«لكلّ زمن دولةٌ ورجال»... مقولة يصلح إسقاطها على الواقع اللبناني، الذي يعيش اليوم في كنف عهد الرئيس ميشال عون الذي اختار رجالاته منذ الأسابيع الأولى لولايته، لإحكام إمساكه بمفاصل الدولة بكلّ مؤسساتها، بدءاً من الحكومة إلى الجيش والأمن والسلك الدبلوماسي والإدارات، وصولاً إلى القضاء.
هذه التركيبة ليست حالة شاذّة، بل هي متجذّرة بثقافة بلد المحاصصة والمحسوبيات، كلّ العهود السابقة اعتمدت هذا الأسلوب، وكلّ عهدٍ آثر الحكم بـ«عدّته» طيلة سنواته الستّ، فكان يصيب ويخطئ، وبنسب متفاوتة.
و«الجردة» الموضوعية لـ5 سنوات ونصف السنة من عهد رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون، وقبل 5 أشهر على انتهاء هذا العهد، تخلص إلى خيبات كثيرة وإنجازات قليلة.
يرى كثير من اللبنانيين اليوم أن «الرئيس القوي» ميشال عون - كما يصفه أنصاره - لم يحقق كثيراً مما تعهّد به في خطاب القسم الدستوري بعد انتخابه رئيساً. بل يذهب خصومه السياسيون إلى حد اتهامه بأن «ممارساته خالفت كلّ الوعود». في حين يقول قيادي «عوني» سابق إن أقرب المقرّبين ممن اختارهم الرئيس عون في المناصب الحساسة انفضوا من حوله، بأمل الخروج بأقلّ الأضرار. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن قائد الجيش العماد جوزف عون لم يكن أداة طيّعة بيد رئيس الجمهورية، عندما غلّب الأخير مصلحة المؤسسة العسكرية على مصالح أهل السياسة - وتحديداً فريق «العهد» العوني - عندما رفض جرّ المؤسسة العسكرية إلى مستنقع الصراعات، وزجّ الجيش بمواجهة الناس في انتفاضة 17 كتوبر.
أيضاً، رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبّود، خيّب ظنّ رئيس الجمهورية عندما رفض أن يجعل الهيئات القضائية «غرفة عمليات» تنشط لصالح التيار الوطني الحرّ (أي «التيار العوني») ورئيسه جبران باسيل بحجّة «محاربة الفساد والفاسدين» حسب قياديي «التيار» ومحازبيه ومناصريه.
والشيء نفسه ينطبق أيضاً على مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية السابق القاضي بيتر جرمانوس، الذي خرج مبكراً باستقالة طوعيّة، عازياً السبب إلى تردده بملاحقة الناشطين «والثوار» بتهم جاهزة ومعلّبة. حتى رئيس دائرة المناقصات الدكتور جان العليّة، رجل الإدارة المحترم، الذي اختاره الرئيس عون شخصياً لشغل هذا المركز، بات أشدّ خصومه.
وحدها القاضية غادة عون، المدعية العامة في جبل لبنان، كانت الاستثناء. وحدها وجد فيها «العهد القوي» ومناصروه ضالّته المنشودة. وفي هذا الصدد، يقول المعارضون إن هذه السيّدة أثبتت بالممارسة أنها تحاكي طموحاته وتنفّذ تعليماته، و«أنها الوسيلة الفضلى لتصفية الحساب مع الخصوم». ومن ثم، يستطردون قائلين إنها «لم تترك ملفّاً إلّا وفتحته، حتى أضحت سيفه (أي سيف رئيس الجمهورية) المسلط فوق رقاب المعارضين». في حين ذهب آخرون لوصفها بـ«خنجر العهد» في ظهر الخصوم، القادر على تأديبهم عند الضرورة... ولهذا السبب خاض الرئيس عون شخصياً، ولا يزال، معركة تثبيتها في هذا الموقع، ولم يتردد بنسف مرسوم التشكيلات القضائية برمّته كي لا يخسر ورقتها الرابحة. ويدعي هؤلاء أنه (أي الرئيس) لم يستسغ مضامين التشكيلات المجمّدة في أدراج قصر بعبدا، التي أعفت كلّ القضاة المحسوبين على العهد من مناصبهم، «بفعل إخفاقهم في إدارة ملفاتهم بحيادية»، وعلى رأسهم غادة عون.
من هي غادة عون؟
صحيح أن «قاضية العهد» من عائلة رئيس الجمهورية، لكنّها ليست نسيبته. إذ إنها ابنة بلدة الدامور كبرى بلدات ساحل الشوف في جنوب جبل لبنان، بينما رئيس الجمهورية من مواليد حارة حريك في ضواحي بيروت الجنوبية.
ولدت غادة عون في الأول من مارس (آذار) 1957، وتفيد سيرتها الذاتية بأنها تخرجت مجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت، ثم دخلت معهد الدروس القضائية في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 1981. وبعد انتهاء دراستها فيه دخلت سلك القضاء. وهي إلى جانب تخصصها القانوني تحمل إجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية.
من جهة ثانية، فإن بعض رفاق القاضية عون في المؤسسة القضائية يصفونها بـ«مدعي عام الصدفة»، في إشارة إلى أنها لم تتقلّد منصباً بارزاً خلال مسيرتها القضائية، رغم تنقلها في مواقع متعددة. إذ إنها أمضت غالبية سنواتها مستشارة لدى محاكم البداية والاستئناف والهيئة الاتهامية والجنايات ومحكمة التمييز. ولكنها مع عودة عون إلى لبنان اختيرت رئيسة لمحكمة الجنايات في البقاع (شرق لبنان). ثم في أعقاب انتخابه رئيساً للجمهورية اختارها وزير العدل - يومذاك - سليم جريصاتي (مستشار عون حالياً) نائباً عاماً في جبل لبنان خلال التشكيلات القضائية عام 2017. لما لهذا الموقع من دور مهمّ وأساسي في الإمساك بملفات حساسة ودقيقة.
تمرّد... وولاء
قضاة يعرفون غادة عون عن قرب، يصفونها أيضاً بـ«السيّدة المتمرّدة التي طبعت مسيرتها بمواقفها الاعتراضية ومخالفتها لكلّ القرارات التي تصدر عن الهيئات التي حلّت فيها كمستشارة». وهذا الأسلوب غالباً ما أثار غضب زملائها إلى حدّ التبرّم، حتى قال أحدهم إن قرارتها الاعتراضية «تشبه فوضوية شعرها المبعثر... المتمرّد على كلّ التسريحات».
كذلك خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال أحد القضاة إن هذه القاضية «عُرفت بين زملائها بميولها العونية... وكانت تجاهر بولائها السياسي، حتى وصل ذلك إلى مسامع العماد ميشال عون بعد عودته من منفاه الباريسي، وتحقيقه انتصاراً مسيحياً في انتخابات 2005 و2009. وهكذا كان له ما أراد بتعيينها رئيسة لمحكمة الجنايات في البقاع (زحلة). وإبّان عملها في البقاع توطّدت علاقتها بسليم جريصاتي، الذي هو ابن مدينة زحلة ومستشار عون. وبالتالي، عندما انتخب الأخير رئيساً للجمهورية، وعيّن جريصاتي وزيراً للعدل، جرى تنصيبها على رأس النيابة العامة في جبل لبنان».
تباين الآراء حيالها
الواقع ثمة تباين في الآراء داخل الجسم القضائي عند تقييم أداء هذه القاضية وسلوكها.
النائب العام التمييزي السابق القاضي، حاتم ماضي، يرفض تسليط الضوء على الزاوية السلبية في مسيرة القاضية عون، وهو الذي عايشها عن قرب وعرف طباعها عندما كانت مستشارة لديه في محكمة التمييز الجزائية التي كان يرأسها. ولكن في حين يشدد ماضي لـ«الشرق الأوسط» على أن القاضية عون «عنصر نشيط في الجسم القضائي وصاحبة كفّ نظيف، ولم ألمس أي شبهة تثير الريبة طيلة عملها معي في المحكمة نفسها»، فإنّه يعترف بأن «حماستها أكثر من اللزوم، إذ دائماً ما تتمسّك بآرائها إلى حدّ المبالغة، مع أن هذا لا ينتقص من استقامتها وقيمتها العلمية، وشغفها بالعمل والتمحيص في كلّ الدعاوى المعروضة على الهيئات القضائية التي شاركت فيها».
على أي حال، في سلوك هذه السيّدة مفارقات غير مألوفة بتاريخ السلطة القضائية ومسار العدالة في لبنان. وصورها التي تناقلتها شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي لا تزال محفورة في ذاكرة اللبنانيين، كونها تشكّل سابقة غريبة... طبعت أداءها وثبّتت تمرّدها على رؤسائها، مستغلّة فائض القوّة المستمدة من دعم سياسي لا محدود. حتى إنه عندما أصدر القاضي غسان عويدات، النائب العام التمييزي، قراراً خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي قضى بكفّ يدها عن التحقيق في الملفات المالية، ومنع الأجهزة الأمنية من تنفيذ إشاراتها وتعليماتها، لم تمتثل لقرار رئيسها. بل حصل العكس، عندما أمعنت في إجراءاتها، وواظبت على اقتحام مؤسسة مكتّف للصيرفة المتخصصة بشحن الأموال النقدية من لبنان إلى الخارج وبالعكس. وفي هذا الاقتحام استعانت بجماعة من «الحرس القديم»، (الذي يضمّ عشرات العونيين الموالين لرئيس الجمهورية) ومحازبين من التيار الوطني الحرّ، وأقدمت معهم على كسر وخلع أبواب الشركة ودخولها بالقوة، ومصادرة أجهزة الكومبيوتر ومعدات ومستندات.
يومذاك، وعدت القاضية عون اللبنانيين بـ«تفجير قنبلة مدويّة»، تتمثّل بكشف «تورّط» شركة مكتّف بتهريب نحو 3 مليارات دولار أميركية إلى الخارج، و«فضح» أسماء السياسيين والنافذين الضالعين بالعملية. ولكن بعد أشهر كثيرة من الاقتحام، الذي صوّرت وقائعه كاميرات التلفزيون لم تتوصل تحقيقاتها إلى نتيجة، ولم تفِ بوعودها، في حين أن ميشال مكتّف - الذي توفي قبل أسابيع نتيجة أزمة قلبية - لم يعرف أسباب ما تعرّض له، ولا خلفية التشهير به وبمؤسسته، وهي المؤسسة اللبنانية الحائزة على ترخيص قانوني من وزارة الخزانة الأميركية بشحن الدولارات من لبنان وإليه.
القاضي حاتم ماضي لا ينكر في الحالة المذكورة أن «أسلوب اقتحام شركة مكتّف، والحركات التي أظهرتها القاضية عون، لجهة ركل أبواب المؤسسة بقدميها، والطلب من المدنيين الذين واكبوها بخلع أبواب الشركة، تصرّف غريب عن سلوك القاضي وترفّعه عن الاستعراضات الشعبوية». إلا أنه في المقابل، يلفت إلى «هذه الهفوات لا تنسف مسيرة هذه القاضية، ولا يعني أن بعض الملفات التي اختارت التحقيق فيها لا تستوجب الملاحقة والتوقيف»، بل يرى أن «كثيراً من الملفات التي تحقق بها الآن تقع ضمن اختصاصها».
ويضيف ماضي: «مسيرة غادة عون تتحدث عنها، إذ يستحيل أن تقتنع بأمر وأن تعمل عكسه أو أن يغيّر أحد في قرارها». ومن ثم، يسارع إلى منح زميلته السابقة أسباباً تخفيفية، فيرى أن «فائض القوّة الذي تتمتّع به، مستمدّ من الدعم السياسي المطلق لها (في إشارة للغطاء الذي يؤمّنه رئيس الجمهورية وفريقه للقاضية عون)، وهو الذي شجّعها على تصرفات أشبه بالمغامرة». ثم يختتم بالقول إن «ثمة هيئة قضائية وحدها تحاسب القاضي إذا أخطأ، أي التفتيش القضائي الذي عليه أن يقول كلمته، بحيث ينصف هذه غادة عون إذا أصابت أو يحاسبها إن أخطأت أو ارتكبت».
فرضية «التسييس»
في الشكل، يقع كلام القاضي ماضي بموقعه الصحيح، غير أنّ تصرفات القاضية المذكورة وفق آراء آخرين بعيدة عن المعايير القانونية التي تجعل صلاحية كلّ مدعٍ عام حسب دوره. وحقاً، في المرحلة الأخيرة تفرّغت غادة عون، لملاحقة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف اللبنانية. ولعل إصرارها على «محاصرة» الحاكم يعزز فرضية «التسييس» التي يتهم البعض القاضية بها. ذلك أن هذه الملاحقات تتقاطع مع حملة رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل ضدّ سلامة والقطاع المصرفي، ووعودهما بملاحقة ما يسميانه «منظومة الفساد». ومن هنا سجّلت قيود قصر العدل في جبل لبنان 4 دعاوى رفعتها غادة عون ضدّ سلامة بجرائم «تبييض الأموال، والإثراء غير المشروع، والاختلاس، وإساءة استعمال الوظيفة العامة». وفي القضية الأخيرة لم تتردد بتوقيف شقيقه رجا سلامة.
تعليقاً على هذا الواقع، يرى المحامي الدكتور بول مرقص، رئيس مؤسسة «جوستيسيا» الحقوقية، أنه من الخطأ حصر معالجة الأزمة المالية بالجانب القضائي، لأن «العلاج الوحيد لوضع حدّ للانهيار لا يقوم فقط على المسار القضائي والدعاوى المقامة بوجه مصرف لبنان والمصارف»، قبل أن يتساءل: «هل هذا سيعيد للمودعين أموالهم؟».
الدكتور مرقص قال لـ«الشرق الأوسط» في لقائنا معه: «إن المعالجة يجب أن تكون سياسية واقتصادية أولاً وبامتياز... وإذا كان من حاجة إلى ملاحقة قضائية، وكي لا يفلت المسؤولون عن الأزمة من العقاب، فلا بدّ من أن تكون مركزية ومعيارية وشاملة تقوم بها النيابة العامة التمييزية أو المالية، لا أن تكون فردية أو مناطقية أو جزئية»، داعياً إلى «محاسبة الجميع من مسؤولين حكوميين ومصرفيين تأميناً للمساواة أمام القانون، وتوازياً مع تدابير اقتصادية ومالية ونقدية تعيد الثقة بالقطاع المصرفي».