باحث كرواتي يرصد «تجليات الخبز» ثقافياً وحضارياً عبر التاريخ

نشأة الخبز تعود إلى قديم الأزل فهو أقدم من الكتب بل أقدم من الكتابة نفسها

باحث كرواتي يرصد «تجليات الخبز» ثقافياً وحضارياً عبر التاريخ
TT

باحث كرواتي يرصد «تجليات الخبز» ثقافياً وحضارياً عبر التاريخ

باحث كرواتي يرصد «تجليات الخبز» ثقافياً وحضارياً عبر التاريخ

في الوقت الذي أصبحت فيه «سلة خبز العالم» مهددة جراء الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث تصدّر الدولتان ما يقرب من ثلث صادرات القمح في العالم، حسب الإحصاءات الرسمية، يلقي الباحث الكرواتي د. بريدراج ماتفليجيتفيتش، في كتابه «الخبز» الضوء على الأهمية الثقافية والخصوصية الرمزية لواحد من أقدم الأطعمة التي عرفها البشر لدى الحضارات والأمم المختلفة.
وحسب هذا البحث الذي قامت بترجمته للعربية ندى نادر، فإن نشأة الخبز تعود إلى قديم الأزل فهو أقدم من الكتب بل أقدم من الكتابة نفسها فأسماؤه الأولى وُجدت منقوشة بلغات بائدة على ألواح مصنوعة من الطين، وربما كانت طوبة البناء هي ما أوحى لأول صانع للخبز بشكل الرغيف، ففي ذاكرة الشعوب يُصنع الطوب اللبن من الطين باستخدام النار فيما يشبه طريقة صنع عجين الخبز.
كما أنه لا أحد يعرف متى أو أين نبتت أول سنبلة من الحبوب، لكن لا بد أن مظهرها قد جذب الانتباه وأثار الفضول، فالتوزيع المنظم للحبوب الموجودة على الجذع قدم مثالاً للانسجام والاعتدال وربما المساواة، في حين أن تنوع وجودة الحبوب المختلفة كشف عن مزايا الاختلاف.
ويذكر الباحث أنه يمكن العثور على آثار الحبوب الأولى في عدة قارات، ففي العصور القديمة ازدهرت تلك الحبوب في سهول الهلال الخصيب وهي منطقة تمتد اليوم إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن ومناطق وادي النيل في مصر جنباً إلى جنب مع المنطقة الجنوبية الشرقية لتركيا والأطراف الغربية لإيران... وقد نما القمح في منطقة القرن الأفريقي بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بالقرب من أكسوم وأسمرة وأديس أبابا وفي نهايات الصحراء عند هضاب إثيوبيا وإريتريا حيث يكون المناخ أكثر اعتدالاً والأرض أكثر خصوبة وذلك بالقرب من منبع النيل الأزرق الذي يتدفق ليلتقي بالرافد الآخر لهذا النهر الرائع النيل الأبيض، وتتمتع المنطقة بوفرة من أشعة الشمس على نحو يذكّرنا بمقولة الشاعر الألماني هولدرين: الخبز هو ثمرة الأرض التي يباركها النور».

خطوات أولى
يرجح الكتاب أنه ربما كانت مصر هي أول من استقبل الحبوب من الشرق الأوسط لكن اكتُشفت كذلك بذور متفحمة في الأجزاء الغربية من الصحراء الأفريقية في حفر تم تجهيزها لإشعال النيران تحت الأرض يزيد عمرها على 8000 عام وذلك دليل على أن شخصاً ما مرّ هنا مارس الزراعة والحصاد.
اقتربت القبائل الصحراوية القادمة من الصحراء الكبرى التي كانت تشبه السافانا في يوم من الأيام من النيل في محاولة لتتبع النهر لمعرفة اتجاه سريانه فوجدوا أنه يتقاطع مع جداول المياه، حيث يمكن للبدو أن يرووا عطشهم ويمكن للجمال والغزلان أن تشرب أيضاً، وهكذا توقف البدو في الواحات قبل مواصلة طريقهم، وهذه الرحلات والقصص أيضاً ترجع لقديم الأزل. تعود أصول الخبز إلى الوقت الذي أصبح فيه البدو مستوطنين وأصبح الصيادون رعاة وعمل الجميع بالزراعة فانتقل البعض من أرض إلى أرض ومن مرعى إلى آخر، في حين نظّف آخرون الأرض وعملوا بها مثلما عمل قابيل بالزراعة وهابيل بالرعي. تميل حياة البدو نحو المغامرة في حين تتطلب حياة المستوطن الصبر والاستقرار، وهناك تلك الرسومات الجدارية المكتشفة على الكهوف التي سكنها البدو وغالباً ما تصور خطوطاً طويلة أو مكسورة تأتي من مكان مجهول وتؤدي إلى مجهول آخر في حين أن الرسومات التي رسمها المزارعون تميل إلى أن تكون أكثر استدارة وأكثر تحديداً مع وجود مركز واضح. وأدت عملية الزراعة والحصاد إلى تقسيم الوقت إلى أجزاء والسنة إلى شهور ثم إلى أسابيع وأيام، وقصّرت الطرق الجديدة المسافات بين الأماكن وبُنيت الأكواخ في الوديان وبُنيت مناطق سكنية ذات كثافة عالية بجوار الأنهار. وغيَّر حفر الأخاديد مظهر الحبوب وسمح لسنابل الحبوب بتغطية الأرض وتغير المشهد بمرور الأجيال.
طبيعة خاصة
يقول فيثاغورس: «يبدأ الكون بالخبز» فقد اكتُشفت بقايا الحبوب والخبز المحفوظة بجانب التوابيت والجِرار في القبور وفي الأهرامات وفي الأماكن التي يودع فيها المرء هذه الحياة على أمل الحياة السماوية الأبدية. فالخبز هو نتاج الطبيعة والثقافة، كان بمنزلة شرط للسلام، وسبباً للحرب، ووعداً بالأمل، وسبباً لليأس، وباركته الأديان، وأقسم الناس به. وتذكر ملحمة جلجامش مجيء سبع سنوات من الجفاف في مدينة أوروك عندما لم يجد أهلها حبة قمح واحدة.
ويذهب فلاسفة اليونان القدامى إلى أن الخبز الذي يغذينا يحتوي فعلاً على أشكال لا حصر لها من المكونات التي تشكّل جسد الإنسان! حاول المترجم الروماني لهذا النص القديم توضيح المعنى هنا فقال: «انتقل الفيلسوف من الخبز إلى الحبوب ومن الحبوب إلى الأرض ومن كليهما إلى الماء والنار نزولاً إلى المبادئ والعناصر الأولية ومن ثم يمكن ربط الجسد والطعام بالحالة المزاجية إما متفائل وإما سريع الغضب، إما هادئ وإما حزين». ويخطو بعضهم خطوة أوسع في النظر للعلاقة بين الجسد والخبز قائلاً: «عندما يرى الإنسان رغيف الخبز فهو يرى نموذجاً لجسده ﻷن الخبز الذي يدخل الجسد يصبح الجسد نفسه»!
وكثيراً ما يقال إن الجسد والخبز يفهم أحدهما الآخر لأن الخبز ينخرط في حواسنا كافة، وأكثر ما يُذكر في هذا السياق هو رائحة الخبز اللذيذة، فعند وصولها إلى الأنف تدخل الجسد وتنخرط بداخله، إذ يمتزج الأثر الذي تتركه تلك الرائحة بذكريات الطفولة والشباب وأجواء المنزل والعائلة. كما يرتبط طعم الخبز ارتباطاً وثيقاً بالذكريات القديمة فيجعلك تسأل نفسك: هل ذلك الطعم هو الذي اعتدته؟ أم أنه تغير؟ وإذ تغير فهل أصبح أفضل أم أسوأ ؟ ولا يمكن أن نغفل ملمس الخبز، فهل هو ناعم أم هش وهل له قلب طري أم لا؟ وكيف تشعر راحة اليد والأصابع عند الإمساك به وكسره ؟ ولمن نقدمه وكيف ومتى وأين؟
أسماء متعددة
تخبرنا أسماء عدة سواء عن طريق التراث المكتوب أو الشفاهي حول كيفية صناعة الخبز ونوع الدقيق المستخدم وكذلك نوع الفرن بما يتضمنه ذلك من قيم روحية وأرضية مثل: «خبز الحياة وخبز الدموع والخبز الحي» وفي الكتب المقدسة وصف الخبز على أنه «القربان والمبارك والذبيحة وخبز الملائكة وخبز الصداقة» المذكور في المزامير. وحتى الموتى كان لهم خبز خاص بهم يدعى خبز الموتى ويكون يابساً وغير مُحلّى، ولا ننسى الخبز المقدس الذي يُحتفل به في عيد القديسين.
أطلق المصريون القدماء على الأرض الخصبة المطلة على نهر النيل اسم «خمي»، ويرجع أصل الكلمة إلى كلمة «الخيمياء» أو ربما لمصطلح آخر مشابه هو «الكيمياء»، فصنّاع الخبز على مدار آلاف السنين لم يعرفوا سوى القليل عن العمليات الكيميائية والتغيرات التي تحدث عند إنتاجه مثل: العلاقة بين البروتينات والكربوهيدرات وتحويل الكربوهيدرات إلى سكر والسكر إلى كحول ذلك الكحول الذي يتناغم مع الخميرة فتنتج عنه الغازات التي ترفع العجين وتعطيه مساماً، وهي الطريقة التي يصبح بها وسط الخبز خفيفاً وطرياً في حين تصبح القشرة صلبة ومقرمشة، وذلك يمنح الخبز روحه وهيئته من شكل وطعم ورائحة.
كما اهتم صانعو الخبز الماهرون بنوعية المياه التي يستخدمونها سواء كانت حالتها طازجة أم راكدة، وهل بها رواسب أم أُزيلت منها. ومياه البحر هي المفضلة في استخدام صناعة الخبز لاختلاف تركيبتها، لكنّ ملح البحر لا يذوب بسهولة وعند مزجه بالعجين يتحول إلى اللون الرمادي أو الأزرق ولكي يتغلبوا على هذه المعضلة لجأوا إلى غسل الملح أو نقعه في الماء العذب أو وضعه على النار، وأفضل حل هو طحنه قبل وضعه على العجين. وفي الإسكندرية القديمة كانت لديهم مطاحن تطحن كتلاً كبيرة من ملح البحر حيث تجعله ناعماً مثل الدقيق ويعطي الخبز طعماً خاصاً، كما حظي الخباز بالاحترام، وبنى المهندس المعماري «خا» مقبرة في دير المدينة لإيواء مومياء زوجته «ميريت» وبجوار جثمانها وضع أكثر من خمسين رغيف خبز من أجل حياتها في الآخرة.
وهناك الكثير من الاستعارات في الأعمال الكلاسيكية المرتبطة بالحبوب والخبز، فيصور هوميروس في «الإلياذة» أبطاله ومآثرهم ليس فقط في البحر ولكن أيضاً على أرضية البيدر وفي مخزن الحبوب: «كما تبعثر الرياح التبن على أرض البيدر المقدسة وتعزل ديميتر ذات الشعر الجميل وسط الرياح المتطايرة فمثلما تتطاير قشور التبن عن القمح الحقيقي كان يتطاير الغبار من حوافر خيول أخيل وهي تدوس على دروع وأجساد القتلى».
وغالباً ما ارتبطت الحبوب بالنجوم وبريقها حتى إنه كان هناك اعتقاد قديم بأن الحبوب تنمو أسرع في الليل منها في أثناء النهار فكان الزارعون والحصادون يحدقون إلى السماء المرصعة بالنجوم ويلاحظون مراحل القمر. وعندما ظهرت الصوفية في القرن الثامن الميلادي بدأت في نشر مفاهيمها الخاصة عن الحياة والغذاء والسلوك ففضل الصوفيون الخضار والفاكهة على اللحوم وفضلوا الخبز على كل شيء آخر.
صدر الكتاب عن دار «العربي» بالقاهرة في 214 صفحة من القطع الصغير، واكتسى الجهد البحثي المبذول فيه بلغة أقرب إلى روح السرد المشوق المتدفق كأنك تطالع نصاً روائياً وهو ما نجحت المترجمة في نقله والمحافظة عليه.



الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين
TT

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

الحب والمعرفة والتعاطف مع الآخرين

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فيتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فيتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هما ما ساهما في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم، ثمَ يكتفون بالعمل معلّمين في مدرسة ابتدائية على تخوم جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابين في عمارة كما فعل فتغنشتاين.

لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند راسل Bertrand Russell من غير مُنازع. ليس الأمرُ محض ذائقة شخصية أو انجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص انطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش راسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872 - 1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والاجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعيش طويلاً يرى كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات راسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة راسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان تربة القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل راسل على أنسنة الاشتغال الفلسفي عبر الانغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تلامس مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج راسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الأستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبريدج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز راسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله راسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّيته في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

لقائي الفكري الأوّل مع برتراند راسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.

كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته بالأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه راسل عن بواكير علاقته بالفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ(الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.

تتناثر نتفٌ من سيرة راسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development، تطوّري العقلي My Mental Development. المشترك الأوّل بينها هو شهادة راسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة راسل الذاتية التي ارتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتبه الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة راسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سِيريّ ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة راسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الاكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزأين الآخرين منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة راسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لراسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ إنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات راسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة راسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبويته ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.

الفيلسوف الإنجليزي الشهير تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة تمس الإنسان

جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة راسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

تناول راسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبريدج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر(مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبريدج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول راسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أميركا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ راسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.