رويس... فيلسوف مغمور أنقذ سمعة الفلسفة الأميركية

الغريب أنه لا يوجد كتاب واحد باللغة العربية عن رويس ولم يشر له سوى الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «حياة الفكر في العالم الجديد» والدكتور عزمي إسلام في كتابه «اتجاهات في الفلسفة المعاصرة»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

رويس... فيلسوف مغمور أنقذ سمعة الفلسفة الأميركية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

يتصور البعض أن الإسهام الأميركي الوحيد في الفلسفة الحديثة يتمثل في المذهب البراغماتي الذي يعني ببساطة أن تكون «عملياً» تبحث عن طرق مباشرة لتحقيق أهدافك. لكن العقل الجمعي أصبح ينظر لكلمة «البراغماتية» باعتبارها سيئة السمعة، حيث تعنى لدى كثيرين النقيض للمبادئ والمُثل والأخلاق، ويزداد الأمر تعقيداً حين يتردد هذا المصطلح بقوة في وصف خبراء سياسة أميركا الخارجية.
من هنا تأتي أهمية كتاب «العقل الأميركي» الصادر في القاهرة للباحث الدكتور يسري إبراهيم عن دار «أقلام عربية»، الذي يرصد فلسفة الأخلاق والمثالية لدى الفيلسوف الأميركي جوزيا رويس على نحو يقطع بأن لدى أميركا إسهامات مهمة أخرى تتجاوز تلك الأفكار العملية التي تنشد المصلحة!
ورغم أنه لا يحظى في التاريخ الفكري الأميركي بالشهرة التي تحظى بها أسماء أخرى، مثل وليم جيمس، وجون ديوي، يعد رويس أكبر ممثل للمثالية في أميركا الشمالية في الفترة التي تمتد بين الحرب الأهلية الأميركية والحرب العالمية الأولى، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولكن فلسفة الرجل لم تكن نبتة أميركية خالصة، فقد انبثقت في الحقيقة من الفلسفة الألمانية المثالية الممتدة من كانط إلى هيغل. وحققت المثالية انتشاراً سريعاً في أميركا توج بتأسيس المجلة الفلسفية عام 1892 في جامعة «كورنل» على يد جولد شيرمان.
كان رويس مشغولاً دائماً بهدف واحد هو أن يكشف عن المطلق في الكون، حيث يبدأ بتجربة جزئية وينتهي إلى الذات الأعظم، ومن إمكانية الخطأ يبرهن على الحقيقة المطلقة، ومن القيمة الفردية يصل إلى مقياس عام للقيمة. والعقل المطلق عنده هو الحقيقة النهائية وهو أعظم من العقل الفردي ويشتمل عليه ولا يمكن فهم أي تجربة متناهية إلا عن طريق التجربة المطلقة التي توجد فيها كل الأشياء. إن النزعة الميتافيزيقية الواحدية التي يقدمها رويس في كتابه «الجانب الديني للفلسفة» ترى أن الكون كله عقل مطلق وأن جميع العقول الإنسانية جزء منه، وهذا العقل المطلق عقل أبدي ولا متناه وواحد وكامل ومعصوم من الخطأ، يعلو على كل شيء، وهذا المطلق هو الذي يقود إلى الإيمان بالله. وفي كتابه «العالم والفرد» ينظر رويس إلى الإيمان بوصفه إرادة مطلقة تهدف إلى تحقيق غرض مطلق لامتناهٍ.
يعتمد رويس على هذه النزعة «الميتافيزيقية» في حل المشكلات الأخلاقية الكبرى مثل مشكلة الشر وخلود النفس والحرية، كما يعتمد عليها أيضاً في تحديد المثل الأعلى الأخلاقي النهائي. وهو يرى أن الفلاسفة وعلماء الاجتماع لم ينتبهوا إلى البناء الداخلي للكيانات الاجتماعية، ويذهب إلى أنه يجب أن نميز بين الجماعة الحقيقية وبين ما يسميه «الحشد» الذي هو عبارة عن تجمع عشوائي لأفراد يحتشدون بالصدفة لأداء نشاط ما مؤقت. وقد يتصف هذا الحشد بالعقلانية ولكنه يفتقر إلى المؤسسات والتنظيم والوحدة المترابطة والتاريخ والتقاليد، أما الجماعة الحقيقية فإنها تتكون من أفراد يشاركون في أنشطة مترابطة ومختارة بطريقة واعية كما يتشاركون في تاريخ ومصير واحد أي أن ماضيهم مشترك ومستقبلهم مشترك أيضاً.
ويؤكد المؤلف، أن فلسفة رويس تعد على هذا النحو فلسفة أخلاقية بامتياز تهدف إلى تحقيق «الانسجام» في الحياة الإنسانية. وكان هذا الهدف يشغل رويس منذ وقت مبكر من حياته، فحينما كان في العشرين من عمره نشر مقالاً بعنوان «انسجام الحياة» ناقش فيه إذا ما كانت الحياة الإنسانية تنمو عن طريق الانسجام أو عن طريق التغيرات المفاجئة. وهو ينشد تحقيق الانسجام أولاً داخل الفرد حيث تتنازعه أغراض أو إرادات كثيرة لا يستطيع أن يحققها جميعاً في آن واحد، ويكون لزاماً عليه أن يختار بينها. لقد بدأ رويس حياته في الغرب الأميركي بكاليفورنيا، حيث سادت النزعة الفردية وقيمها ودبّ النزاع بين الأفراد واعتمد كل شيء على الإنسان الفرد القوي والشجاع والمغامر، ولكن دراسته للفلسفة الألمانية بصفة خاصة وتأملاته في حياة الفرد وحياة الجماعة جعلته يدرك أن الفرد لا يحيا حياة أخلاقية حقيقية من دون النظام الاجتماعي، كما أدت به إلى أن يقول في كتابه «كاليفورنيا - دراسة للشخصية الأميركية»، إن النظام الاجتماعي نظام مقدس وحينما نفكر في هذا النظام بوصفه أداة لنا ولعبة ونجعل مصلحتنا الخاصة هي الهدف؛ فإنه يصبح حينئذ نظاماً تافهاً وحقيراً بالنسبة إلينا ونعتبره دنيئاً ومنحطاً وفاسداً وغير روحي ونحاول أن نهرب منه دائماً، ولكننا إذا عدنا مرة أخرى وخدمنا النظام الاجتماعي ولم نخدم أنفسنا فقط فسرعان ما نجد أن ما نخدمه هو مصيرنا الروحي الأعلى في شكل مادي، وأنه في الحقيقة ليس دنيئاً أو فاسداً أو غير روحي، ولكننا نحن الذين نكون كذلك حينما نهمل واجبنا.
يتساءل المؤلف: الغريب أنه لا يوجد كتاب واحد باللغة العربية عن جوزيا رويس، ونستطيع أن نتكلم على نحو أكثر تحديداً فنقول، إنه لم يكتب عنه باللغة العربية سوى الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «حياة الفكر في العالم الجديد» والدكتور عزمي إسلام في كتابه «اتجاهات في الفلسفة المعاصرة»، ومعنى ذلك أن هناك تقصيراً يجب استدراكه.
ولد رويس في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1855 في مدينة صغيرة تسمى «جراس فالي» بولاية كاليفورنيا، ليس فيها ما يحيي ذكرى الرجل سوى لوحة معدنية تذكارية في مكتبتها المحلية! ويذكر الكتاب، أن شخصية رويس تعد شخصية غامضة في تاريخ الفكر الأميركي فلا نعرف عن حياته سوى القليل، ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان خجولاً حذراً إزاء سيرته الذاتية. وكانت سارة رويس قد أعلنت أن زوجها كان يرى أن تاريخه الشخصي لا يجب أن ينشر. في عام 1849 رحل أبوه مع أسرته في عربة خشبية من أوهاويو في الشرق إلى كاليفورنيا في الغرب بحثاً عن الذهب، وكان رجلاً طموحاً هاجر من إنجلترا إلى كندا ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولكن الحظ لم يحالفه فلم ينجح قط في العثور على الذهب في كاليفورنيا؛ الأمر الذي يجعله يتخلى عن هذا الحلم ويتجه أخيراً إلى العمل أميناً لأحد المخازن.
في هذه الأسرة ولد جوزيا بشعره الأحمر وعاش مع شقيقتين تكبرانه وتشاركان أمه في رعايته والقلق عليه على النحو الذي حرمه من أن يحيا صباه بطريقة طبيعية كغيره من الصبية؛ ما جعله يشعر دائماً بالحاجة إلى الحب والرفقة. ورغم أنه بكاليفورنيا كان في وطنه وبين أهله وأصدقائه، فإنه كان يشعر بعزلة عقلية دفعته في 1879 إلى أن يكتب رسالة إلى صديقه الفيلسوف البراغماتي وليم جيمس، يقول فيها «لا توجد في كاليفورنيا فلسفة، والجو الذي تدرس فيه الميتافيزيقا جو فاسد أود الخروج منه».
وبفضل مساعدة وليم جيمس وجورج هربرت بالمر في قسم الفلسفة بجامعة هارفارد، دعي عام 1882 حيث عمل بها محاضراً للفلسفة لمدة عامين. وفي عام 1885 عُيّن أستاذاً مساعداً بها وظل رويس حتى وفاته في 1916 دعامة أساسية لقسم الفلسفة بالجامعة في عصرها الذهبي. وخلال ذلك الوقت لم تنقطع مناقشاته مع وليم جيمس عن مزايا المثالية المطلقة وعيوبها، تلك المناقشات التي خيمت عليها روح الحب والمودة. لعب وليم جيمس الذي كان يكبر رويس بثلاثة عشر عاماً دوراً كبيراً في حياته ونشأت بين الفيلسوفين علاقة حميمة رغم اختلافهما الفلسفي العميق. يتضح ذلك من خلال الرسائل التي كتبها كل منهما للآخر على مدى ثلاثة وثلاثين عاماً والتي سادها الحب والصدق والاحترام المتبادل رغم الاختلاف في الرأي، ومنها تلك الرسالة التي كتبها رويس إلى جيمس في 12 سبتمبر (أيلول) عام 1900 حينما كان جيمس في ألمانيا. يقول فيها «إن العام المقبل سيكون عاماً موحشاً جداً من دونك ثم إن شغفي بهارفارد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلاقاتي وصلاتي بك أكثر من أي شيء آخر، فالفلسفة أنا أحبها لذاتها والحياة أحبها لمغزاها العام، أما هارفارد فهي تعني أصلاً أنت».
رد جيمس عليها هذه الرسالة برسالة أخرى كتبها في 26 سبتمبر عام 1900 يقول فيها «الحبيب رويس، كم كان سروري لتسلم رسالتك الطويلة المبهجة مساء الأمس، ولا حاجة لي إلى أن أقول يا فتاي العجوز العزيز كم تأثر فؤادي بما أفصحت عنه من مكنون حبك وودك، وكم أنعمت عليّ من سرور؛ إذ تقول لي إنك افتقدتني. إنني أيضاً أفتقدك جداً وأحنّ إليك من صميم فؤادي، إنني لا أجد في نازلي الفندق ولا خادماته الذين لا أكاد أحظى بصحبة أحد غيرهم، ذلك المزيج الفريد الفذ من سعة الاطلاع والإبداع والعمق والشمول والإحاطة والذكاء والفطنة التي بتعويدك لي عليها طوال كل تلك السنوات أفسدت عليّ رضائي بالذي هو أدنى منها من أنواع الحديث والمعاشرة».
أثر رويس في عدد من الفلاسفة المثاليين الأميركيين مثل هوكنج وهويسون ولويفنبرج، كما أشرف على الرسالة التي تقدم بها الفيلسوف الشهير جورج سنتيانا إلى جامعة هارفارد للحصول على الدكتوراه في الفلسفة وترك تأثيراً كبيراً في فلسفته. وهناك عدد آخر من علماء المنطق الذين تأثروا به، كما أنه أول من درس علم المنطق في جامعة هارفارد.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.