يجري بناء الحالة المزاجية من الداخل والخارج، لكنها في نهاية الأمر تعتمد على بعض العناصر الغذائية الأساسية.
من القلق anxiety إلى اضطراب الشخصية الحدية borderline personality disorder، والوسواس القهري OCD واضطراب ما بعد الصدمة PTSD، يعد عدم استقرار الحالة المزاجية سمة مشتركة بين هذه الحالات النفسية، بل وربما يمثل أولى علامات ظهورها. ومع ذلك، فإن التغيرات المزاجية المفاجئة نادراً ما تلقى اهتماماً سريرياً، خاصة أن الكثير من الناس أنفسهم يسخرون من اللحظات الصعبة التي تكابدها مشاعرهم في الحياة اليومية.
تقلبات المزاج
تتسم حالات عدم استقرار المزاج بتقلبات مزاجية، والاندفاع العاطفي، والتذبذب السريع الذي يخلف وراءه تأثيراً شديداً. ويسفر عدم استقرار الحالة المزاجية عن ردود فعل لا هوادة فيها تنطلق فيها إشارات نفسية واجتماعية. لذلك، فإن هذه الحالة ليست مدمرة اجتماعياً فحسب، وإنما تحول دون امتلاك الإنسان القدرة على إبداء الانتباه المستمر كما يضعف الإدراك، ما يجعل الحياة اليومية متقلبة لا يمكن التنبؤ بها.
وقد يتسبب عدم الاستقرار المزاجي في تحويل أحداث عادية إلى دراما دائمة، ولا يبشر بخير ذهنياً أو جسدياً. ويرتبط عدم الاستقرار العاطفي بالعصبية والاكتئاب والغضب وغيرها من علامات الاضطراب النفسي، ناهيك عن تدني تقدير الذات. وبدنياً، قد ينذر عدم استقرار الحالة المزاجية بإصابة المرء بأمراض القلب والأوعية الدموية، والتي يجري تحفيزها عبر الشبكات العصبية المشتركة.
ويعتقد الباحثون أن المشكلة الأساسية تكمن في ضعف أو التأثير غير الفاعل على التنظيم، وعدم القدرة على تنظيم التعامل مع التجارب مفرطة القوة. من ناحيتهم، عادة ما ينشر الناس مجموعة من الاستراتيجيات لتنظيم التعامل مع مشاعرهم، لكن أكثرها شيوعاً والتي خضعت بالتأكيد للقدر الأكبر من الدراسة، هي إعادة التقييم والكبت.
يتطلب إعادة التقييم reappraisal إجراء إعادة تقييم معرفي للموقف الذي يثير المشاعر، وعادة ما تنتج عنه مستويات أقل من المشاعر السلبية، ومستويات أعلى من المشاعر الإيجابية واستقرار الحالة المزاجية. وتشير دراسات إلى أن إعادة التقييم تتطلب تنشيط مركز التحكم التنفيذي في المخ والموجودة في قشرة الفص الجبهي، الأمر الذي يثبط نشاط اللوزة الدماغية.
أما الكبت suppression، فيتعلق بتثبيط التعبير السلوكي عن المشاعر.
عوامل انعدام الاستقرار
وهناك العديد من الدراسات التي تربط بين عدد من العوامل وعدم استقرار الحالة المزاجية:
* النوم، الحصول على قسط كافٍ من النوم عالي الجودة والحصول عليه على نحو مستمر، ربما يشكل أهم عامل يسهم في استقرار الحالة المزاجية. ويؤثر النوم بشكل مباشر على الحالة المزاجية، ويتسبب نقصه في تقويض القدرة على التحكم في المشاعر. من بين الأسباب وراء ذلك أن النوم غير المنتظم يعطل إيقاعات الساعة البيولوجية. ومثلما الحال مع جميع العمليات داخل الجسم، فإن جميع المواد الكيميائية العصبية والهرمونات التي تؤثر على المزاج تتبع جداول زمنية ترتبط بالساعة البيولوجية خاصة بها. ويتسبب تعطيل تصرفات جميع العناصر الفاعلة داخل الدماغ إلى التهيج الممنهج، والقابلية للتوتر، وربما التهاب منخفض الدرجة، ما يشكل مساراً آخر لعدم استقرار الحالة المزاجية.
ويؤدي تثبيط أدوات التحكم التنفيذية إلى ترك اللوزة الدماغية الملتهبة بالعاطفة دونما ترويض. وتشير دراسات إلى أن ذلك لا يزيد نشاط اللوزة المخية فحسب لدى الأشخاص المصابين بالأرق، وإنما يتسبب كذلك في إعاقة بشكل خاص القدرة على التحكم في المشاعر السلبية، ويزيد الحساسية إزاء التجارب السلبية.
* الحركة، ويمثل النشاط البدني عاملاً فاعلاً رئيسياً آخر. وقد أثبتت دراسات أن قلة الحركة مرتبطة بعدم استقرار الحالة المزاجية. ويبني النشاط البدني الأساس للمرونة العصبية، ويعزز فعلياً من الناحية الهيكلية مناطق القشرة التنفيذية المشاركة في عملية إعادة التقييم. أيضاً، يسهم النشاط البدني في الحصول على نوم عالي الجودة. وتعمل نشاطات التمرينات الرياضية على تنشيط التحكم التنفيذي وتقوية القدرة التثبيطية لضبط المشاعر السلبية.
> التواصل الاجتماعي. أيضاً، تترك الحياة الاجتماعية تأثيراً يومياً على درجة كبيرة من الأهمية على الحالة المزاجية، وفي غياب التواصل الاجتماعي، تتضرر الصحة النفسية بصور مختلفة لا تعد ولا تحصى. جدير بالذكر هنا أن الجزء الأكبر من عملية تنظيم العواطف يحدث في سياقات اجتماعية للتأثير على الأداء الاجتماعي. وسواء كانت بين الأزواج أو الآباء والأطفال أو زملاء العمل، تتميز العلاقات الاجتماعية بطابع شخصي وديناميكي بطبيعتها، وتشارك في عمليات التعاطف والانتباه وإعادة التقييم المعرفي وتعديل الاستجابة.
تأثيرات القلب والغذاء
> ضربات القلب. ويعد معدل ضربات القلب، وتحديداً تبدل معدل ضربات القلب - أي قدرة القلب على ضبط النبض مع المتطلبات المتغيرة باستمرار في الحياة اليومية - مؤشراً آخر على القدرة على تنظيم المشاعر. ويعكس تبدل معدل ضربات القلب التواتر المبهمي vagal tone (نسبة إلى نشاط العصب المبهم)، وهو علامة على التكيف الفسيولوجي والسلوكي، والصحة العامة. ويرتبط معدل ضربات القلب بقدرة تنظيم المشاعر، وذلك لأن العصب المبهم المسؤول عن تهدئة الجسم، متصل بنفس الشبكة العصبية المشاركة في تنظيم المشاعر. ويعكس تقلب معدل ضربات القلب القدرة التثبيطية لقشرة الفص الجبهي، ما يشكل شرطاً لا غنى عنه للاستقرار العاطفي.
> النظام الغذائي، يلعب النظام الغذائي دوراً مهماً كذلك. وعلى المدى الطويل، يضطلع النظام الغذائي الغني بالأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة طويلة السلسلة أوميغا 3 دوراً بارزاً في ضمان استقرار العمليات الأساسية داخل الدماغ.
والعديد من الحالات النفسية - الاكتئاب والاضطرابات ثنائية القطب قد تكون الأكثر دراسة من بينها - ترتبط بنقص دهون أوميغا 3 التي تتوافر بكثرة في أسماك المياه الباردة. وترتبط هذه الاضطرابات كذلك بالتهاب منخفض الدرجة. وكشفت دراسات وبائية إلى وجود علاقة عكسية بين تناول الأسماك الزيتية والمأكولات البحرية بشكل عام وانتشار وحدوث الاكتئاب الشديد والاضطرابات ثنائية القطب. وعثر باحثون على مستويات منخفضة من الأحماض الدهنية في أغشية خلايا الدم الحمراء للمرضى الذين يعانون من الاكتئاب الشديد. جدير بالذكر هنا أن دهون أوميغا 3 ضرورية لبنية وتنظيم وتكامل جميع أغشية الخلايا، لكن بشكل خاص في الدماغ. وتعدل دهون أوميغا 3 جميع العمليات الحيوية العصبية والتعبير الجيني، وتؤثر بشكل خاص على الاتصال العصبي داخل الخلايا وفيما بينها. بالإضافة إلى ذلك، فإن اثنين من أبرز دهون أوميغا 3 في الدماغ وهما حمض الدوكوساهيكسانويك وحمض الإيكوسابنتاينويك يجري استقلابهما إلى مواد رئيسية مضادة للالتهابات. كما أن كلا المادتين من سلائف الكانابينويد، المعروف بتأثيره على الحالة المزاجية.
في الحيوانات، ترتبط المرونة العصبية - توليد خلايا المخ ووصلاته - بشكل إيجابي بتناول دهون أوميغا 3. وفي البشر، يرتبط تناول أوميغا 3 بحجم المادة الرمادية، خاصة داخل مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة والمزاج وتنظيم العاطفة.
وأفاد الباحثون بأن زيادة تناول دهون أوميغا 3 عن طريق المكملات مفيدة، حتى عند البدء في سن متأخرة، ذلك أن هذه الدهون لا تقاوم التدهور المعرفي وضمور الدماغ فحسب، وإنما تحمي كذلك من وقوع خلل في التنظيم العاطفي.
حقائق عن الحالة المزاجية
> جرى رصد عدم استقرار الحالة المزاجية لدى 40 إلى 60 في المائة من المصابين بالاكتئاب واضطراب القلق واضطراب ما بعد الصدمة واضطراب الوسواس القهري.
ويحدث عدم الاستقرار المزاجي لدى 14 في المائة من عامة السكان. وأفاد العديد من الدراسات بشكل مستقل عن وجود ارتباطات عكسية بين مستويات الأغشية في دهون أوميغا 3 ومحاولات الانتحار. وتسهم دهون أوميغا 3 في الحفاظ على توازن الدماغ لأنظمة الناقلات العصبي.
ورغم قدرة جسم الإنسان على تحويل المصادر النباتية دهون أوميغا 3 إلى الدوكوساهيكسانويك DHA وحمض الإيكوسابنتاينويك EPA، فإن هذا التحويل غير فاعل لدى الأشخاص الذين يتناولون نظاماً غذائياً غربياً نموذجياً.
ويوفر النظام الغذائي الغربي في المتوسط 150 مليغراما في اليوم من دهون أوميغا 3 المشتقة من الأسماك، أي ما يعادل وجبة سمكة واحدة كل 10 أيام.
وحددت المعاهد الوطنية للصحة المدخول الكافي من دهون أوميغا 3 من جميع المصادر عند 1.6 غرام يومياً للذكور و1.1 غرام للإناث من سن 14 عاماً فما فوق.
* «سايكولوجي توداي»
- خدمات «تريبيون ميديا»