ماركيز وزوجته يلتقيان بعد فراق 8 سنوات

بعد ثماني سنوات على وفاته في المكسيك عاد غابريال غارسيّا ماركيز ليلتقي بزوجته وملهمته مرسيديس برشا التي رحلت صيف عام 2020 مصابة بـ«كوفيد». عاد الثنائي الشهير ليلتقي، رماداً هذه المرة، تنفيذاً لوصيّة مرسيديس التي كانت طلبت أن ينقل رفاتها إلى جانب «غابو» الذي يرقد رماده في صومعة دير الجامعة التي تخرّج فيها بمدينة قرطاجنة الكولومبية التي كانت مسرحاً للعديد من رواياته وأحد مصادر إلهامه الأدبي الأساسية.
أصدقاء ومقرّبون توافدوا من المكسيك وإسبانيا والولايات المتحدة والبرازيل ليشاركوا رودريغو وغونزالو، نجلي الراحلين، مراسم نقل رماد «لا غابا» كما كان يناديها «غابو»، الذي قال عنها يوماً (منثورة هي في جميع كتبي، تروي فصولها وتقف وراء العديد من شخصياتها).
شهدت مرسيديس برشا النور عام 1932 في مدينة ماغانغي من أعمال مقاطعة بوليفار الكولومبية التي كان جدّها لوالدها إلياس برشا الفاخوري هاجر إليها من مدينة بورسعيد المصرية حيث كان نزح من لبنان مع عائلته هرباً من قمع السلطنة العثمانية. وكان غابرييل غارسيّا ماركيز أخبرني في أول لقاء معه جرى في مدينة كنكون المكسيكية أن زيارته الوحيدة إلى العالم العربي كانت إلى مصر مطلع ثمانينيات القرن الماضي برفقة زوجته للتعرّف إلى المدينة التي عاش فيها أجدادها.
يذكر ماركيز في مذكراته أنه التقى مرسيديس لأول مرة عندما كان في الرابعة عشرة من عمره وهي ما تزال في التاسعة تعمل في دكان والدها، وأنه راقصها للمرة الأولى عام 1945 خلال احتفالات الكرنفال في مدينة سوكري قبل أن يتواعدا على الزواج بعد ذلك بسنوات.
يقول المقرّبون من ماركيز وأصدقائه الذين نشروا مؤلفات في سيرته الأدبية والشخصية إنه لولا مرسيديس لما كان أنتج ما تركه من روائع وبلغ ما أصابه من نجاح وشهرة. كانت هي ملهمته الأولى والشخصية التي تتراءى بوضوح وراء العديد من شخصيات رواياته وقصصه، وأيضاً حارسة إرثه الأدبي الذي لعبت دوراً هاماً في توفير الظروف التي أتاحت لماركيز التفرّغ لإنتاجه وتجاوز الخيبات الأولى عندما كانت دور النشر ترفض مخطوطاته.
بصمات مرسيديس وملامحها جليّة في معظم أعمال ماركيز ومساراتها الإبداعية، خصوصاً في رائعته الشهيرة «مائة عام من الوحدة»، التي رهنت كل ما كانت تملكه ليتسنّى له الانصراف إلى كتابتها طوال ثمانية عشر شهراً كل يوم من التاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر من غير انقطاع. وهي التي حرصت على أن يواظب على هذا الطقس المقدس لديه حتى السنوات الأخيرة من حياته قبل أن يقعده المرض. وكان ماركيز ذكر في مذكراته أن مرسيديس هي التي اقترحت عليه اختصار المخطوط الأول لرواية «مائة عام من العزلة» إلى النصف تقريباً بعد أن رفضته دار النشر «بوينس آيرس».
تظهر «لا غابا» في الفصل الأخير من «مائة عام من العزلة»، وفي الفصل الثاني من «خريف البطريرك» وعلى امتداد «الحب في زمن الكوليرا» المهداة إليها. أما في «وقائع موت معلن»، التي هي سرد لأحداث جرت لشخصيتها الرئيسية سانتياغو نصّار المهاجر اللبناني الذي كانت عائلته تسكن بجوار عائلة مرسيديس، فإن تفاصيلها وخفاياها خرجت من ذاكرتها وكان لها دور أساسي في تسلسلها واختيار هويّة بطلها. وكان صادف أن تزامن لقائي الأول بماركيز مع صدور تلك الرواية التي أمضى عامين في كتابتها ويعتبرها كبار النقّاد بأنها من أنجح أعماله وأكثرها إتقاناً، وكشف لي في الحديث أن جميع الأحداث التي يرويها جرت في الواقع بكل حذافيرها كما أملتها عليه زوجته، باستثناء أمر واحد هو أن الشخصية الرئيسية كان مهاجراً إيطالياً يدعى كايتانو جنتيلي، لكن مرسيديس اقترحت أن يستبدله بالمهاجر اللبناني سانتياغو نصّار (لأن معظم المهاجرين في تلك البلدة كانوا من أصول لبنانية ولم يكن فيها سوى عائلة إيطالية واحدة هي عائلة الضحية وبطل الرواية) كما روى عن لسانها. وكان رودريغو، النجل الأكبر لماركيز ومرسيديس وهو مخرج وكاتب سينمائي، كشف مؤخراً أنه اتفق مع شركة «نتفليكس» العالمية التي تقوم حالياً بتصوير «مائة عام من العزلة» في مسلسل طويل على تعديل السيناريو الأصلي لإبراز الدور الذي لعبته مرسيديس في صيرورة هذه الرواية التي تعتبر أشهر أعمال غابو، والتي وضعت عشرات أطروحات الدكتوراه حولها في جامعات أميركا اللاتينية والعالم. وقال رودريغو إن العائلة اشترطت للموافقة على إنتاج المسلسل، أن يكون باللغة الإسبانية ويجري التصوير في كولومبيا (التي دارت فيها جميع أحداث روايات غابو وكانت المسرح الدائم لهواجسه وأحلامه والمصدر الرئيسي لإلهامه رغم أنه عاش معظم سنوات حياته خارجها).
وفي نهاية الاحتفال كشف ناطق باسم الجامعة التي يوجد فيها ضريح ماركيز وزوجته أن تمثالاً لمرسيديس من صنع النحات الكولومبي العالمي فرناندو بوتيرو سيوضع قريباً بجانب تمثال غابو من أعمال الفنانة البريطانية المعروفة كاتي مورّاي.