البنعلي يضغط لتوسيع نفوذ «داعش» في ليبيا رغم تزايد العراقيل على الأرض

أقام في سرت وفشل في حل الخلافات بين مبايعي البغدادي وأنصار الظواهري

البنعلي يضغط لتوسيع نفوذ «داعش» في ليبيا رغم تزايد العراقيل على الأرض
TT

البنعلي يضغط لتوسيع نفوذ «داعش» في ليبيا رغم تزايد العراقيل على الأرض

البنعلي يضغط لتوسيع نفوذ «داعش» في ليبيا رغم تزايد العراقيل على الأرض

كشفت مصادر ليبية في العاصمة المصرية القاهرة، متخصصة بمتابعة نشاط تنظيم داعش، عن أن تركي البنعلي - البحريني الأصل - القيادي المهم في التنظيم الأم بالعراق والشام، يضغط على «داعش ليبيا» للإسراع في التصالح مع باقي المجموعات المتطرفة، وذلك لبسط النفوذ على مزيد من المدن الليبية، إلا أنه يواجه صعوبات في هذا الأمر لأسباب تتعلق بتوازنات بين الجماعات المتشددة في البلاد التي تعاني من الفوضى منذ مقتل العقيد معمر القذافي في 2011.

مصادر الجيش الليبي تقول إنه لا توجد معلومات مؤكدة عن انتقال البنعلي لقيادة «داعش» في ليبيا، وأوضح المستشار في الجيش الوطني الليبي، صلاح الدين عبد الكريم، قائلا لـ«الشرق الأوسط» حول ما أفادت به مصادر أخرى عن انتقال البنعلي لليبيا، إن «مثل هذه الأنباء أصبحت منتشرة، لكن لا توجد معلومات تؤكدها على الأرض». وكشف عن قيام الجيش قبل يومين بتوجيه ضربات لأربعة مراكب كانت تحمل متطرّفين وأسلحة متجهة من مدينة مصراتة لدعم المقاتلين المتشدّدين في بنغازي.
ولكن وفقا للمصادر، يسعى البنعلي، الذي عمل بالقرب من «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي، كرئيس لجهاز الحسبة في تنظيم داعش، لشق طريق للتعاون بين المقاتلين المتطرّفين، خاصة في مدن درنة وسرت وبنغازي شمالا، ومدينتي سبها وأوباري جنوبا، وحل الخلافات بين مبايعي البغدادي من جانب وأنصار زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري من جانب آخر. إلا أن الأوضاع المعقدة على الأراضي الليبية، وتزايد قدرة الجيش الوطني على ضرب مواقع المتطرفين، تعرقل من مهمة البنعلي.
وعما إذا كان «داعش» قد ولَّى البنعلي - البالغ من العمر 31 سنة - على ليبيا، قالت مصادر مطلعة إن تردّد الرجل على البلاد «يأتي على ما يبدو في إطار إشرافه على شؤون التنظيم في عدة بلدان خاصة في أفريقيا، بعدما بايعت حركة (بوكو حرام) النيجيرية المتطرفة (داعش) في الفترة الأخيرة». وأوضحت أنه على رأس أهداف البنعلي توسيع قاعدة التنظيم في ليبيا لأهميتها في المنطقة وفي البحر المتوسط وقربها من أوروبا، وأنه بحث مع أتباعه الاستعانة بـ«بوكو حرام» لتعضيد معارك «داعش» ليبيا، بعد تعرّض التنظيم للحصار ولعدة هزائم خلال الأسابيع الأخيرة.
في هذه الأثناء، يراقب سلاح الجو في الجيش الليبي عدة موانئ، منها درنة وسرت وبنغازي، مما أصبح يزيد من صعوبة دخول المتطرفين الأجانب من أمثال البنعلي للبلاد. لكن المستشار عبد الكريم يقول، ردًا على أسئلة «الشرق الأوسط»، إن «المشكلة تكمن في ميناء مصراتة البحري الذي تدخله سفن ترفع العلم التركي، ونحن في الجيش الليبي لا نريد أن نتعرّض لها كي لا ندخل في مواجهة عسكرية مع تركيا العضو في حلف الناتو (حلف شمال الأطلسي).. نحن نعلم أن العدو ينتظر أي خطأ من جانبنا».
من جهة ثانية، تشير جهات ترصد تحركات «داعش» إلى أن تركي البنعلي يتخذ من مدينة سرت مقرًا لإقامته حين يزور ليبيا، ويتحرك انطلاقًا منها إلى عدة مواقع توجد للتنظيم سيطرة فيها، من بينها درنة وصبراتة وسبها وأوباري. وللعلم، فإن سرت هي مسقط رأس القذافي ومكان مقتله. ويتحرّك البنعلي، وفق هذه الجهات، تحت حراسة مجموعة من المتطرّفين الذين يحتلون مباني حكومية في المدينة الواقعة بشمال وسط ليبيا، وتطل على البحر المتوسط، وتعدّ معبرًا مهمًا للمقاتلين في أرجاء البلاد.
وتشير إجابات المستشار عبد الكريم عن الأسئلة إلى أن قيادات من تنظيم «الجماعة الليبية المقاتلة» الموالية لتنظيم القاعدة، ويشتبه في تسهيلها ظهور «داعش» في ليبيا، ما زالت تقف وراء فتح الأبواب للمقاتلين الأجانب لنشر مزيد من الفوضى في البلاد. وحاليًا تقود عناصر من «الجماعة الليبية المقاتلة» بالتحالف مع جماعة الإخوان قوات ما يعرف باسم «فجر ليبيا» المحسوبة على مدينة مصراتة الساحلية، وتنفذ عمليات ضد الجيش.
ويقول عبد الكريم إن «المنفذ المتبقي لدخول المتطرفين الأجانب، مثل البنعلي، هو غالبًا ميناء مصراتة الذي يستقبل سفنًا تحمل العلم التركي بعيدًا عن إشراف الدولة الليبية وسلطاتها الشرعية». ويضيف أن «المتطرفين الآن يدخلون من مصراتة كغطاء لهم، لأنهم يخشون الدخول من الموانئ الأخرى التي أصبحت تحت أعين رجال الجيش الليبي».
جدير بالذكر أن تركي البنعلي يحظى بشهرة واسعة في أوساط المتطرّفين في المنطقة بعدما كان طرفًا في مفاوضات جرت العام الماضي بشأن الإفراج عن الرهينة الأميركي وعامل الإغاثة بيتر كاسيغ، الذي نحره التنظيم لاحقًا. كذلك يعرف عنه حب الخطابة وإصدار المطويّات التي تتضمن تعليمات وشروحا لجنود التنظيم في مسائل العقيدة والقتال والتكفير وغيرها.
وتستبعد المصادر أن يكون الرجل قرّر الإقامة الدائمة في ليبيا، وتشير إلى أن زياراته نفسها، حتى الآن، تحاط بالكتمان لأن الأوضاع داخل ليبيا، خاصة أن عملية التنقل تتم عبر المدن والطرق الطويلة، أصبحت تحت أعين الجيش الوطني وتمثل خطرا.. «وهذا، على الرغم من أن للبنعلي علاقات خاصة وقديمة مع عدد من قيادات الجماعة المقاتلة، وذلك حتى من قبل أن تعلن جماعات المتشدّدين في درنة وسرت عن مبايعة البغدادي».
ويوضح المستشار عبد الكريم أن الجيش تمكن أخيرًا من السيطرة على الطريق الساحلي، وذلك من غرب طرابلس، حتى قرب الزاوية. ويوضح أن «عمليات الجيش أصبحت غير متوقعة بالنسبة للجماعات المتطرفة، ولذلك فإن تحركاتهم محفوفة بالمخاطر، خاصة بالنسبة للمتطرفين الأجانب. أما في البحر، فقد قام الجيش قبل يومين بتوجيه ضربات لأربع جرافات (مراكب) محملة بإرهابيين وأسلحة ودعم، كانت آتية من مصراتة إلى المجموعات التي تقاتل الجيش في بنغازي. وجرى ضرب هذه المراكب في البحر بين منطقتي القوارشة والترية، بعدما اكتشفتها البحرية الليبية، ومن ثم أغرقتها جميعا».
وحسب مصادر عسكرية ليبية أخرى فإنه حتى لو تمكن البنعلي من دخول البلاد فإن تأثيره سيكون محدودًا بعد أن تعرض التنظيم ومعاونوه لخسائر. ومن جانبه يوضح المستشار عبد الكريم أن هذا الأمر لا توجد دلائل عليه، لأن الوضع لم يعد في صالح المتطرفين، فـ«الجيش يتقدم ويدحر مواقعهم. وبالأمس حققنا انتصارًا رهيبًا. لقد وجّهنا ضربات شديدة للإرهاب.. واستولى الجيش على أكبر معسكر وهو المعسكر المعروف باسم 27، وكان تابعا لأحد قيادات (الجماعة الليبية المقاتلة) واسمه شعبان هدية. وكذلك استرد الجيش آليات وأسلحة وقتل الكثيرين من التكفيريين».
من جانب آخر، تشير المصادر نفسها إلى أن عمليات الدخول والإقامة والتنقلات للبنعلي تتولّى تنظيمها، بشكل سري، مجموعة تعرف باسم «جماعة التوحيد» تتخذ من سرت مقرًا لها. وقامت خلال الفترة الأخيرة بترتيب عدة لقاءات له مع متشدّدين منتمين لتنظيم القاعدة ولم يبايعوا البغدادي صراحة، من بينهم الليبي سفيان بن جومة، أحد أكبر قيادات المتطرّفين في درنة، والجزائري مختار بلمختار، القيادي لمجموعات من المتطرّفين في سبها.
ووفقا لجهات على علاقة بالجماعات المتطرفة، يبحث البنعلي خلال زيارته لليبيا أيضا فتح قنوات اتصال على الأرض بين الجنوب الليبي وتنظيم «بوكو حرام» ومقره نيجيريا، من خلال رجل مالي الجنسية يقيم بالقرب من مدينة أوباري بجنوب ليبيا، ويدعى انتهمدين الأنصاري، ويبلغ من العمر 48 سنة، ويترأس جماعة «أنصار الحق» (أو ما يعرف باسم «أزواد مالي») الموالية لـ«داعش» أيضا.
على صعيد آخر، كانت مملكة البحرين قد جرّدت البنعلي من الجنسية البحرينية مع اثنين من أشقائه، على خلفية تقارير ظهر فيها وهو يطلب البيعة للبغدادي وتوليه مواقع عليا في التنظيم، وترؤسه لجهاز الحسبة. ووفقا لقائمة إسقاط الجنسية التي تضم 72 شخصا وأعلنتها وزارة الداخلية البحرينية، جاء اسم البنعلي تحت الرقم 17 وشقيقه علي تحت الرقم 50 وشقيقه الثاني محمد تحت الرقم 60.
وحسب المصادر الليبية يستعين البنعلي في تحركاته واتصالاته في المنطقة أيضا بعلاقاته القديمة مع فروع تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا، والتي تعود إلى نحو سبع سنوات مضت، ومن بينها «الجماعة الليبية المقاتلة»، و«القاعدة في بلاد المغرب»، والمجموعات التي كانت تتّخذ من شمال مالي مسرحا لعملياتها ضد الشركات الفرنسية والجزائرية.
وفي المقابل، يتميز نشاط «جماعة التوحيد»، وهي مجموعة من الشبان المقاتلين في سرت ممن أصبحوا موالين لـ«داعش» منذ العام الماضي، في العمل الدعوي والتجنيد عبر المحطة الإذاعية المحلية التي يحتلها التنظيم حين كان يحمل اسم «أنصار الشريعة» منذ أواخر عام 2013. ولقد قدّم البنعلي العديد من الدروس والخطب عبر هذه الإذاعة، وكذلك من خلال مسجدي «التوحيد» و«الرباط» بالمدينة على مرات متفرقة طوال الشهور الماضية، وحسب المصادر لوحظ في الأسابيع الأخيرة كثرة تردد الرجل على سرت، حيث يعقد أيضا لقاءات مع متطرفين من جنسيات مختلفة.
والملاحظ أن الاسم نفسه الذي تطلقه «جماعة التوحيد» على نفسها وعلى مسجدها في سرت تطلقه أيضا على إذاعتها المحلية التي كانت تابعة للحكومة في عهد القذافي قبل أن يسيطر عليها المتطرفون الليبيون. ووفقا لمصادر الإذاعة بالمدينة فقد بدأ البنعلي إلقاء الخطب والدروس من هنا منذ سنتين، وواصل بعد ذلك التردّد على ليبيا على فترات متباعدة، ومن بين الخطب التي ألقاها حينذاك خطب عما سماه «غُربة الدين»، و«نواقض الإسلام» و«الانقياد للشرع».
ولكن، منذ مطلع هذا العام، ظهر مجدّدا في سرت أكثر من مرة وبشكل مكثّف. واقترنت زياراته بترتيب لقاءات مع قادة ميدانيين من «داعش» و«القاعدة»، وشدّد في الكلمات التي ألقاها في عدة مناسبات وسط عدد من عناصر المتشددين على العمل على تطبيق الشريعة. وتضمّنت خطبه هذه المرة الدعوة لـ«مبايعة الخليفة (البغدادي)» قائلا إن «من لا يبايع الخليفة يموت على الجاهلية»، إضافة لتقديمه دروسا عن «شروط وموانع التكفير»، وغيرها.
ومن جانبها، أضافت المصادر أن مهمة البنعلي ليست سهلة لأن الجماعات الليبية المتطرفة معروف عنها الانقياد للعمل تحت إمرة قيادات محلية، لا أجنبية، وأن هذا الأمر يعد من أهم العراقيل التي تواجه «داعش ليبيا»، مشيرة إلى تحفّظ بن جومة، القيادي الكبير في درنة، على مبايعة بعض المجموعات التي كانت تعمل تحت إمرته من «أنصار الشريعة» للبغدادي العام الماضي، مع أن بن جومة لم يصرّح أو يعلن أنه على خصومة مع «داعش» الذي ينخرط فيه كثير من السوريين والمصريين والتونسيين والجزائريين وغيرهم ممّن وفدوا إلى ليبيا خلال الشهور الماضية.
وللعلم، تهيمن على درنة، في الأساس، مجموعات متباينة من المتطرفين، وكانت الكلمة العليا في هذه المدينة منذ سقوط نظام القذافي لسفيان بن جومة، وهو سجين سابق في غوانتانامو. ولقد حاول قياديّون جدد وفدوا من دول عربية سحب البساط من تحت أقدام بن جومة، مما تسبب في غضب الرجل وهجره للمدينة لعدة أشهر، واعتكافه في مدينة صبراتة (أحد معاقل المتطرفين قرب الحدود الليبية التونسية)، قبل أن يعود في محاولة لإعادة ترتيب الأوضاع في درنة، وهو أمر يبدو أنه يقلق تنظيم داعش، ودفع البنعلي لتكثيف زياراته لليبيا.
وتقول مصادر على علاقة بالمتطرفين الليبيين إن بن جومة لم يشعر بالارتياح بعدما فتح الباب لدخول من سماهم «المجاهدين» الذين اندفعوا لتولي القيادة بدلا منه، بعد أن كانوا محاصرين في سوريا والعراق، أو بعد أن فروا من بلادهم إلى درنة، مثل المصريين، الذي جاءوا إلى هنا بعد الإطاحة بنظام حكم محمد مرسي. ومن بين الشخصيات التي زاحمت بن جومة على الزعامة في درنة رجل خليجي يلقب بـ«أبو حبيب». تضيف المصادر أنه، مع ذلك، كانت هناك اتصالات بين بن جومة و«داعش»، وأن التنظيم يتعامل معه على أنه «أكبر من الخلافات التي يتسبّب فيها بعض القادة الصغار».
ولم يظهر بن جومة مرة أخرى في الصورة أثناء وقوع هذه الخلافات والتحذيرات الأخيرة من جانب المتمردين على «داعش» في معقله في درنة. وتقول المصادر إن الرجل البالغ من العمر نحو خمسين سنة يحاول أن تكون له الكلمة العليا على الفصائل المتطرفة في المدينة، دون أن يعلن الانحياز لأي منها، سواءً لمبايعي «الخليفة» أو من أنصار الظواهري، حيث ما زال يوفر لجميع الأطراف «المأوى والغطاء للتحرك داخل المدينة أو بين المدن التي ينشط فيها التنظيم»، وأنه لهذا السبب يحظى بمكانة وأهمية لدى البنعلي و«داعش»، رغم ما قد يراه البعض من حالة جفاء بينهم.
وحسب المعلومات المتواترة بعد وصول البنعلي إلى سرت في الفترة الأخيرة، فإنه اجتمع بعدد من قادة «داعش» في درنة من دون أن يكون بينهم بن جومة، وهو ما أجّج الخلافات بين زعماء «داعش» وفريق من زعماء «القاعدة» في درنة، وترتب على هذا الأمر الإعلان عن تأسيس ما سمّوه «مجلس شورى مجاهدي درنة»، وهجوم هذا المجلس على عناصر «داعش» في المدينة، ووصفهم بـ«غلاة التكفيريين»، ورفض ما سبق أن أعلنته هذه العناصر من مبايعتها للبغدادي، قائلة إنهم ادّعوا مبايعة «الخليفة» دون مشورة المسلمين، وبالتالي تكون هذه الخلافة باطلة. واعتبر معلق متابع أن «هذه التطورات ضد طموحات البنعلي سواء أتى إلى ليبيا أو لم يأت».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟