رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

حذّرها من تشبثه المرَضي بالحرية قبل أن يرفع راية استسلامه

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
TT

رافع الناصري ومي مظفر... مغامرة حافلة بالتناغم الإبداعي يقصمها الموت في أوجها

مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري
مي مظفر وخلفها صورة رافع الناصري

«من أجل أن أملأ الفراغ المهيب الذي تركه غيابك. من أجل أن أكون معك وبرفقتك، سأشرع بتدوين مسيرة حياتنا على مدى أربعين عاماً. حدثتك ذات يوم، كنتَ قد استعدتَ فيه بعض عافيتك، عن نيتي تأليف كتاب كهذا، فانفرج وجهك السمح، وقلت بصوت خافت: يا ريت».
بهذه العبارات المؤثرة تستهل الشاعرة والكاتبة والمترجمة العراقية مي مظفر، وقائع حياتها المشتركة مع الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري، التي أصدرتها بعد رحيل الزوج في كتاب متميز بعنوان «أنا ورافع الناصري: سيرة الماء والنار». على أنني أود أن أستبق الدخول إلى تفاصيل السيرة ومناخاتها بالإشارة إلى أن شروع مظفر بإنجاز هذا العمل، لا يهدف إلى انتشال الفنان المبدع الذي اقترنت به، من عهدة النسيان، لأن أمراً كهذا لا بد أن تتكفل به أعماله وإبداعاته قبل أي شيء آخر، بل إلى منع الوقائع والتفاصيل الصغيرة التي ربطت حياتيهما برباط الحب والصداقة والألفة، من الاضمحلال. فإذا لم تكن الزوجة الكاتبة قادرة على ردع الموت كحدث بيولوجي، فباستطاعتها عبر الكلمات أن توقف مفاعيله الأكثر مأساوية، وتنقذ تفاصيل حياتها مع الرجل الذي أحبته من الغرق. وهو الأمر نفسه الذي فعلته آنا غريغوريغنا بعد رحيل دوستويفسكي، وفيرا بوليكافا بعد رحيل ناظم حكمت، وصوفيا تولستايا بعد رحيل تولستوي، وغيرهن كثيرات. والأرجح أن ترجمة مظفر للسيرة الذاتية التي كتبتها فرنسواز جيلو تحت عنوان «حياتي مع بيكاسو»، قد حرضتها بشكل أو بآخر على القيام بالخطوة نفسها، بمعزل عن التباينات العديدة التي تفصل بين الثنائيين.
أما الأمر الآخر الذي يصعب القفز من فوقه، فهو يتعلق بعنوان الكتاب الذي يتخطى الصدفة المجردة، ليصبح الجمع بين الماء والنار نوعاً من المؤالفة المستحيلة بين عنصرين متضادين، يفضي كل منهما إلى محو وجود الآخر. ومع أن الكاتبة لا تشير إلى النار بوصفها المعادل الرمزي للفنان الشاب ذي التكوين العصبي والمزاج الفوار، أو إلى نفسها بوصفها المرأة المتفهمة التي تقع وقوع الماء على طبيعته النارية، فإن لنا كقراء أن نستخلص ذلك من سياق السيرة، رغم أنه لا شيء يمنع الطرفين من تبادل الأدوار، وفقاً لمسار العلاقة وتبدل الظروف.
ولا بد من التنويه في الوقت ذاته بأن كلا الكاتبة والفنان لم يقعا في الحب من النظرة الأولى، بل احتاجت علاقتهما إلى العديد من اللقاءات الصعبة والمتباعدة، وتعرضت للكثير من «الكر والفر» قبل أن تصل إلى برها النهائي. وحيث لا تتوانى مظفر عن القول في بداية السيرة «لم يكن رافع نموذجاً أطمح له أو أتمناه»، فإن الأمر لا يعود إلى عدم إعجابها بالفنان الوسيم الذي كانه رافع في مطالع صباه، بل لما تناهى إلى مسامعها عن تعدد علاقاته مع النساء، وبالتالي عدم استقراره العاطفي. وحين وصف نفسه في أحد لقاءاتهما المتباعدة بالعاشق الفاشل، لم تتردد في القول له «ما تقوله مخالف لما سمعته عنك، إذ يقال بأنك عاشق لا يُشق له غبار».
على أن سوء التفاهم الذي نشأ بين الطرفين، ما لبث أن ارتفع منسوبه مع تصريحات رافع المتكررة حول توجسه العميق من المؤسسة الزوجية، التي تفسد من وجهة نظره الجانب الجمالي من الحب. ورغم تثبت مي من مشاعر رافع إزاءها، بخاصة بعد أن فشل في إخفاء غيرته عليها وهم بضرب أحد المتحرشين بها من زملائه الفنانين، فقد شعرت مع ذلك بأنها لا تملك خياراً سوى الرحيل، خصوصاً بعد أن باغتها رافع بقوله «أنا لا أعرف ما أريد. أنا لم أتعلق بامرأة قدر تعلقي بك. لكنني أفضل الانتحار على الارتباط». وحيث لم تجد بداً من وضعه إثر ذلك بين خياري الزواج والفراق، باعتبار أن محيطها الاجتماعي المحافظ لن يسمح لها على الإطلاق بإقامة علاقة حرة ومفتوحة مع أي كان، آثر الفنان الخائف من وطأة القيود الانحياز إلى الخيار الثاني، متجرعاً مرارة التضحية بالمرأة التي ملكت عليه قلبه، لإنقاذ إبداعه من الضمور والجفاف، كما بدت له الأمور في تلك المرحلة.
ومع أن لقاء العاشقين في إحدى المناسبات الثقافية بيروت، لم يفلح في ردم الهوة بينهما بالكامل، خصوصاً أن الناصري كان يصطحب بزهو إحدى الفنانات اللبنانيات الجميلات، فقد أمكن للقاءاتهما اللاحقة في بغداد أن تعيد وصل ما انقطع بينهما، لتبلغ العلاقة خواتيمها السعيدة عام 1973، ولأن لرباطهما الزوجي، بوصفهما فنانين مبدعين، بصمته الخاصة والبعيدة عن المألوف فقد توافق الطرفان على أن لا يزيد مهر العروس عن دينار واحد، كما على قضاء ليلة الزفاف في مرسم الزوج الذي تعمه الفوضى، بانتظار أن يفرغا من تأهيل «الكوخ» الصغير الواقع عند طرف المنزل العائلي.
في البيوغرافيا المسهبة التي تقدمها لنفسها، قبل استكمال سيرتها اللاحقة مع رافع، تطلعنا مظفر على جوانب مهمة من طفولتها ونشأتها وظروفها العائلية، بالتوازي مع واقع العراق السياسي والاجتماعي والثقافي في العهد الملكي، وما تبع ذلك من انقلابات دموية متلاحقة حولت بلاد الرافدين إلى ساحة للقلق والصراع الآيديولوجي والعنف الدموي. ومع ذلك فقد أتاحت لها بيئتها العائلية المتنورة، فضلاً عن تفوقها الدراسي في اللغة الإنجليزية، أن تطل من الباب الواسع على المشهد الثقافي الحداثي في العراق والعالم العربي، حيث تعرفت إلى بدر شاكر السياب ومحمود حسن إسماعيل وأحمد رامي ومحمد مندور ونزار قباني وأدونيس ونجيب المانع، وكثر غيرهم. كما وفر لها عملها في شركة إعادة التأمين العراقية، الفرصة الملائمة للتعويض عما خسرته في فترات الضياع وانعدام الوزن. وهي إذ تعبر عن تلك المرحلة بالقول «كان الوقت يهرب مني، وقد أعطيت لغيري أضعاف أضعاف ما أعطيته لنفسي»، تعاود بكل طاقتها الانصراف إلى الكتابة، موزعة نفسها بين الشعر والقصة والترجمة والنقد التشكيلي.
إلا أن اللافت في هذا السياق، هو أن مظفر تكف في الفصول اللاحقة عن إطلاعنا على مجريات العلاقة بعد الزواج، بحيث لم نعد نعثر على التفاصيل اليومية الصغيرة لتلك العلاقة وما كان يتخللها من مكابدات ومشقات، خصوصاً وقد سبق للكاتبة أن أشارت إلى أن الناصري لم يكن من النوع الطيع الذي يسهل تدجينه. لم يعد ثمة حديث عن أنا الزوج ونرجسيته المتفاقمة، أو عما يشي بغيرته المفرطة، أو عن تضارب الأمزجة بين الطرفين. فهل كان الأمر عائداً إلى تبدل في سلوك الفنان أوجبه نزوع مستجد إلى الاستكانة والتكيف مع موجبات الواقع الجديد؟ أم بسبب المكابدات الأكثر هولاً التي عاشها العراقيون تحت القبضة الشرسة لسلطة الاستبداد، والتي نقلت الخلافات العائلية والشخصية إلى مرتبة هامشية؟ أم أن الرحيل المأساوي للزوج لم يترك للمرأة المكلومة سوى أن تسند لغتها إلى النوستالجيا المجردة، غير آبهة بهنات علاقتهما الهينات؟
وأياً يكن السبب الحقيقي لهذه الانعطافة الواضحة في مقاربة الأمور، فإن سياق السيرة يدفعني إلى الاعتقاد بأن ما أسهم في توطيد العلاقة بين الزوجين، هو إصرارهما المشترك على عدم تحويل «المؤسسة» إلى مساحة ضيقة لتوليد الرتابة والضجر، بل إلى متحد عاطفي وإنساني لمواجهة الصعوبات والمخاطر، إضافة إلى حرص كل منهما على أن يوفر للآخر الظروف الملائمة لاستكمال مشروعه الإبداعي، دون أي شعور بالحسد أو الغيرة، كما حدث للعديد من الثنائيات «المتصارعة». كما أن إصرار الطرفين على التلازم شبه الدائم في الرحلات التي قادتهما إلى مختلف الأقطار، قد وفر للعلاقة فرصة ملائمة للنمو، ومسرحاً للتجدد تُلامس حدوده مساحة الكوكب الأرضي. وهو ما يؤكده توثيق صاحبة «من تلك الأرض النائية» لمعظم هذه الرحلات، وما تخللها من وقائع وأحداث ولقاءات متنوعة مع الكثير من الكتاب والمبدعين.
ورغم تركيز الكاتبة المسهب على جماليات السفر ودوره في توسيع أفق الزوجين المعرفي، فإن ذلك لم يمنعها من التركيز على تعلقهما المفرط بتراب البلد الأم، حتى لو دفعا معاً الكلفة الباهظة لممارسات النظام الاستبدادي الدموي. وهو ما يفسر إصرار رافع، في فترة الثمانينات التي مُنع خلالها من السفر، على بناء منزل جميل في إحدى ضواحي بغداد، مسوراً إياه بالكثير من الأشجار والورود التي يحبها. على أن القرار الذي اتخذه صدام بغزو الكويت عام 1990، أطاح بفترة التنعم القصيرة التي عاشها الزوجان في كنف ذلك المنزل الرومانسي، مسبباً لهما سلسلة من المشقات التي بدأ جسم الزوج المنهك من الترحال يترنح تحت وطأتها. ومع أن الناصري الذي كان مدعواً مع مي إلى موسم أصيلة الثقافي، تلقى من صديقه الأثير محمد بن عيسى عرضاً صادقاً للإقامة في المغرب، إلا أنه أصر على العودة إلى العراق متنكباً، لدى اندلاع حرب الخليج الثانية، مشقة الانتقال من منزل إلى منزل تجنباً للقصف الشديد الذي كان ينهال على عاصمة الرشيد من كل حدب وصوب.
وحيث أعيت الحيلة الزوجين، وتحولت الحياة في العراق بفعل الحصار الخانق إلى كابوس حقيقي، لم يجد الزوجان بداً من المغادرة إلى الأردن ليقضيا في كنفه سنوات سبعاً، زاول رافع أثناءها التدريس في جامعة اليرموك، كما أسهم بحيوية فائقة في المناخ الثقافي المزدهر، الذي شكلت دارة الفنون في عمان واسطة عقده الأهم في حقبة التسعينات. وحين انتهى عقده الوظيفي مع جامعة اليرموك، انتقل الزوجان إلى البحرين، إثر عرض مماثل تلقاه الناصري للتدريس في جامعتها. وهو ما أتاح لمي أن تنجز، بفعل الشعور بالسكينة والأمان المعيشي، العديد من الأعمال الأدبية والشعرية، بينها مجموعتها الرابعة «محنة الفيروز» وعملها القصصي «بريد الشرق»، فيما أمكن لرافع أن يقرأ المتنبي قراءة معمقة، وينجز أعمالاً فنية ذات منحى صوفي، أقام لها في تلك الفترة معرضاً متميزاً بعنوان «تحية للمتنبي».
مع انتهاء عقد العمل في البحرين عام 2003، كان على الزوجين أن يقيما مرة أخرى في عمان، بعد أن تعذرت عودتهما إلى بغداد، بفعل الغزو الأميركي للعراق والفوضى العارمة التي أعقبته. أما الجانب الأكثر إيلاماً من تلك الفوضى، فقد تمثل بالنسبة للزوجين في سرقة الكثير من مقتنيات منزلهما البغدادي وتُحفه الثمينة، ومن ثم مقتل الرجل الموكل بحراسته، الأمر الذي اضطرهما إلى بيع ذلك المنزل ذي التصميم الهندسي الجميل، الذي عولا معاً على تزجية كهولتهما المرتقبة، بين زواياه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى كان على رافع، الذي عدته إيتيل عدنان أفضل فنان عربي تجريدي، أن يخوض في عام 2009 حربه الأكثر شراسة مع السرطان. ورغم ما ألحقه به المرض من تصدعات، فقد استمر دون هوادة في إنتاج المزيد من اللوحات والأعمال الفنية، متخذاً من صرخة محمود درويش المؤثرة «هزمتك يا موت الفنون جميعها» حرزه ورقْيته المضادة لليأس. إلا أن الموت الذي ربح معركته الحاسمة مع جسد رافع عام 2013، لم يتمكن من أن يربح حربه على روحه وموهبته ونتاجه الإبداعي.
ولعل أفضل ما أختتم به هذه المقالة، هو ما حرصت مي مظفر على أن تختتم به سيرتها الشخصية مع رفيق دربها الأثير، حيث كتبت: «قبل أسبوع من رحيله، رأيت أننا معاً في جبال لبنان فطلب من سائق السيارة أن يتوقف قليلاً لأنه يريد تصوير المنطقة. حذرته من أن ساقيه لا تحتملان تسلق الجبل فلم يرد. ترجل من السيارة مع الكاميرا، وعيناه سارحتان تتفحصان الموقع، ثم طلب مني أن أنتظره ريثما ينتهي. بقيت أتابعه حتى توارى في عمق الغابة. قلقت وذهبت للبحث عنه فلم أجد له أثراً. بقيت أنادي وأنادي، فلا أسمع سوى صوتي يتبدد في الفضاء».



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.