رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

حذّرها من تشبثه المرَضي بالحرية قبل أن يرفع راية استسلامه

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
TT

رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري

«من أجل أن أملأ الفراغ المهيب الذي تركه غيابك. من أجل أن أكون معك وبرفقتك، سأشرع بتدوين مسيرة حياتنا على مدى أربعين عاماً. حدثتك ذات يوم، كنتَ قد استعدتَ فيه بعض عافيتك، عن نيتي تأليف كتاب كهذا، فانفرج وجهك السمح، وقلت بصوت خافت: يا ريت».
بهذه العبارات المؤثرة تستهل الشاعرة والكاتبة والمترجمة العراقية مي مظفر، وقائع حياتها المشتركة مع الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري، التي أصدرتها بعد رحيل الزوج في كتاب متميز بعنوان «أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار». على أنني أود أن أستبق الدخول إلى تفاصيل السيرة ومناخاتها بالإشارة إلى أن شروع مظفر بإنجاز هذا العمل، لا يهدف إلى انتشال الفنان المبدع الذي اقترنت به، من عهدة النسيان، لأن أمراً كهذا لا بد أن تتكفل به أعماله وإبداعاته قبل أي شيء آخر، بل إلى منع الوقائع والتفاصيل الصغيرة التي ربطت حياتيهما برباط الحب والصداقة والألفة، من الاضمحلال. فإذا لم تكن الزوجة الكاتبة قادرة على ردع الموت كحدث بيولوجي، فباستطاعتها عبر الكلمات أن توقف مفاعيله الأكثر مأساوية، وتنقذ تفاصيل حياتها مع الرجل الذي أحبته من الغرق. وهو الأمر نفسه الذي فعلته آنا غريغوريغنا بعد رحيل دوستويفسكي، وفيرا بوليكافا بعد رحيل ناظم حكمت، وصوفيا تولستايا بعد رحيل تولستوي، وغيرهن كثيرات. والأرجح أن ترجمة مظفر للسيرة الذاتية التي كتبتها فرنسواز جيلو تحت عنوان «حياتي مع بيكاسو»، قد حرضتها بشكل أو بآخر على القيام بالخطوة نفسها، بمعزل عن التباينات العديدة التي تفصل بين الثنائيين.
أما الأمر الآخر الذي يصعب القفز من فوقه، فهو يتعلق بعنوان الكتاب الذي يتخطى الصدفة المجردة، ليصبح الجمع بين الماء والنار نوعاً من المؤالفة المستحيلة بين عنصرين متضادين، يفضي كل منهما إلى محو وجود الآخر. ومع أن الكاتبة لا تشير إلى النار بوصفها المعادل الرمزي للفنان الشاب ذي التكوين العصبي والمزاج الفوار، أو إلى نفسها بوصفها المرأة المتفهمة التي تقع وقوع الماء على طبيعته النارية، فإن لنا كقراء أن نستخلص ذلك من سياق السيرة، رغم أنه لا شيء يمنع الطرفين من تبادل الأدوار، وفقاً لمسار العلاقة وتبدل الظروف.
ولا بد من التنويه في الوقت ذاته بأن كلا الكاتبة والفنان لم يقعا في الحب من النظرة الأولى، بل احتاجت علاقتهما إلى العديد من اللقاءات الصعبة والمتباعدة، وتعرضت للكثير من «الكر والفر» قبل أن تصل إلى برها النهائي. وحيث لا تتوانى مظفر عن القول في بداية السيرة «لم يكن رافع نموذجاً أطمح له أو أتمناه»، فإن الأمر لا يعود إلى عدم إعجابها بالفنان الوسيم الذي كانه رافع في مطالع صباه، بل لما تناهى إلى مسامعها عن تعدد علاقاته مع النساء، وبالتالي عدم استقراره العاطفي. وحين وصف نفسه في أحد لقاءاتهما المتباعدة بالعاشق الفاشل، لم تتردد في القول له «ما تقوله مخالف لما سمعته عنك، إذ يقال بأنك عاشق لا يُشق له غبار».
على أن سوء التفاهم الذي نشأ بين الطرفين، ما لبث أن ارتفع منسوبه مع تصريحات رافع المتكررة حول توجسه العميق من المؤسسة الزوجية، التي تفسد من وجهة نظره الجانب الجمالي من الحب. ورغم تثبت مي من مشاعر رافع إزاءها، بخاصة بعد أن فشل في إخفاء غيرته عليها وهم بضرب أحد المتحرشين بها من زملائه الفنانين، فقد شعرت مع ذلك بأنها لا تملك خياراً سوى الرحيل، خصوصاً بعد أن باغتها رافع بقوله «أنا لا أعرف ما أريد. أنا لم أتعلق بامرأة قدر تعلقي بك. لكنني أفضل الانتحار على الارتباط». وحيث لم تجد بداً من وضعه إثر ذلك بين خياري الزواج والفراق، باعتبار أن محيطها الاجتماعي المحافظ لن يسمح لها على الإطلاق بإقامة علاقة حرة ومفتوحة مع أي كان، آثر الفنان الخائف من وطأة القيود الانحياز إلى الخيار الثاني، متجرعاً مرارة التضحية بالمرأة التي ملكت عليه قلبه، لإنقاذ إبداعه من الضمور والجفاف، كما بدت له الأمور في تلك المرحلة.
ومع أن لقاء العاشقين في إحدى المناسبات الثقافية بيروت، لم يفلح في ردم الهوة بينهما بالكامل، خصوصاً أن الناصري كان يصطحب بزهو إحدى الفنانات اللبنانيات الجميلات، فقد أمكن للقاءاتهما اللاحقة في بغداد أن تعيد وصل ما انقطع بينهما، لتبلغ العلاقة خواتيمها السعيدة عام 1973، ولأن لرباطهما الزوجي، بوصفهما فنانين مبدعين، بصمته الخاصة والبعيدة عن المألوف فقد توافق الطرفان على أن لا يزيد مهر العروس عن دينار واحد، كما على قضاء ليلة الزفاف في مرسم الزوج الذي تعمه الفوضى، بانتظار أن يفرغا من تأهيل «الكوخ» الصغير الواقع عند طرف المنزل العائلي.
في البيوغرافيا المسهبة التي تقدمها لنفسها، قبل استكمال سيرتها اللاحقة مع رافع، تطلعنا مظفر على جوانب مهمة من طفولتها ونشأتها وظروفها العائلية، بالتوازي مع واقع العراق السياسي والاجتماعي والثقافي في العهد الملكي، وما تبع ذلك من انقلابات دموية متلاحقة حولت بلاد الرافدين إلى ساحة للقلق والصراع الآيديولوجي والعنف الدموي. ومع ذلك فقد أتاحت لها بيئتها العائلية المتنورة، فضلاً عن تفوقها الدراسي في اللغة الإنجليزية، أن تطل من الباب الواسع على المشهد الثقافي الحداثي في العراق والعالم العربي، حيث تعرفت إلى بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل وأحمد رامي ومحمد مندور ونزار قباني وأدونيس ونجيب المانع، وكثر غيرهم. كما وفر لها عملها في شركة إعادة التأمين العراقية، الفرصة الملائمة للتعويض عما خسرته في فترات الضياع وانعدام الوزن. وهي إذ تعبر عن تلك المرحلة بالقول «كان الوقت يهرب مني، وقد أعطيت لغيري أضعاف أضعاف ما أعطيته لنفسي»، تعاود بكل طاقتها الانصراف إلى الكتابة، موزعة نفسها بين الشعر والقصة والترجمة والنقد التشكيلي.
إلا أن اللافت في هذا السياق، هو أن مظفر تكف في الفصول اللاحقة عن إطلاعنا على مجريات العلاقة بعد الزواج، بحيث لم نعد نعثر على التفاصيل اليومية الصغيرة لتلك العلاقة وما كان يتخللها من مكابدات ومشقات، خصوصاً وقد سبق للكاتبة أن أشارت إلى أن الناصري لم يكن من النوع الطيع الذي يسهل تدجينه. لم يعد ثمة حديث عن أنا الزوج ونرجسيته المتفاقمة، أو عما يشي بغيرته المفرطة، أو عن تضارب الأمزجة بين الطرفين. فهل كان الأمر عائداً إلى تبدل في سلوك الفنان أوجبه نزوع مستجد إلى الاستكانة والتكيف مع موجبات الواقع الجديد؟ أم بسبب المكابدات الأكثر هولاً التي عاشها العراقيون تحت القبضة الشرسة لسلطة الاستبداد، والتي نقلت الخلافات العائلية والشخصية إلى مرتبة هامشية؟ أم أن الرحيل المأساوي للزوج لم يترك للمرأة المكلومة سوى أن تسند لغتها إلى النوستالجيا المجردة، غير آبهة بهنات علاقتهما الهينات؟
وأياً يكن السبب الحقيقي لهذه الانعطافة الواضحة في مقاربة الأمور، فإن سياق السيرة يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما أسهم في توطيد العلاقة بين الزوجين، هو إصرارهما المشترك على عدم تحويل «المؤسسة» إلى مساحة ضيقة لتوليد الرتابة والضجر، بل إلى متحد عاطفي وإنساني لمواجهة الصعوبات والمخاطر، إضافة إلى حرص كل منهما على أن يوفر للآخر الظروف الملائمة لاستكمال مشروعه الإبداعي، دون أي شعور بالحسد أو الغيرة، كما حدث للعديد من الثنائيات «المتصارعة». كما أن إصرار الطرفين على التلازم شبه الدائم في الرحلات التي قادتهما إلى مختلف الأقطار، قد وفر للعلاقة فرصة ملائمة للنمو، ومسرحاً للتجدد تُلامس حدوده مساحة الكوكب الأرضي. وهو ما يؤكده توثيق صاحبة «من تلك الأرض النائية» لمعظم هذه الرحلات، وما تخللها من وقائع وأحداث ولقاءات متنوعة مع الكثير من الكتاب والمبدعين.
ورغم تركيز الكاتبة المسهب على جماليات السفر ودوره في توسيع أفق الزوجين المعرفي، فإن ذلك لم يمنعها من التركيز على تعلقهما المفرط بتراب البلد الأم، حتى لو دفعا معاً الكلفة الباهظة لممارسات النظام الاستبدادي الدموي. وهو ما يفسر إصرار رافع، في فترة الثمانينات التي مُنع خلالها من السفر، على بناء منزل جميل في إحدى ضواحي بغداد، مسوراً إياه بالكثير من الأشجار والورود التي يحبها. على أن القرار الذي اتخذه صدام بغزو الكويت عام 1990، أطاح بفترة التنعم القصيرة التي عاشها الزوجان في كنف ذلك المنزل الرومانسي، مسبباً لهما سلسلة من المشقات التي بدأ جسم الزوج المنهك من الترحال يترنح تحت وطأتها. ومع أن الناصري الذي كان مدعواً مع مي إلى موسم أصيلة الثقافي، تلقى من صديقه الأثير محمد بن عيسى عرضاً صادقاً للإقامة في المغرب، إلا أنه أصر على العودة إلى العراق متنكباً، لدى اندلاع حرب الخليج الثانية، مشقة الانتقال من منزل إلى منزل تجنباً للقصف الشديد الذي كان ينهال على عاصمة الرشيد من كل حدب وصوب.
وحيث أعيت الحيلة الزوجين، وتحولت الحياة في العراق بفعل الحصار الخانق إلى كابوس حقيقي، لم يجد الزوجان بداً من المغادرة إلى الأردن ليقضيا في كنفه سنوات سبعاً، زاول رافع أثناءها التدريس في جامعة اليرموك، كما أسهم بحيوية فائقة في المناخ الثقافي المزدهر، الذي شكلت دارة الفنون في عمان واسطة عقده الأهم في حقبة التسعينات. وحين انتهى عقده الوظيفي مع جامعة اليرموك، انتقل الزوجان إلى البحرين، إثر عرض مماثل تلقاه الناصري للتدريس في جامعتها. وهو ما أتاح لمي أن تنجز، بفعل الشعور بالسكينة والأمان المعيشي، العديد من الأعمال الأدبية والشعرية، بينها مجموعتها الرابعة «محنة الفيروز» وعملها القصصي «بريد الشرق»، فيما أمكن لرافع أن يقرأ المتنبي قراءة معمقة، وينجز أعمالاً فنية ذات منحى صوفي، أقام لها في تلك الفترة معرضاً متميزاً بعنوان «تحية للمتنبي».
مع انتهاء عقد العمل في البحرين عام 2003، كان على الزوجين أن يقيما مرة أخرى في عمان، بعد أن تعذرت عودتهما إلى بغداد، بفعل الغزو الأميركي للعراق والفوضى العارمة التي أعقبته. أما الجانب الأكثر إيلاماً من تلك الفوضى، فقد تمثل بالنسبة للزوجين في سرقة الكثير من مقتنيات منزلهما البغدادي وتُحفه الثمينة، ومن ثم مقتل الرجل الموكل بحراسته، الأمر الذي اضطرهما إلى بيع ذلك المنزل ذي التصميم الهندسي الجميل، الذي عولا معاً على تزجية كهولتهما المرتقبة، بين زواياه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان على رافع، الذي عدته إيتيل عدنان أفضل فنان عربي تجريدي، أن يخوض في عام 2009 حربه الأكثر شراسة مع السرطان. ورغم ما ألحقه به المرض من تصدعات، فقد استمر دون هوادة في إنتاج المزيد من اللوحات والأعمال الفنية، متخذاً من صرخة محمود درويش المؤثرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» حرزه ورقْيته المضادة لليأس. إلا أن الموت الذي ربح معركته الحاسمة مع جسد رافع عام 2013، لم يتمكن من أن يربح حربه على روحه وموهبته ونتاجه الإبداعي.
ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة، هو ما حرصت مي مظفر على أن تختتم به سيرتها الشخصية مع رفيق دربها الأثير، حيث كتبت: «قبل أسبوع من رحيله، رأيت أننا معاً في جبال لبنان فطلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلاً لأنه يريد تصوير المنطقة. حذرته من أن ساقيه لا تحتملان تسلق الجبل فلم يرد. ترجل من السيارة مع الكاميرا، وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع، ثم طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي. بقيت أتابعه حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد له أثراً. بقيت أنادي وأنادي، فلا أسمع سوى صوتي يتبدد في الفضاء».



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.