مئوية التركتاتوس... رسالة فلسفية للإلهام وليس للجدل

برتراند راسل كتب مقدمة ترجمتها الإنجليزية

مئوية التركتاتوس... رسالة فلسفية للإلهام وليس للجدل
TT

مئوية التركتاتوس... رسالة فلسفية للإلهام وليس للجدل

مئوية التركتاتوس... رسالة فلسفية للإلهام وليس للجدل

ما زال تأثير «التركتاتوس» للفيلسوف النمساوي - البريطاني لودفيخ فتخنشتاين كبيراً جداً، حتى خارج نطاق الفلسفة. فكيف لهذه الفلسفة الصعبة والمجردة والمنطقية فلسفياً أن تحظى بهذا الاهتمام بعد مرور مائة سنة على طرحها؟
يقول راي مونك في حوار له مع الصحافية لورا مولنار، بأن الرسالة - الترَكتاتوس كتاب صعب، مبهم، فلسفي منطقي، وهو العمل الرئيسي لِفتخنشتاين، ويرجع سر بقائه إلى القوة الشعرية للكتاب.
ويضيف مونك، أنه واجه صعوبة في فهم الرسالة عندما قرأها لأول مرة، وهو في أوائل العشرينات من عمره. يقول عن ذلك «لم أفهم الرسالة على الإطلاق. إلا بعد أن درست ميتافيزيقا التراكتاتوس في الجامعة».
واشتهر مونك، الذي عمل أستاذاً في جامعة ساوث هامبتون في إنجلترا، بعد كتابته سيرة حياة فتخنشتاين، تحت عنوان «واجب العبقرية».
لقد أنهى فتخنشتاين كتابه «تراكتاتوس» في عام 1918، لكنه واجه صعوبة كبيرة في العثور على ناشر. لم يكن هذا بسبب الوضع المالي الصعب في النمسا مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن كان بسبب محتوى الكتاب نفسه. كتب إلى ناشر مُحتمل «يتكوَّن كتابي من جزأين: الجزء الأول موجود هنا... الجزء الآخر بالتحديد هو المهم». وما نستنتجه عند دراسة هذا الفيلسوف هو أنه قد أحدث تحولاً كبيراً في فلسفته، لدرجة أن المرء يتحدث عن فتخنشتاين الأول وما بعده.
ظهرت الرسالة باللغة الألمانية عام 1921، ثم تلتها الترجمة الإنجليزية بعد عام، بفضل تعاون برتراند راسل، الذي كتب مقدمة الكتاب بصفته فيلسوفاً معروفاً وصديقاً لفتخنشتاين. أما العنوان فهو إشارة إلى عمل سبينوزا الموسوم «رسالة في اللاهوت والسياسة Tractatus Theologico - Politicus» الصادر عام 1870.
يتكون التراكتاتوس من 7 مقترحات رئيسية. وكل اقتراح رئيسي (ما عدا السابع) مزود بتفاصيل وتعليقات، هي نفسها مزودة بالتفاصيل والتعليقات. أعطى للمقترحات الرئيسية عدداً صحيحاً (من 1 إلى 7)، وللتعليقات على المقترحات الرئيسية رقماً عشرياً واحداً (1.1، 1.2 إلخ...). أما التعليمات فتحتوي على رقمين عشريين (2.12، 1.12 إلخ...). وهذا يؤدي إلى إنشاء ترتيب صارم. لذلك؛ لا يبدو العمل كتاباً فلسفياً «عادياً» على الإطلاق.
لم تكن الظروف التي كتب فيها فتخنشتاين العمل مثالية. فقد بدأ به خلال الحرب العالمية الأولى أثناء خدمته جندياً (ولاحقاً ضابطاً) في الجيش النمساوي. وأكمل العمل عندما سُجن في معسكر أسرى حرب إيطالي في نهاية الحرب. وكان قد بدأ بالفعل في وضع الأفكار الرئيسية للكتاب، بعد دراسة الفلسفة على يد راسل في كمبردج لمدة عام ونصف العام فقط، ثم غادر إلى النرويج في عام 1913، أي قبل عام من اندلاع الحرب العالمية الأولى، للعمل على فلسفته في عزلة في كوخ بناه بنفسه.
وفقاً لفتخنشتاين؛ فالهدف من الفلسفة هو التوضيح المنطقي للأفكار. كما أن الفلسفة ليست عقيدة، بل نشاط. وهي لا تؤدي إلى «الافتراضات الفلسفية»، بل إلى توضيح الافتراضات. ويجب على الفلسفة أن توضح وتحدد بدقة الأفكار الغامضة، وأن تحدد ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره، وتشير إلى ما لا يوصف، من خلال التعبير عن ما يمكن قوله بوضوح.
لطالما كان هدف الفلسفة في زمنه، هو البحث عن إجابات لكل هذه المشكلات الفلسفية الأساسية، عن طريق خلق أنظمة ميتافيزيقية مختلفة ومعقدة، كما في أنظمة أفلاطون وسبينوزا وشوبنهاور وكانط وإلى حد ما نيتشه أيضاً، على سبيل المثال. كل من ساهم في الفلسفة عبر التاريخ يوافق على هذا. كان هذا الاتفاق بمثابة أساس الجدل الفلسفي منذ العصور الكلاسيكية.
لكن فتخنشتاين يعارض هذا الرأي بشكل جذري؛ إذ يدعي أنه ليس هناك مشاكل فلسفية على الإطلاق، وكل ما يسمى بالأسئلة الفلسفية الأساسية التي حاول الفلاسفة عبر العصور إيجاد إجابات لها من خلال جميع أنواع الأنظمة الميتافيزيقية هي في الواقع مشاكل خاطئة.
وقد توصل إلى هذا الاستنتاج بملاحظة أن كل ما يسمى بالمشكلات الفلسفية الأساسية والأنظمة الميتافيزيقية المرتبطة بها تشترك في صفة أساسية واحدة، «أنها جميعاً مطروحة في اللغة». أو بتعبير أدق؛ يتمُّ طرحها جميعاً في لغة عامية طبيعية. والسبب في أن كل هذه المشكلات هي مشكلات زائفة، ناتجة من استخدام غامض أو خاطئ أو حتى غير مناسب للغة.
يقول مونك «الدافع الأصلي لكتابة التراكتاتوس هو تناقض واجَهَه الفلاسفة برتراند راسل وغوتلوب فريج... إذ حاول راسل وفريج بناء الرياضيات على المنطق لإعطائها أساساً لا شك فيه. وذلك بتشكيل هذا المنطق بشكل مختلف، لكنهما لم يتمكنا من فهمه تماماً. ويضيف «كانت فكرة فتخنشتاين أن راسل وفريج واجها تناقضات لأنهما كانا يحاولان قول شيء لا يمكن قوله». فإن ما يمكن قوله عن طريق التعبير، لا يمكن قوله دون اصطدام بالحدود التي ترسمها لنا اللغة، والأقوال التي نعبر بها عن عالمنا دون مراعاة هذه الحدود تكون عادة هراءً، فكان الأجدر بنا التزام الصمت عندما يتعذر علينا التعبير بوضوح».
إنه يريد أن يظهر أن المشكلات الفلسفية ليست سوى سوء فهم بشأن منطق اللغة، من خلال رسم خط واضح بين ما يمكن الحديث عنه وما لا يمكن الحديث عنه. وهو يضع الحدود بوعي مع اللغة وليس مع الفكر؛ لأنه من أجل رسم الحدود، يجب أن نختبر جانبي هذه الحدود. ويلخص فتخنشتاين ذلك في بيانه المعروف «ما يمكن قوله يمكن قوله بوضوح؛ وما لا يمكن الحديث عنه، يجب على المرء أن يصمت». فالصمت الذي كان قد دعا إليه لا يعدّه مشكلة وإنما علامة على ممارسة سليمة للفلسفة وموقف يلتزم باحترام حدود اللغة. لكن المشكلة تكمن في عدم تحملنا التزام الصمت، بخصوص القضايا التي لا نستطيع التعبير عنها بوضوح. وقد سعى، في مرحلته الثانية، إلى وضع الحدود التي تجعل اللغة تلتزم الصمت، حيث يجب الصمت. علماً بأن فتخنشتاين ميّز بشكل مهم بين القول والعرض؛ ففي بعض الحالات لا يمكنك التحدث عن شيء ما، بل يمكنك فقط إظهاره. وهكذا أحدث اختراقاً في عمله الفلسفي من خلال ما يسمى بـ«نظرية الصورة في اللغة». وهو أن العبارة أو الاقتراح هما صورة للعالم «فالتركيب المنطقي للجمل يعكس البنية المنطقية للواقع». هذه الفكرة في حد ذاتها لم تكن جديدة، لكن فتخنشتاين أضاف عليها بأن ما تشترك فيه اللغة والواقع لا يمكن التعبير عنه بالكلمات نفسها.
ونخلص أن الجاذبية الدائمة لهذه التحفة الفنية تتجاوز في الأساس أسلوبها أو محتواها الفلسفي. إن أطروحاته تعدّ نتاجاً للإلهام أكثر منه للجدل. ويبدو أن هذا الإلهام هو الشيء الرئيسي الذي استمدّه ملحنون وفنانون، من عمله؛ على سبيل المثال لا الحصر، الملحن والموسيقي الأميركي ستيف رايش والرسام والنحات الأميركي بارنيت نيومان وغيرهما. لقد جسّدوا الصمت، الذي فرضه فتخنشتاين، كل واحد على طريقته.* كاتبة مغربية



«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة
TT

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

«منازل العطراني»... سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة

رواية «منازل العطراني» للروائي جمال العتابي، الصادرة عام 2023، سيرة ذاتية بنكهة الرواية الحديثة؛ إنها تحاول أن تلملم خيوط حكايةٍ بطلُها «محمد الخلف» الذي هرب من السجن وراح يرسم خطة دقيقة للوصول إلى ملاذ آمن في قريته «العطرانية» في منطقة الفرات الأوسط. ونكتشف أن بطل الرواية كان سجيناً من سجناء الرأي بعد عام 1960، إذ أُحيل بتهمة كيدية ملفقة إلى المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالسجن، وأودع سجن الكوت. وعندما حدث انقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963 الفاشي، نجح السجناء، ومنهم بطل الرواية، بالتعاون مع أبناء المدينة، في كسر أبواب السجن، وإطلاق سراح السجناء الذين اتخذوا طرقاً مختلفة للوصول إلى بيوتهم أو البحث عن ملاذات آمنة.

والرواية بكاملها عبارة عن مونولوغ داخلي طويل، من وجهة نظر بطل الرواية، يتحدث فيه عن حياته الجديدة المجهولة تماماً:

«أين المسار، بعد أن بِتَّ ليلتك في بيت أحد أصحابك المعلمين في الكوت؟ أصبحت طليقاً الآن، قالها «محمد الخلف»، وبحيرة وذهول: ما زلت بملابس السجن»، (ص 5).

وهكذا تتشكل البنية السردية للرواية، بوصفها بنية بحث عن ملاذ آمن، وبنية مطاردة، مرئية وغير مرئية، من أجهزة الأمن الديكتاتورية آنذاك. وتتحول قرية «العطرانية» وهي سكن العائلة والعشيرة في منطقة الفرات الأوسط إلى بنية مكانية مولدة، تحرك الأحداث، وتستحضر الذكريات المغيَّبة، وتقدم مراجعة نقدية ذاتية لتجربة الحركة الوطنية طوال نصف قرن، وتعيد تشكيل صورة البنية السردية بكاملها.

فعندما وصل «محمد الخلف» إلى قرية «العطرانية» أطلق عليه «نوار الناهض»، زوج شقيقته الذي رافقه إلى قرية «العطرانية» في قلعة سكر بالناصرية، لقب «محمد العطراني»، ووفَّر له ملاذاً آمناً:

«ها هو مخبؤك، بعيدٌ عن أعين الرقباء، تستعيد فيه ملامح الماضي»، (ص 29).

وكان هذا المخبأ حقاً فرصة مناسبة لـ«محمد الخلف»، لمراجعة صفحات حياتية بعين نقدية فاحصة ونقد ذاتي سياسي وشخصي للسنوات الماضية. والرواية، من جانب آخر، تفضح مظاهر العنف والاستبداد التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية، وبشكل خاص نظام البعث وأجهزة أمنه ومخابراته، كما تنطوي الرواية على مراجعة لتاريخ العراق السياسي طيلة نصف قرن، وتحديداً منذ ثورة الرابع عشر من يوليو (تموز) عام 1958 حتى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. كما تكشف الرواية عن استيعاب دقيق لطبيعة الحياة اليومية وتفاصيلها في الأرياف والأهوار. ويمكن القول إن معظم شخصيات الرواية الثانوية هي من شريحة الفلاحين الكادحين، باستثناء نماذج تنتمي إلى شريحة المثقفين والمتعلمين في مقدمتهم بطل الرواية «محمد الخلف»، وولده «خالد»، فضلاً عن «نوار»، زوج شقيقته الكبرى الذي رافقه إلى ملاذه الأخير. وتُختتم الرواية بقرار الحكومة بإخلاء السجون والعفو عن المحكومين والسجناء والهاربين وإطلاق سراحهم، وذلك الإجراء كان إجراء استباقياً لاحتمال احتلال البلاد وغزوها بعد أن راحت الحشود العسكرية الأجنبية تقف على الحدود لاحتلال البلاد خصوصاً بعد احتلال النظام الصدامي لدولة الكويت الشقيقة:

«الغاية واضحة، النظام أقدم على الإجراء قبل أن يتداعى وينهار، أمام حشود العساكر التي تنتظر في الحدود لاحتلال البلاد وغزوها»، (ص 252).

وتكشف الرواية، من الناحية السردية، عن نزعة ميتاسردية واضحة، تتمثل في رغبة بطل الرواية «محمد الخلف» في كتابة مذكراته، ومنها الأوراق السبع التي كتبها والمؤرَّخة في: «22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963 – العطرانية»، (ص 120). فضلاً عن وجود إشارات إلى أنه ترك فصولاً من مذكراته عن سيرته الشخصية بعنوان «مذكرات عطراني»، (ص 120). وهناك من بين مذكراته فصل أفرد له عنواناً باسم «سردياته» يتحدث فيه عن حياته عندما كان معلماً في الأربعينات، بعد أن نُقل إليها من «الدواية» عام 1951، وفيها وصفٌ شامل لحياة الناس والقرية والمدرسة، وبشكل خاص لمعلميها وطلابها، (ص 123).

وكانت الأم، زوجة «محمد الخلف»، رمزاً للمرأة العراقية المكافحة والصابرة التي تحملت كل المآسي والخسارات التي مرت بالأسرة والمجتمع:

«امرأة عاشت عمراً كاملاً من الأحزان والمرارة، مع ذلك ظلت شامخة كنخلة راسخة في الأرض»، (ص 250).

ونجد مظاهر واضحة للكوميديا السوداء في كثير من صفحات الرواية، وهي تسخر من أنظمة الاستبداد والديكتاتورية، وتكسر جدار الخوف الذي يمنع المواطن من مقاومتها، وربما تتجلى هذه الظاهرة في السخرية من استثمار لافتات النظام الديكتاتوري التي تحمل شعارات الحزب الحاكم (الحرية والاشتراكية) لعمل ملابس داخلية للأطفال، وكما قال أحد الأشخاص ساخراً: «تسترون مؤخراتكم بعبارات التحدي والنصر القادم!»، (ص 248). وكما قال «محمد الخلف» لأحد أشخاص الرواية:

«كان علينا أن نشملك بهذه (المكرمة) بالعيد، ربما وجدت عند خصيتيك شعارات (الحرية والاشتراكية). الأحفاد كذلك، نالوا حصتهم من (المكارم)، تلك ألبستهم الداخلية زاهية بشعارات تمجّد الأمة، خصوصاً إذا كان القماش ملوناً أصلاً»، (ص 248).

ومن الضروري الإشارة إلى وجود تنوع في أنماط السرد. على الرغم من هيمنة بنية المونولوغ الداخلي، التي تستبطن لا وعي بطل الرواية «محمد الخلف». فهناك فصول ومقاطع تكشف عن بنية السرد كلي العلم، وأخرى تعتمد على بنية المشهد الروائي، كما تشغل الحوارات الخارجية موقعاً خاصاً في البنية السردية، ولا يمكن أن نتجاهل الطبيعة البوليفونية متعددة الأصوات في السرد والتي تمنح الفرصة لعدد من الشخصيات الروائية لتقديم منظوراتهم ووجهات نظرهم السردية.

ففي الفصل السابع والعشرين يعتمد السرد إلى درجة كبيرة على بناء المشهد:

«عندما ينام الجميع، يبقى محمد مستيقظاً تحت الضوء الشاحب، المنسكب من السقف»، (ص 142).

كما نجد مظاهر للسرد كلي العلم، وهو سرد خارجي تقريري:

«كان محمد الخلف قد رسم له مسالك الطريق من ساحة الأمين إلى الكاظمية ثم إلى مدينة الحرية في الشارع المقصود في أول مظلة»، (ص 36).

ويتكرر توظيف بنية المونولوغ الداخلي في حوارات عدد من الشخصيات الروائية، منها منولوغات «نوار»:

«أذهب إلى الفراش كي أستريح، أصبح النوم صعباً، كم أيقظتني الكوابيس!»، (ص 32).

أو كما نجد الابن خالد في هذا المونولوغ عقب زيارته لوالده في السجن:

«كنت أوجه كلامي لأبي، ولا أعرف بالضبط لماذا انصرفت إلى رصد حالات الانفعال في وجوه السجناء ووجوه عوائلهم»، (ص 9).

الرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل

ونلاحظ أن عنوان الرواية «منازل العطراني» بوصفه عتبة نصية أولى بتعبير الناقد الفرنسي جيرار جنيت، ينطوي على دالّين سيميائيين: الأول دالٌّ مكاني هو «منازل» وهو الملاذ الذي اتجه إليه بطل الرواية «محمد الخلف» في هروبه والذي يشير إلى قرية «العطرانية» في الفرات الأوسط. أما الدال الثاني (العطراني) فيشير إلى شخصية بطل الرواية «محمد الخلف». وبهذا فالرواية تتحول جزئياً إلى رواية عن المكان، بوصفه مولداً للسرد، ورواية شخصية مركزية من جهة أخرى.

لكن الرواية في مجملها تظل رواية شخصية (Personality Novel) لأنها تتمحور، كما أشرنا سابقاً، حول سيرة بطلها ومعاناته داخل السجن وخارجه، حيث تتشكل الشخصية وبناؤها عبر أكثر من مستوى من مستويات السرد. فهناك سرد «بيوغرافي» يقدمه البطل نفسه من سلسلة مونولوغاته، التي تشكل القسم الأعظم من البنية السردية، كما تسهم تعليقات وأحكام أفراد أسرة البطل وأصدقائه في إضاءة جوانب مختلفة من شخصيته. وبهذا، فالشخصية الروائية تتحول إلى بؤرة مركزية تتوجه إليها جميع أنماط السرد، لتعلن في النهاية عن تكامل شخصية بطل الرواية «محمد الخلف»، كما رسمها الروائي.

وكما أشرنا سابقاً، فالرواية لم تسقط في التسجيلية والوثائقية، وبقيت أمينة على شروط السرد والتخييل، من خلال خلق شخصية روائية افتراضية، وورقية إلى حدٍّ كبير، بتعبير رولان بارت، لكنها لم تقطع جذورها بالأرض والحياة والواقع.