رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

حذّرها من تشبثه المرَضي بالحرية قبل أن يرفع راية استسلامه

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
TT

رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري

«من أجل أن أملأ الفراغ المهيب الذي تركه غيابك. من أجل أن أكون معك وبرفقتك، سأشرع بتدوين مسيرة حياتنا على مدى أربعين عاماً. حدثتك ذات يوم، كنتَ قد استعدتَ فيه بعض عافيتك، عن نيتي تأليف كتاب كهذا، فانفرج وجهك السمح، وقلت بصوت خافت: يا ريت».
بهذه العبارات المؤثرة تستهل الشاعرة والكاتبة والمترجمة العراقية مي مظفر، وقائع حياتها المشتركة مع الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري، التي أصدرتها بعد رحيل الزوج في كتاب متميز بعنوان «أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار». على أنني أود أن أستبق الدخول إلى تفاصيل السيرة ومناخاتها بالإشارة إلى أن شروع مظفر بإنجاز هذا العمل، لا يهدف إلى انتشال الفنان المبدع الذي اقترنت به، من عهدة النسيان، لأن أمراً كهذا لا بد أن تتكفل به أعماله وإبداعاته قبل أي شيء آخر، بل إلى منع الوقائع والتفاصيل الصغيرة التي ربطت حياتيهما برباط الحب والصداقة والألفة، من الاضمحلال. فإذا لم تكن الزوجة الكاتبة قادرة على ردع الموت كحدث بيولوجي، فباستطاعتها عبر الكلمات أن توقف مفاعيله الأكثر مأساوية، وتنقذ تفاصيل حياتها مع الرجل الذي أحبته من الغرق. وهو الأمر نفسه الذي فعلته آنا غريغوريغنا بعد رحيل دوستويفسكي، وفيرا بوليكافا بعد رحيل ناظم حكمت، وصوفيا تولستايا بعد رحيل تولستوي، وغيرهن كثيرات. والأرجح أن ترجمة مظفر للسيرة الذاتية التي كتبتها فرنسواز جيلو تحت عنوان «حياتي مع بيكاسو»، قد حرضتها بشكل أو بآخر على القيام بالخطوة نفسها، بمعزل عن التباينات العديدة التي تفصل بين الثنائيين.
أما الأمر الآخر الذي يصعب القفز من فوقه، فهو يتعلق بعنوان الكتاب الذي يتخطى الصدفة المجردة، ليصبح الجمع بين الماء والنار نوعاً من المؤالفة المستحيلة بين عنصرين متضادين، يفضي كل منهما إلى محو وجود الآخر. ومع أن الكاتبة لا تشير إلى النار بوصفها المعادل الرمزي للفنان الشاب ذي التكوين العصبي والمزاج الفوار، أو إلى نفسها بوصفها المرأة المتفهمة التي تقع وقوع الماء على طبيعته النارية، فإن لنا كقراء أن نستخلص ذلك من سياق السيرة، رغم أنه لا شيء يمنع الطرفين من تبادل الأدوار، وفقاً لمسار العلاقة وتبدل الظروف.
ولا بد من التنويه في الوقت ذاته بأن كلا الكاتبة والفنان لم يقعا في الحب من النظرة الأولى، بل احتاجت علاقتهما إلى العديد من اللقاءات الصعبة والمتباعدة، وتعرضت للكثير من «الكر والفر» قبل أن تصل إلى برها النهائي. وحيث لا تتوانى مظفر عن القول في بداية السيرة «لم يكن رافع نموذجاً أطمح له أو أتمناه»، فإن الأمر لا يعود إلى عدم إعجابها بالفنان الوسيم الذي كانه رافع في مطالع صباه، بل لما تناهى إلى مسامعها عن تعدد علاقاته مع النساء، وبالتالي عدم استقراره العاطفي. وحين وصف نفسه في أحد لقاءاتهما المتباعدة بالعاشق الفاشل، لم تتردد في القول له «ما تقوله مخالف لما سمعته عنك، إذ يقال بأنك عاشق لا يُشق له غبار».
على أن سوء التفاهم الذي نشأ بين الطرفين، ما لبث أن ارتفع منسوبه مع تصريحات رافع المتكررة حول توجسه العميق من المؤسسة الزوجية، التي تفسد من وجهة نظره الجانب الجمالي من الحب. ورغم تثبت مي من مشاعر رافع إزاءها، بخاصة بعد أن فشل في إخفاء غيرته عليها وهم بضرب أحد المتحرشين بها من زملائه الفنانين، فقد شعرت مع ذلك بأنها لا تملك خياراً سوى الرحيل، خصوصاً بعد أن باغتها رافع بقوله «أنا لا أعرف ما أريد. أنا لم أتعلق بامرأة قدر تعلقي بك. لكنني أفضل الانتحار على الارتباط». وحيث لم تجد بداً من وضعه إثر ذلك بين خياري الزواج والفراق، باعتبار أن محيطها الاجتماعي المحافظ لن يسمح لها على الإطلاق بإقامة علاقة حرة ومفتوحة مع أي كان، آثر الفنان الخائف من وطأة القيود الانحياز إلى الخيار الثاني، متجرعاً مرارة التضحية بالمرأة التي ملكت عليه قلبه، لإنقاذ إبداعه من الضمور والجفاف، كما بدت له الأمور في تلك المرحلة.
ومع أن لقاء العاشقين في إحدى المناسبات الثقافية بيروت، لم يفلح في ردم الهوة بينهما بالكامل، خصوصاً أن الناصري كان يصطحب بزهو إحدى الفنانات اللبنانيات الجميلات، فقد أمكن للقاءاتهما اللاحقة في بغداد أن تعيد وصل ما انقطع بينهما، لتبلغ العلاقة خواتيمها السعيدة عام 1973، ولأن لرباطهما الزوجي، بوصفهما فنانين مبدعين، بصمته الخاصة والبعيدة عن المألوف فقد توافق الطرفان على أن لا يزيد مهر العروس عن دينار واحد، كما على قضاء ليلة الزفاف في مرسم الزوج الذي تعمه الفوضى، بانتظار أن يفرغا من تأهيل «الكوخ» الصغير الواقع عند طرف المنزل العائلي.
في البيوغرافيا المسهبة التي تقدمها لنفسها، قبل استكمال سيرتها اللاحقة مع رافع، تطلعنا مظفر على جوانب مهمة من طفولتها ونشأتها وظروفها العائلية، بالتوازي مع واقع العراق السياسي والاجتماعي والثقافي في العهد الملكي، وما تبع ذلك من انقلابات دموية متلاحقة حولت بلاد الرافدين إلى ساحة للقلق والصراع الآيديولوجي والعنف الدموي. ومع ذلك فقد أتاحت لها بيئتها العائلية المتنورة، فضلاً عن تفوقها الدراسي في اللغة الإنجليزية، أن تطل من الباب الواسع على المشهد الثقافي الحداثي في العراق والعالم العربي، حيث تعرفت إلى بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل وأحمد رامي ومحمد مندور ونزار قباني وأدونيس ونجيب المانع، وكثر غيرهم. كما وفر لها عملها في شركة إعادة التأمين العراقية، الفرصة الملائمة للتعويض عما خسرته في فترات الضياع وانعدام الوزن. وهي إذ تعبر عن تلك المرحلة بالقول «كان الوقت يهرب مني، وقد أعطيت لغيري أضعاف أضعاف ما أعطيته لنفسي»، تعاود بكل طاقتها الانصراف إلى الكتابة، موزعة نفسها بين الشعر والقصة والترجمة والنقد التشكيلي.
إلا أن اللافت في هذا السياق، هو أن مظفر تكف في الفصول اللاحقة عن إطلاعنا على مجريات العلاقة بعد الزواج، بحيث لم نعد نعثر على التفاصيل اليومية الصغيرة لتلك العلاقة وما كان يتخللها من مكابدات ومشقات، خصوصاً وقد سبق للكاتبة أن أشارت إلى أن الناصري لم يكن من النوع الطيع الذي يسهل تدجينه. لم يعد ثمة حديث عن أنا الزوج ونرجسيته المتفاقمة، أو عما يشي بغيرته المفرطة، أو عن تضارب الأمزجة بين الطرفين. فهل كان الأمر عائداً إلى تبدل في سلوك الفنان أوجبه نزوع مستجد إلى الاستكانة والتكيف مع موجبات الواقع الجديد؟ أم بسبب المكابدات الأكثر هولاً التي عاشها العراقيون تحت القبضة الشرسة لسلطة الاستبداد، والتي نقلت الخلافات العائلية والشخصية إلى مرتبة هامشية؟ أم أن الرحيل المأساوي للزوج لم يترك للمرأة المكلومة سوى أن تسند لغتها إلى النوستالجيا المجردة، غير آبهة بهنات علاقتهما الهينات؟
وأياً يكن السبب الحقيقي لهذه الانعطافة الواضحة في مقاربة الأمور، فإن سياق السيرة يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما أسهم في توطيد العلاقة بين الزوجين، هو إصرارهما المشترك على عدم تحويل «المؤسسة» إلى مساحة ضيقة لتوليد الرتابة والضجر، بل إلى متحد عاطفي وإنساني لمواجهة الصعوبات والمخاطر، إضافة إلى حرص كل منهما على أن يوفر للآخر الظروف الملائمة لاستكمال مشروعه الإبداعي، دون أي شعور بالحسد أو الغيرة، كما حدث للعديد من الثنائيات «المتصارعة». كما أن إصرار الطرفين على التلازم شبه الدائم في الرحلات التي قادتهما إلى مختلف الأقطار، قد وفر للعلاقة فرصة ملائمة للنمو، ومسرحاً للتجدد تُلامس حدوده مساحة الكوكب الأرضي. وهو ما يؤكده توثيق صاحبة «من تلك الأرض النائية» لمعظم هذه الرحلات، وما تخللها من وقائع وأحداث ولقاءات متنوعة مع الكثير من الكتاب والمبدعين.
ورغم تركيز الكاتبة المسهب على جماليات السفر ودوره في توسيع أفق الزوجين المعرفي، فإن ذلك لم يمنعها من التركيز على تعلقهما المفرط بتراب البلد الأم، حتى لو دفعا معاً الكلفة الباهظة لممارسات النظام الاستبدادي الدموي. وهو ما يفسر إصرار رافع، في فترة الثمانينات التي مُنع خلالها من السفر، على بناء منزل جميل في إحدى ضواحي بغداد، مسوراً إياه بالكثير من الأشجار والورود التي يحبها. على أن القرار الذي اتخذه صدام بغزو الكويت عام 1990، أطاح بفترة التنعم القصيرة التي عاشها الزوجان في كنف ذلك المنزل الرومانسي، مسبباً لهما سلسلة من المشقات التي بدأ جسم الزوج المنهك من الترحال يترنح تحت وطأتها. ومع أن الناصري الذي كان مدعواً مع مي إلى موسم أصيلة الثقافي، تلقى من صديقه الأثير محمد بن عيسى عرضاً صادقاً للإقامة في المغرب، إلا أنه أصر على العودة إلى العراق متنكباً، لدى اندلاع حرب الخليج الثانية، مشقة الانتقال من منزل إلى منزل تجنباً للقصف الشديد الذي كان ينهال على عاصمة الرشيد من كل حدب وصوب.
وحيث أعيت الحيلة الزوجين، وتحولت الحياة في العراق بفعل الحصار الخانق إلى كابوس حقيقي، لم يجد الزوجان بداً من المغادرة إلى الأردن ليقضيا في كنفه سنوات سبعاً، زاول رافع أثناءها التدريس في جامعة اليرموك، كما أسهم بحيوية فائقة في المناخ الثقافي المزدهر، الذي شكلت دارة الفنون في عمان واسطة عقده الأهم في حقبة التسعينات. وحين انتهى عقده الوظيفي مع جامعة اليرموك، انتقل الزوجان إلى البحرين، إثر عرض مماثل تلقاه الناصري للتدريس في جامعتها. وهو ما أتاح لمي أن تنجز، بفعل الشعور بالسكينة والأمان المعيشي، العديد من الأعمال الأدبية والشعرية، بينها مجموعتها الرابعة «محنة الفيروز» وعملها القصصي «بريد الشرق»، فيما أمكن لرافع أن يقرأ المتنبي قراءة معمقة، وينجز أعمالاً فنية ذات منحى صوفي، أقام لها في تلك الفترة معرضاً متميزاً بعنوان «تحية للمتنبي».
مع انتهاء عقد العمل في البحرين عام 2003، كان على الزوجين أن يقيما مرة أخرى في عمان، بعد أن تعذرت عودتهما إلى بغداد، بفعل الغزو الأميركي للعراق والفوضى العارمة التي أعقبته. أما الجانب الأكثر إيلاماً من تلك الفوضى، فقد تمثل بالنسبة للزوجين في سرقة الكثير من مقتنيات منزلهما البغدادي وتُحفه الثمينة، ومن ثم مقتل الرجل الموكل بحراسته، الأمر الذي اضطرهما إلى بيع ذلك المنزل ذي التصميم الهندسي الجميل، الذي عولا معاً على تزجية كهولتهما المرتقبة، بين زواياه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان على رافع، الذي عدته إيتيل عدنان أفضل فنان عربي تجريدي، أن يخوض في عام 2009 حربه الأكثر شراسة مع السرطان. ورغم ما ألحقه به المرض من تصدعات، فقد استمر دون هوادة في إنتاج المزيد من اللوحات والأعمال الفنية، متخذاً من صرخة محمود درويش المؤثرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» حرزه ورقْيته المضادة لليأس. إلا أن الموت الذي ربح معركته الحاسمة مع جسد رافع عام 2013، لم يتمكن من أن يربح حربه على روحه وموهبته ونتاجه الإبداعي.
ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة، هو ما حرصت مي مظفر على أن تختتم به سيرتها الشخصية مع رفيق دربها الأثير، حيث كتبت: «قبل أسبوع من رحيله، رأيت أننا معاً في جبال لبنان فطلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلاً لأنه يريد تصوير المنطقة. حذرته من أن ساقيه لا تحتملان تسلق الجبل فلم يرد. ترجل من السيارة مع الكاميرا، وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع، ثم طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي. بقيت أتابعه حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد له أثراً. بقيت أنادي وأنادي، فلا أسمع سوى صوتي يتبدد في الفضاء».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي