وديع سعادة: ديواني الأول كتبته بخط يدي ووزعته على المارّة

غلاف المجموعة الكاملة
غلاف المجموعة الكاملة
TT

وديع سعادة: ديواني الأول كتبته بخط يدي ووزعته على المارّة

غلاف المجموعة الكاملة
غلاف المجموعة الكاملة

تستعد «دار النهضة» في بيروت، لإصدار مجموعة أعمال وديع سعادة، التي كتبها إلى اليوم، وإن كانت الدار نفسها قد أصدرت سابقاً مجموعة وديع سعادة، فهي أصبحت ناقصة لأنه من عام 2008 صدر له ثلاثة دواوين شعرية ستنضم إلى الكتاب الجديد، وهي: «من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب»، و«قل للعابر أن يعود - نسي هنا ظله»، و«ريش في الريح».
وديع سعادة الذي يقول إنه لا يستدعي الكتابة، ولا يتقصدها، له 13 ديواناً، بدأ بكتابتها قبل أن يبلغ العشرين. «أنا لا أؤمن بالولادة القيصرية للشعر. تأتي القصيدة من تلقاء نفسها أو لا تأتي، بدليل أن مجموعتي الأولى «ليس للمساء إخوة» التي تضم 52 قصيدة، استغرقتني 13 عاماً من عام 1968 حتى 1980، وبين الديوان والآخر تمر 3 سنوات أحياناً».
يكرر سعادة حكاية طريفة، هو أنه كان يكتب الشعر العمودي، في قريته شبطين (شمال لبنان) التي ولد فيها عام 1948، ولم تكن تصل إليها أي كتب حديثة لا سيما في الشعر، وأنه لم يكن قد سمع بـ«قصيدة نثر». «ذات نهار قررتُ أن أمزّق قصائدي العمودية وأكتب شعراً غير مقيّد بوزن ولا بقافية، مأخوذاً بحرية الكتابة غير المقيدة بأي قيد». بقي في ذاك النهار يتمشى على سطيحة بيته في شبطين، جيئة وذهاباً، متسائلاً: «كيف سيتلقى القارئ هذا النوع من الشعر وهل أمزق قصائدي العمودية أم لا؟ وقررت أخيراً أن أمزق هذه القصائد وبدأتُ كتابة أولى قصائدي النثرية التي كانت بثلاث كلمات فقط: (ليس للمساء إخوة). ثم جعلتُ هذه الكلمات عنواناً لكتابي الأول». «حين ذهب إلى بيروت، وبعد أن اكتملت المجموعة «وقفت في الشارع ووزعت الديوان بخط يدي على المارة، قريباً من كلية الآداب للجامعة اللبنانية، بعتها بليرتين لمن يملكهما، وبالمجان لمن لا يملك. كنت أريد أن أختبر كيف ينظر الناس إلى الشعر والشاعر. وددت أن أكسر مقولة إن الشاعر يسكن برجاً عاجياً». لكن هذا الديوان، سيكون فاتحة خير على الشاعر، الذي سيكتب عنه النقاد وبينهم عصام محفوظ، ويلفت النظر إلى موهبته من حينها.
بين شبطين والبترون التي انتقل إليها مع والدته ليلتحق بالمدرسة، قضى وديع الصغير سنواته الأولى. في عمر الـ14، كان عائداً من المدرسة، ذات يوم، استوقفه عمه وأخبره أن والده قد مات، ذهب إلى القرية فوجده متفحماً بفعل حريق. «تلك الحادثة أثرت على كل حياتي. كانت أول صدمة أمام الموت، ثم ازدادت بالحروب وبسبب العالم العنيف. بقيت ثيمة الموت ترافقني في كل شعري». لم يكمل وديع تعليمه. بعد الشهادة الإعدادية، ضاقت الأحوال المادية، وكان عليه أن يتدبّر أمره، وقد فعل.
التحق وديع بإخوته في بيروت حين بلغ العشرين. «سكنت عند أخي في فرن الشباك. نحن عائلة من 6 صبيان و4 بنات، لم يبقَ إلا أنا وشقيقان اثنان. في بيروت، عملت موزعاً لأفلام (كوداك) وأستاذاً للصفوف الابتدائية، قبل أن أنتقل إلى الصحافة والكتابة، أسهر في شارع الحمرا خاصة في (الهورس شو)، ولا ينقضي الليل قبل أن أقرأ من ساعتين إلى ثلاث ساعات». في بيروت تعرف سعادة إلى أنسي الحاج وأدونيس وغادة السمان وعصام محفوظ وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وغيرهم من الشعراء والكتاب والفنانين. وهناك تعرّف على مجلة «شعر» و«مواقف» و«الآداب». «في البدايات كتبت في جريدة النهار». كان ينشر لي شوقي أبي شقرا، قبلها كنت محرراً في «الأسبوع العربي».
لم تتسع له بيروت، على رحابتها في تلك الفترة. حزم حقيبته وانطلق إلى باريس في مطلع السبعينات. بمال شحيح سافر، ونام بعد أن فرغت جيوبه، في صقيع شهر ديسمبر (كانون الأول)، في مأوى للعجزة، وفي مواقف الباصات، ثم ساقته رحلته إلى الحدود الإسبانية، ولم يتمكن من الدخول لأنه لا يملك سعر الفيزا. «عدت إلى باريس (أوتوستوب) مع عروس وعريس، بتّ في بيتهما ثم كتبا لي يافطة، تسهل لي طريق الرجعة. بقيت في باريس إلى أن أسعفني أخي بسعر التذكرة لأرجع إلى بيروت. من بعدها سافرت للمرة الأولى إلى أستراليا عام 1973، بقيت فيها تسعة أشهر، عملت في المصانع، أحدها كان مصنعاً للسيارات، إلى أن جمعت ثمن تذكرة الإياب».
لكن لماذا يبحث صحافي وشاعر عن كل هذا التشرد: «أردت أن أسافر. أن أكتشف العالم. خلقت على هذه الأرض وأريد أن أراها، أن أتعرف إليها».
عاد وديع إلى بيروت، عمل في مصنع للكيماويات، وبائعاً متجولاً للإسعافات الأولية للمسنين، لكن حلم الكتابة لم يسقط يوماً، ولا إدمان السفر. سافر إلى لندن بعد اندلاع الحرب الأهلية وعمل في الصحافة، ومن بعدها في باريس في «النهار العربي والدولي» وفي قبرص في «الموقف الدولي»، وفي اليونان في مشروع ترجمة روايات «عبير» مع جاد الحاج، حيث كان يهتم بالتدقيق اللغوي. وفي عام 1988 كانت الرحلة التي حملته إلى أستراليا، للمرة الثانية، ليستقر هناك إلى يومنا هذا. «عندما سافرت كان عندي زاوية في (النهار العربي والدولي) اسمها (قبض الريح) بمجرد أن وصلت إلى أستراليا عملت في صحيفة هناك اسمها (النهار) وأكملت كتابة زاويتي». رجع الشاعر إلى لبنان تكراراً، من حينها، ذات مرة كان ينوي العودة النهائية، لكن لا شيء يشجع. «آخر مرة زرت فيها لبنان كانت عام 2018، وأنا هناك اتصلوا بي وأعلموني من المغرب أنني حصلت على جائزة (الأركانا)، ومن وقتها لم تتح الفرصة، بسبب الوباء وكل ما تبعه. لعل أفضل ما حصل لي، ليس أنني كتبت 13 ديواناً، وإنما سفري وإقامتي في أستراليا، التي وفرت لي ولأولادي ما لم يعطني إياه وطني من حقوق».
لكن وديع لا يزال يكتب وكأنه ينهل من نبع قريته، محملة قصائده، بالطيبة، والصور الطفولية، دون أن يملّ من اللعب «الشاعر يجب أن يحتفظ بطفولته، وبراءته الأولى، لأن الشعر انعكاس للروح. الثقافة ليست عملاً كتابياً هي نمط حياة. أعرف أن ثمة من يكتبون عما لا يضمرونه، وأن هناك من يكتب عن المحبة وقلبه ممتلئ بالحقد، لكن الشعر الحق هو صدق الذات. أما المكان، فيحمله الإنسان في داخله أينما ذهب».
يكتب الشاعر مقاطع من سيرته الذاتية، لكنه يؤكد أنه لا مشروع لديه لأن يجمعها في كتاب، فهي نتاج ما يفكر به يسجله على السجية.
لا يحب وديع سعادة أن يتحدث عن شعره «بصراحة لا أعرف. أنا فاشل في الكلام على شعري. وفاشل جداً في النقد الأدبي. وما أكتبه لست مصراً على تسميته بقصيدة نثر. أنا أسميه النص الشعري الحديث. الحداثة هي في المضمون الذي ينطوي على الفلسفة والرواية والتشكيل. أنا في غالبية شعري كأنني أحكي عن نفسي. لكنني في الوقت نفسه، أتحدث عن ملايين البشر الذين يشبهونني».
لكن الشاعر الذي يعيش في قارة بعيدة، بقي مكرماً باستمرار. فقبل عام صدرت مجموعة أعماله في القاهرة، عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب» في مجلدين، وقبلها صدرت له في القاهرة أيضاً مختارات، كذلك صدرت مجموعته الكاملة عن «دار راية للنشر» في فلسطين. ونوقشت عن أعماله رسالة دكتوراه لمحمد الضوي في مصر عن «الرؤية والتشكيل في شعر وديع سعادة»، وصدرت في كتاب، وكذلك نوقشت رسالة ماجستير.
صدرت له ترجمات عدة لأعماله ومختارات بالإنجليزية، والإسبانية والإيطالية، وتُترجم حالياً إلى السويدية، كما تُرجمت له مجموعتان إلى الكردية. لحّن له مارسيل خليفة قصيدته «الهجرة» التي غنتها عبير نعمة، كما غنى ولحن له باسل زايد الفلسطيني المقيم في أميركا 3 قصائد.
يؤكد وديع سعادة أنه لم يسعَ يوماً لا لطباعة ولا لتكريم أو جائزة. «هم من يبحثون عني. أنا أنشر كل شعري على موقعي الذي فاجأتني به الشاعرة سوزان عليوان، ويهتم بنشر نتاجاتي عليه صديق لي في ملبورن. هكذا يتاح ما أكتب لكل من يريد، ومن يحب أن يطبع يجد ما يشاء».
ألا يحدّ هذا من عدد الدواوين المبيعة؟ «أنا لم أجنِ من كل دواويني التي طبعت قرشاً واحداً، مع أنني حين أسأل عن كتبي في المكتبات يقولون لي إنها نفدت. بينما حين ترجم ونشر لي المستشرق الألماني شــتيفان فايدنــر قصيدة من سبعة أسطر، بعد ثلاثة أشهر، وصلني إيميل من الجريدة يريدون معرفة رقم حسابي، كي يسددوا لي مستحقاتي. أنا في الأصل لم أسأل دور النشر، ولم أطلب منهم شيئاً، لكنني أروي ذلك فقط من باب المقارنة».
آخر ديوان صدر للشاعر هو «ريش في الريح» عام 2014، «من يومها لم أكتب شيئاً قط. فكما قلت الكتابة ليست وظيفة ملزمة».
لا يريد وديع سعادة الحديث عن شعر الآخرين. يكتفي بالقول إنه يتابع الحركة الثقافية في لبنان والعالم العربي عن كثب عبر الإنترنت: «أبارك لكل من يكتب، لكنّ هناك استسهالاً. ثمة كتّاب ممتازون، لكنني أرى أن المستوى في لبنان قد هبط كثيراً».



مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات
TT

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي اليهودي الأسترالي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم» والذي صدر بطبعته الإنجليزية عن دار النشر البريطانية «فيرسو بوكس» (2023م)، مستعرضاً كيف يتردّد صدى التجارب الصهيونية على الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً.

وفي النسخة العربية من الكتاب الصادرة حديثاً (2024م) عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، في بيروت، ترجمة د. عامر شيخوني، يتتبع لونشتاين بالإحصائيات والأدلة الاستقصائية تجارة السلاح الإسرائيلية وتصرّفاتها غير الأخلاقية باستخدام أدوات قَمعِها في فلسطين المحتلَّة من أجل الدعاية والتسويق لأسلحتها العسكرية والإلكترونية، وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنّه صادِر عن مؤلِّف يهودي امتلكَ هو وأسرته خلفية ثقافية يهودية وصهيونية، إلَّا أنّه تنبَّه إلى السلوك الاستيطاني الإسرائيلي منذ نشأته حتى الآن.

العنصرية الصريحة

يقول أنتوني لونشتاين الذي عَمِلَ مع صحف «نيويورك تايمز»، و«الغارديان»، و«بي بي سي»، و«واشنطن بوست»، و«ذي نيشن»، و«هآرتس». عندما بدأتُ الكتابة عن إسرائيل - فلسطين في أوائل العَقد الأول من هذا القَرن، كان ذلك في المراحل الأولى التي مارس فيها المشرفون رقابة الإنترنت ووسائل الإعلام الرئيسية، ونادراً ما أتاحوا المجال لسماع أصوات أكثر انتقاداً ضد الاحتلال الإسرائيلي. ويبيّن المؤلِّف بِأَنَّه وُلِدَ في بيت يهودي ليبرالي في مدينة ملبورن بأستراليا، ويضيف، حيث لم يكن تأييد إسرائيل واجباً دينياً، إلَّا أنّه كان متوقعاً بكلّ تأكيد. ويؤكد لونشتاين، نَجا جَدّي وجَدّتي من النازية في ألمانيا والنمسا في عام 1939م، وجاءوا لاجئين إلى أستراليا، ورغم أنهما لم يكونا من الصهاينة المتحمّسين، فقد كان من المعقول اعتبار إسرائيل مكاناً آمناً للشعب اليهودي فيما لو حدَثت أزمة أخرى لهم في المستقبل. ويلفت في مقدّمته للكتاب: سرعان ما أصبحتُ غير مرتاح مع العنصرية الصريحة التي سمعتُها ضد الفلسطينيين، وللتأييد الفوري لجميع أعمال إسرائيل. ويرى أنتوني لونشتاين أنّ السَّرد الطاغي لديهم كان يرتكز على الخوف؛ اليهود معرَّضون للهجمات دائماً، وإسرائيل هي الحلّ، وليس مهمّاً أن يعاني الفلسطينيون في سبيل أن يعيش اليهود في أمان. ويقول لونشتاين: «شعرتُ أنّ هذا الموقف يشبه درساً منحرفاً من دروس المَحرقة اليهودية (الهولوكوست). أصبحتُ الآن مواطناً أسترالياً وألمانياً لأنّ عائلتي هربت من أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية. وأنا الآن يهودي مُلحِد».

سرديّة الجرح الفلسطيني

وعن زيارته الأولى إلى الشرق الأوسط، يصف لونشتاين المشهد الفلسطيني في الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، بأنَّ إسرائيل تُضيّق الخناق الإسرائيلي المتزايد في فلسطين، ويذكر الكاتب: «عشتُ في حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية، وشاهدتُ الشرطة الإسرائيلية تُضايق وتُهين الفلسطينيين دائماً». وعن تأكيد عنصرية إسرائيل يستشهد المؤِّلف بنتائج استبيان أجري عام 2007. وافق من خلاله ربع الأميركان على أنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. وأقرَّ بذلك ناشِر جريدة هآرتس، الصحيفة الصهيونية الأكثر تقدمية، حيث كتبَ عاموس شوكِن Amos Schoken سنة 2007: «دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري بكل وضوح وبساطة، يستطيع المرء أن يقول أشياء كثيرة عن ذلك، إلَّا أنّه لا يستطيع أن يقول إنّ إسرائيل تُحقّق الصهيونية في دولة يهودية وديمقراطية». ويشير الكاتب إلى أنَّ ادِّعاء إسرائيل بأنّها دولة ديمقراطية زاهرة في قلب الشرق الأوسط تَتحدّاه الوقائع على الأرض، حيث ما زال تقديم أي تقرير إخباري من فلسطين يُعَدّ تحدّياً صعباً.

الصهيونية... زهرة في بيت زجاجي

يتحدث المؤلِّف في كتابه عن المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 - 2003م)، حيث يقول: «تمتَّع سعيد برؤية واضحة للأصول الحقيقية للدولة اليهودية»، وكتبَ سعيد: «كانت الصهيونية زهرة، نبَتتْ في بيتٍ زجاجي في بيئة من القومية الأوروبية، ومعاداة السامية، والاستعمار، بينما نشأت الوطنية الفلسطينية من الموجة العارِمة للمشاعر العربية والإسلامية المعادية للاستعمار».

ويعقب لونشتاين على توصيف سعيد، بقولهِ هذا النوع من القومية المتطرّفة هو الذي تمّت الدعاية له على مدى أكثر من نصف قرن، ويرى لونشتاين أنَّ وضع إسرائيل كدولة إثنية قومية كان واضحاً منذ نشأتها في عام 1948، غير أنّ ذلك التوجّه أخذ دفعة قوية في القَرن الـ21. وكان بنيامين نتنياهو القائد الإسرائيلي الأكثر نجاحاً في السعي وراء هذه السياسة، حيث طوّرت إسرائيل صناعة عسكرية على مستوى عالميّ، وتمّت تجربة أسلحتها بشكلٍ مناسب على الفلسطينيين تحت الاحتلال - كما يشير لونشتاين - ثم تمّ تسويقها كأسلحة «تم اختبارها في ميدان القتال». وأضاف الكاتب أنّ شير هيفر Shir Hever هو واحدٌ من أكثر الخبراء تعمُّقاً في فهم النواحي الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، قال لي: «إنَّ تجّار السلاح الإسرائيليين يَنشرون رسالة محدّدة تَعكس الممارسة الواقعية في قمع الفلسطينيين. وكان المختبر الفلسطيني علامة إسرائيلية مهمّة في بيع منتجاتها الأمنية. والإيمان بالاحتلال الدائم لأراضي فلسطين». وبصدد ذلك يقول الدكتور غسّان أبو ستّة في كتاب «سردية الجرح الفلسطيني»، (الريّس، 2020 ص 32)، إنَّ لحروب غزة «هدفاً تسويقيَّاً، لأنّ إسرائيل تُظهر في كلِّ حرب نوعاً جديداً من السلاح الذي تريد تسويقه؛ وللمثال، فإنّ الدرونز القاذف للصواريخ، أصبح بضاعة أساسيّة في تجارة السلاح الإسرائيلية». ويقول أنتوني لونشتاين: «أخبرني الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي Gideon Levy عن اجتماعٍ خاصٍّ حضَره رئيس الوزراء وهيئة التحرير لصحيفته هآرتس. استناداً إلى الألوان في خريطة رئيس الوزراء العالمية، كان العالم كلُّه في أيدينا تقريباً». ويُبيّنُ الكاتب أنّ إسرائيل لديها تجاوزات ومخالفات للقانون الدولي، وإنَّ الإسرائيليين لا يهتمّون لأي شيء. وبحسب المؤلف، فإنّ ميدان تدريبات إسرائيل هي فلسطين، حيث توجد بجوارها مباشرة أمة محتلَّة، توفّر لها ملايين البشر الخاضعين في مختبرٍ لتجريبِ أكثر وسائل السيطرة دقَّة ونجاحاً. ونتيجة لذلك بلغت مبيعات شركات السلاح الإسرائيلية نحو 77.2 مليار دولار.

عالم قاسٍ... القنابل اليدوية بدلاً من البرتقالات

وعن الدَّور المركزي الذي تلعبه الأسلحة الإسرائيلية، يكتب الباحث حاييم بريشيثابنير في كتابه «جيشٌ لا مَثيل له»: «كيف صَنعَتْ قوات الدفاع الإسرائيلية دولَة، تخلَّى الاقتصاد عن البرتقالات، واستخدم القنابل اليدوية بدلاً منها». وذكر أنتوني لونشتاين أنَّ إسرائيل اشتغلت عن قرب مع واشنطن على مدى عقود، مثلاً: دعمَتْ إسرائيل الشرطة السرية في غواتيمالا، والسلفادور، وكوستاريكا أثناء الحرب الباردة، وسلّحت إسرائيل فرق الموت في كولومبيا حتى العَقد الأول من القَرن الـ21م، وكتب كارلوس كاستاينو، تاجر المخدرات السابق الذي ترأّس ميليشيا يمينيّة متطرّفة، مُفَسِّراً في مذكراته المجهولة الكاتب: «أنا أدينُ لإسرائيل بجزءٍ من وجودي وإنجازاتي البشرية والعسكرية. استنسَختُ مبدأ قوات الميليشيا من الإسرائيليين». وقد لخَّص الإسرائيلي إيتان ماك، محامي حقوق الإنسان: «لم يتغيّر الكثير في قطاع الدفاع الإسرائيلي على مَرّ العقود، وما زالت مصالحها، وعدم اهتمامها بحقوق الإنسان، وعدم محاسَبتها مستمرة».

الهيمنة العِرقية

يقول المؤلف إنَّ أبا الصهيونية ثيودور هرتسل (1860 - 1904م)، كتبَ في رسالته الشهيرة «الدولة اليهودية»: «في فلسطين، سنكون جزءاً من الجدار الأوروبي ضد آسيا، وسنعمل كَثَغرٍ أمامي للحضارة ضد البربرية». ويؤكد أنتوني لونشتاين قال لي في وطني والداي اليهوديان الليبراليان، إنَّ «اليهودَ هم شعبٌ مختار، ولديهم علاقة خاصّة مع الله والمجتمع». ويُبيّنُ الكاتب: هناك نظام يسمح بازدهار الهيمنة العرقية ضد غير اليهود، ويُبرِّرُ تجاهل حياتهم. وينتقد المؤلف موقف الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتسوغ (1918 - 1997م)، الذي قال: «يجب أن نسترشد في علاقاتنا الدولية بالقاعدة الوحيدة التي أرشَدتْ حكومات إسرائيل منذ تأسيسها: هل هو أمرٌ جيدٌ لليهود». وعَدَّ أنتوني لونشتاين، ذلك: «بمثابة تبريرٍ لجميع أساليب التعاون الشنيع مع الأنظمة الشنيعة». ويُعلَّق المفكّر والأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه «المثلّث المَصيري؛ الولايات المتحدة وإسرائيل والفلسطينيين»، إنَّ التركيز الوحيد على مصالح اليهود كان «حجَّة تَستندُ على نتائجَ تترتَّبُ على اليهود وليس على الشعب المَغلوب الذي حُذِفَتْ حقوقه وإراداته - في سلوكٍ غير مُستغرب بين الصهاينة الليبراليين، أو بين المثقفين الغربيين».

ويذكُر الصحافي ساشا بولاكوف - سورانسكي Sash Polakow – Suranksy في كتابه عن علاقة إسرائيل السريّة بنظام الفَصل العنصري في جنوب أفريقيا، «التحالف غير المنطوق» The Unspoken Alliance إذ «تدهوَرتْ صورة إسرائيل بأنّها دولة الناجين من المَحرقة المحتاجين للحماية، واتحدرتْ تدريجياً إلى صورة قزمٍ إمبريالي عميلٍ للغرب». ويقول المؤلف: «ابتعدت دول كثيرة من العالم الثالث عن إسرائيل، وفضلَّت إسرائيل سياسة الأمر الواقع القاسية، مُفضِّلَة مشاركة أغلب الطُّغاة قسوة في العالم». ويَطرحُ الأكاديمي الإسرائيلي نيفي غوردون Neve Gordon، الذي يُدرِّس القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة الملكة ماري في لندن، تفسيراً أكثر تفصيلاً بشأن جاذبية إسرائيل بأنها: «دولة فَصل عنصري تَستحقُّ المقاطَعة».

دولة إسرائيل التي نتَجتْ عن الصهيونية، ليست دولة يهودية ديمقراطية، بل أصبحت دولة فَصل عنصري

لونشتاين

تدمير التراث الفلسطيني

كانت هناك أهوال معروفة وغير معروفة سَببتْها إسرائيل من خلال غزوها للبنان في صيف 1982. لعلّ أسوأها كانت مجزرة مخيمات اللاجئين في صبرا وشاتيلا ببيروت في سبتمبر (أيلول) 1982م، حيث قُتِلَ نحو 2522 مدنياً، ويلفت لونشتاين إلى أنَّ هناك أمراً أكثر أهمية يتعلَّق بوجود إسرائيل. ذَكَرَ الصحافي توماس فريدمان في كتابه عن الشرق الأوسط «من بيروت إلى القدس»، حكايةً تتعلَّق بمهمّة القوات الإسرائيلية الحقيقية في بيروت التي لم يُعترف بها: «كان هنالك هَدفان مُحددَّان اهتمّ بهما جيشُ شارون بشكلٍ خاص. كان الأول هو مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، حيث لم توجد أسلحة في ذلك المركز، ولا ذخائر، ولا مقاتلين». وبحسب الكاتب، إنما كان هناك شيءٌ أكثر خطورة - كُتبٌ عن فلسطين، سجلات قديمة، ووثائق أراضٍ تَعودُ لعائلات فلسطينية، وصُوَرٌ عن حياة العرب في فلسطين، وأهمّها خرائط عن فلسطين تعود للفترة قبل تأسيس إسرائيل عام 1948، عليها قرى عربية مسحت إسرائيل كثيراً منها بعد استيلائها على فلسطين. كان مركز الأبحاث مثل سفينة تضمُّ التراث الفلسطيني - بعض شهادات وجودِهم كأمّة. من ناحية معينة، كان ذلك ما أراد شارون الحصول عليه في بيروت.

ويرى لونشتاين ذلك التدمير الممنهج بأنّه رغبة التدمير العسكري للخَصم، وكذلك مَحو تاريخه وقدرته على تذكّر ما فَقَده.

وبحسب لونشتاين، تعمل إسرائيل، إمِّا لجعل العرب يَختفون، وإذا لم يَكنُ ذلك ممكناً، فجعلهم غير متساوين أملاً بأنهم سيُهاجرون باختيارهم سعياً وراء حياة أفضَل في مكان آخَر. ويعطي المؤلّف مثالاً على ما يجري في قطاع غزة من قتلٍ وحصارٍ وتدميرٍ منذ سنين مضت على أنّه المختبر النموذجي للعبقرية الإسرائيلية في السيطرة. وحسب توصيف الكاتب: «إنّه الحلم النهائي للإثنية القومية الذي يضع الفلسطينيين في سِجنٍ دائم».

مختبر فلسطين - كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال للعالم

المؤلف: أنتوني لونشتاين

ترجمة: د. عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون

بيروت، الطبعة الأولى، 2-4-2024

عدد الصفحات: 336 صفحة