعاد النفوذ السوفياتي. ورغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة منذ الثورة الإيرانية، وأحداث «11 سبتمبر (أيلول)»، حافظت سياسة واشنطن لعقود عديدة على تدفق النفط وعلى الاستقرار، وعلى تعريفها القديم للمنطقة.
ولكن مع تراجع واشنطن عن الاهتمام بها، وتعميق الدول الخليجية الغنية لاستثماراتها وروابطها العميقة مع دول أخرى في الغرب، وتنامي روابطها مع آسيا، وتكثيف إيران نشر شبكاتها بالوكالة ونفوذها في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، وخوضها منافسة متزايدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وبناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين... صار على واشنطن أن تتعامل مع بكين أيضاً. فالصين تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عنها. وهو ما ضاعف من فرص سوء التفاهم الخطير، ناهيك عن المبالغة في تقدير آثار «الانسحاب الأميركي».
أيضاً في تقييم للنتائج الأولى للحرب في أوكرانيا، قال مسؤول دفاعي الأسبوع الماضي، إن قادة «البنتاغون» باتوا «يشعرون بثقة جديدة في القوة الأميركية». وأردف «منذ عقد من الزمن، كان قادة البنتاغون يراقبون بقلق متزايد الحصار في أفغانستان، وصعود الصين كقوة عالمية وبرنامج التحديث العسكري الروسي الطموح، وتحديات القوى الإقليمية الأخرى»... «كان الإجماع في بكين وموسكو وحتى بين البعض في واشنطن أن حقبة (الهيمنة الأميركية العالمية) تقترب بسرعة من نهايتها». ولكن اليوم عادت الثقة بالقوة الأميركية، مدفوعة بالفاعلية المفاجئة للقوات الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة، والخسائر الفادحة لروسيا في ساحة المعركة، والدروس التحذيرية التي يعتقد أن الصين «تأخذها في الاعتبار» من هذه الحرب. ونقل عن وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس، تقييماً مشابهاً قائلاً إن كلاً من (الرئيسين الصيني والروسي) شي (جينبينغ) و(فلاديمير) بوتين وصفا الولايات المتحدة بأنها «في حالة انحدار»، ومشلولة سياسياً ومتشوقة للانسحاب من بقية العالم. قبل أن يضيف «إلا أن بعد الذي جرى في أوكرانيا على شي أن يتساءل عن جيشه في هذه المرحلة (...) مقاومة الأوكرانيين يجب أن تجعله يتساءل عمّا إذا كان قد قلل من أهمية عواقب هجوم عسكري على تايوان». وهو ما قد يكون مؤشراً على احتمال أن تخضع سياسات واشنطن في منطقة عمليات القيادة الوسطى لإعادة نظر هي الأخرى.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.