طريق إلى داخل عالم إيلينا فيرانتي المجهول

ترى فيرانتي أن الكاتب، في إشارة إلى فيرجينيا وولف، «مجموعة متعددة من الكيانات شديدة الحساسية تتركز جميعها في اليد التي تمسك بالقلم»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

طريق إلى داخل عالم إيلينا فيرانتي المجهول

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

قبل عامين، قبلت إيلينا فيرانتي الدعوة لإلقاء ثلاث محاضرات أمام حشد من الجمهور في بولونيا بإيطاليا. وكان الطلب الموجه لفيرانتي واسعاً باتساع المحيط، فقد طلب منها المنظمون الحديث في أي شيء قد يثير اهتمام جمهور عام. بعد ذلك، وقعت الجائحة، وتوقفت الحياة العامة.
ومع ذلك، كانت فيرانتي قد كتبت النصوص بالفعل. ونتيجة لذلك، جرى تسليم النصوص متأخراً، أواخر عام 2021، من جانب ممثلة تدعى مانويلا ماندراتشيا، التي تضطلع بدور فيرانتي. ويوجد جزء من الحدث بالفعل على «يوتيوب»، حيث يمكن للمرء مشاهدة ماندراتشيا في دور فيرانتي، وهي تتحدث أمام جمهور يرتدي أفراده أقنعة. وتظهر في الحدث ماندراتشيا وشعرها يضيء باللون الأرجواني تحت أضواء المسرح، وتبدو المحاضرات جديرة بإلقاء نظرة عليها - وهي مصممة للإلقاء الشفوي باللغة الأم لفيرانتي - خصوصاً وهي تنبض بالحياة لإلقائها على لسان بشري.
وتبدو حقيقة أن الجسم المتحدث لا ينتمي إلى فيرانتي بمثابة قمة الرأس الجليدي أمام القراء المتحدثين بالإنجليزية، فهي كاتبة تكتب تحت اسم مستعار لجمهور من القراء الناطقين بالإنجليزية، الأمر الذي يخلق ثلاث طبقات من الترجمة الفورية، ناهيك عن القراء الذين ربما يطلعون اليوم على المحاضرات المتألقة التي ترجمتها إلى الإنجليزية المترجمة التي تتعاون مع فيرانتي منذ أمد طويل، آن غولدستاين.
وتتضمن المحاضرات التي تحمل اسم «على الهامش: حول متع القراءة والكتابة»، كذلك محاضرة رابعة ألقيت في الأصل خلال مؤتمر منفصل من شخص آخر غير فيرانتي.
ترى فيرانتي أن الكاتب، في إشارة إلى فيرجينيا وولف، «مجموعة متعددة من الكيانات شديدة الحساسية تتركز جميعها في اليد التي تمسك بالقلم»، وتؤمن بأن الكاتب ليس كياناً متجسداً بقدر ما هو فيض من «الإحساس الخالص الذي يتغذى على الأبجدية اللغوية».
وربما انطلاقاً من هذا التصور، جاء اختيار فيرانتي عدم الكشف عن هويتها. وربما شجعها على ذلك جهود صحافي إيطالي كشف النقاب عن هويتها بالاعتماد على سجلات مالية وعقارية. وتذكرنا فيرانتي بالهبة التي تحملها مسألة مجهولية هوية الكاتب للقارئ. وتذكرنا كيف أنه يمكن للمرء التفاعل مع الكلمات والعبارات على نحو مفعم بالحياة، دونما الحاجة إلى النضال لسبر أغوار الضباب الذي يخلقه الاسم أو «العلامة التجارية» التي يمثلها الكاتب. (وحتى لو كانت الهوية المجهولة «علامة تجارية» في حد ذاتها هي الأخرى، فإنها على الأقل علامة تجارية تحمل خلفها قدراً أقل من الضجة والصخب).
على أي حال، أجابت الكاتبة بطريقتها الخاصة والسخية على سؤال: «من إيلينا فيرانتي؟»، وفي الحقيقة، الاسم في حد ذاته لا يبدو شيئاً بجانب المادة الثرية التي قدمتها فيرانتي للجمهور عبر سلسلة من المعلومات التي كشفتها عن نفسها عبر هذه المحاضرات، وكذلك عبر مجموعة أخرى من المقابلات والمراسلات أطلق عليها «فرانتوماغليا» نشرت في الأصل عام 2003، وترجمتها غولدستاين إلى الإنجليزية عام 2016.
الواضح أن الكاتبة الإيطالية الغامضة حظيت باهتمام دولي بفضل صورها الحميمة للحياة في نابولي والأنوثة والصداقة.
في إحدى المحاضرات، أشارت إلى دفتر ملاحظات احتفظت به عندما كانت مراهقة، فقد كتبت: «على الكاتب أن يعبر بالكلمات عن الدفقات التي يولدها وتلك التي يتلقاها من الآخرين». ومن المثير للاهتمام أن «الكاتب» جرى تصوره باعتباره ذكراً - افتراض تتشبث به فيرانتي في أماكن أخرى من الكتاب. ومن النقاط الأخرى اللافتة للنظر فكرة أن النثر «ترجمة للعنف إلى لغة». والملاحظ بالفعل أن خيال فيرانتي مليء بالقتال. كما أن المواجهات الجسدية في رواياتها - ليس فقط تلك التي تنطوي على اعتداء صارخ، وإنما كذلك تلك المتعلقة بالجنس والرومانسية والأسرة - غالباً ما تثير في النفس شعوراً بالنفور.
تكتب فيرانتي عن الموازنة ما بين تصورها للحدود - ضرورة البقاء داخل الهوامش المقبولة - والرغبة المحمومة نحو الفوضى والصخب. وتصبح قصص الحب مثيرة لفيرانتي في اللحظة التي تخرج فيها شخصية ما من شباك الحب، وتزداد الألغاز إثارة عندما تدرك أن الألغاز لن تحل، وتبدو لها القصص التي تدور حول بناء الشخصيات مرضية في اللحظة التي يتضح فيها أن إحدى الشخصيات لم يجرب بناؤها كما يجب.
في نظريتها حول الكتابة، تقف فيرانتي على النقيض من كاتبة مثل جوان ديديون التي تصر على أنها تكتب كي تتعرف على ما تعتقده وتؤمن به بداخلها. تقول: «لو أنني حظيت بمعرفة، ولو محدودة، لما يدور في ذهني ما كان ليبقى أمامي سبب يدعوني للكتابة».
أما في حالة فيرانتي، فإن الكتابة تبدو بمثابة نسخ معيب لما أطلقت عليه «موجة الدماغ». في رأي ديديون، يكسب المرء الكثير في رحلته من الذهن إلى القلم. أما فيرانتي، فترى أن ثمة الكثير يختفي دونما أثر خلال هذه الرحلة.
وتعد مجموعة محاضرات «على الهامش: حول متع القراءة والكتابة» بمثابة دراسة فلسفية حول طبيعة الكتابة بقدر ما تمثل مجموعة من الإرشادات العملية للكتابة. في إطار هذه المجموعة، تقدم فيرانتي نصائح للكتابة، لكنها لا تطرحها كنصائح، وإنما تعمل فقط على توضيح ما تعلمته في عالم الكتابة، وكيف ساعدها هذا الأمر (وبالتالي، ضمنياً كيف يمكن أن يعين هذا أي شخص آخر).
*خدمة «نيويورك تايمز»



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».