لماذا كفّ الأديب اللبنانيّ عن «الخلود»؟

جورج شحادة
جورج شحادة
TT

لماذا كفّ الأديب اللبنانيّ عن «الخلود»؟

جورج شحادة
جورج شحادة

لماذا يموت أديب موتاً واحداً يعيش بعده طويلاً، ويموت أديب آخر موتين، ثانيهما لا قيامة بعده؟
الجواب في البلدان الديمقراطيّة المتقدّمة سهل نسبيّاً، مصدره نتاج الأديب نفسه ونوعيّة ذاك النتاج. ولئن كان هناك دور، في الاختيار والتصنيف، لما يسمّيه البعض «هيمنة إيديولوجيّة» ذات أغراض سياسيّة أو طبقيّة، فالمؤكّد أنّ الدور الأقوى لا تزال تلعبه أطراف يصعب حصرها بهذه «الهيمنة»، كمثل الجامعات والمعاهد والإعلام المستقلّ. لكنْ منعاً للوقوع في تفاؤل تبسيطيّ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العقود الأربعة الماضية أعطت للسوق يداً طويلة في هذين الاختيار والتصنيف، فيما غدا البيزنس، وعلى نحو متعاظم، يخترق الجامعات ويساهم في تكييف توجّهاتها.

أمين معلوف

عندنا، في لبنان، وفي بلدان كثيرة تشبهه، يبدو الأمر أصعب، إذ تندرج فيه عوامل كتغليب الاعتبار الطائفيّ والمناطقيّ في بعض الأحكام، وضعف المؤسّسات العامّة المصحوب بضعف التقاليد، وانقطاعات التاريخ الناجمة عن حروبنا ومنازعاتنا. وهناك، من جهة أخرى، اختلاط النظر إلى الأدب والفنّ بالنظر إلى الفولكلور والسياحة، كما بالفصاحة الخطابيّة والإنشائيّة. وهذا جميعاً ممّا عبّر، ولو بتفاوت، عن مَنازع عميقة في اقتصادنا الذي تحكمه الخدمات تقليديّاً، وفي ثقافتنا ذات المصادر الريفيّة التي لم تبرأ من الزجل.

صلاح ستيتية

رغم تلك الكوابح كلّها، استطاعت الدولة اللبنانيّة حتّى وقوع الحرب في 1975، ومن خلال أجهزتها الإيديولوجيّة والتعليميّة، كالكتاب المدرسيّ والمدرسة والجامعة والراديو والتلفزيون وسواها، أن ترسّخ أدباء وشعراء ساد الظنّ بأنّ موتهم البيولوجيّ لن يكون موتاً نهائيّاً. صحيح أنّ الدولة، في أدائها هذا الدور، لم تُخفِ انحيازات طائفيّة ومناطقيّة، وإن كان ما يحدّ قليلاً من عيبها هذا أنّ الطوائف والمناطق التي انحازت لها الدولة، أي مسيحيّي جبل لبنان، كانت تقليديّاً متقدّمة على سواها وأكثر إنتاجاً وإنتاجيّة منها، إن بفعل أسبقيّة التعليم فيها أو بسبب التبكير في كسر الملكيّات الزراعيّة الكبرى، ومن ثمّ ولادة طبقة وسطى وتوسّعها. وصحيح أيضاً أنّ الفرقة الناجية من الأدباء قُدّمت تقديماً أبرشيّاً ضيّقاً، بحيث رُسم أمين الريحاني «فيلسوف الفريكة»، ومخايل نعيمة «ناسك الشخروب»، ومارون عبّود «ناقد عين كفاع».
وهذا ما كان قابلاً للإصلاح والتجاوز، أو هكذا يمكن الافتراض، فيما لو استقرّت الأحوال فتعزّزت الدولة وتعزّز المجتمع في موازاتها. فإصلاحٌ كهذا كان في وسعه، ولو من حيث المبدأ، توسيع رقعة الأدباء الذين لا يموتون ممّن تنجبهم سائر الطوائف والمناطق، وتحديث التعاطي مع الأدب وكسر قوقعته وضيقه الريفيّين.
لكنْ منذ 1975 بحربها وبالحروب التي تلت، كما بالهزائم المتلاحقة التي أصيبت بها الدولة على أيدي الطوائف والجماعات المسلّحة، وبالتبعثر السكّانيّ الذي لازم تلك التحوّلات، هجرةً ولجوءاً، وتهجيراً أو انكفاءً على منطقة بعينها، صار هذا كلّه مستحيلاً. فحينذاك انتهت المرحلة التأسيسيّة المديدة للبنان الحديث على شكل انفجاريّ ومدمّر لم يعد سهلاً بعده تأسيس شيء. أمّا ثقافيّاً، فصار ما يحدث في حيّز الإبداع الأدبيّ، كانتقال التركيز الروائيّ في السبعينات من الريف إلى المدينة، لا يجد تعبيره المساوي في الإقرار الإيديولوجيّ العريض، ومن جهة أخرى، غدت الظاهرات الإبداعيّة الجديدة، كـ«شعراء الجنوب» مثلاً، ذات ارتباط شبه حصريّ بمنطقة أو طائفة أو حزب. وبلغة أعمّ، لم يعد هناك ما هو عضويّ في اجتماع اللبنانيّين، بما فيه اجتماعهم الثقافيّ.
هكذا بتنا أمام مجتمع متحارب ودولة متضائلة التأثير في وقت واحد: الأوّل، الذي جعلته حروبه ضالعاً في الموت، غير راغب في مدّ الحياة إلى مبدعي الجماعة الأخرى. والثانية، أي الدولة، في حاجة هي نفسها إلى من يحييها.
وهذا، على العموم، ما قد يفسّر تعاظم الميل إلى تسوّل الخلود ممّا يأتينا من الخارج. فبعد تجربة جبران خليل جبران، الذي يُرجّح أنّ السبب الأبرز لتخليده، وإن لم يكن السبب الأوحد، «أميركيّة» جبران الذي تبنّته لسنوات بعض الفرق الهيبيّة في الولايات المتّحدة، قد يحظى بخلودٍ ما أمين معلوف وجورج شحادة وصلاح ستيتيّة وربيع علم الدين، علماً بأنّ هؤلاء عاشوا كلّهم في بلدان الغرب أكثر ممّا عاشوا في لبنان. وإذا كان جبران قد كتب بالإنكليزيّة إلى جانب العربيّة، فهؤلاء لم يخطّوا حرفاً واحداً باللغة العربيّة.
وقد يصاب أيضاً بشيء ضئيل من الخلود من «يهاجرون» إلى قضيّة يطوّعون لها الأدب. لكنّه، على الأرجح، سيكون خلوداً أقلّ استحقاقاً وأقصر دواماً، إذ يصعب أن تبقى القضايا التي توصف بذاك الخلود خالدة.
أمّا هنا، عندنا، فلماذا يخلد الأديب بعد موته، فيما لا يلوح إلاّ الموت أفقاً متاحاً لسائر الأحياء المقيمين من اللبنانيّين؟
* مداخلة ألقيت في ندوة أقامتها جمعيّة «أهل القلم» في الجامعة الأميركيّة ببيروت.



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».