«برمجة الحياة»... هل تهدف إلى بناء عالم أفضل؟

التلاعب الجيني يحقق نجاحات صحية وبيئية وله تهديدات حقيقية

«برمجة الحياة»... هل تهدف إلى بناء عالم أفضل؟
TT

«برمجة الحياة»... هل تهدف إلى بناء عالم أفضل؟

«برمجة الحياة»... هل تهدف إلى بناء عالم أفضل؟

يعتقد عالم الأحياء الدقيقة أندرو هيسيل، أن البشر يمكنهم – ويجب عليهم – أن يعيدوا «إعادة كتابة» الحياة بهدف بناء عالم أفضل.
اكتسب العلماء في مجال علم الأحياء التركيبي synthetic biology الذي لا يزال في بداياته، القدرة على إعداد وبرمجة الرموز الجينية، متلاعبين بذلك بلبنات الحياة الأساسية؛ في محاولات منهم لحل مشاكل كبيرة كالعقم والتغير المناخي. ولكن البعض يحذر من أن القدرة على برمجة الحياة نفسها يمكن أن تقود إلى نهايات وخيمة.

مستقبل إيجابي
إلا أن عالم الأحياء الدقيقة والجينات ورائد الأعمال أندرو هيسيل يؤمن بشدة بالنسخة الأكثر إيجابية من المستقبل. فقد أمضى الأخير حياته المهنية باستكشاف إمكانات علم الأحياء التركيبي، وشارك في تأسيس شركة «هيومن جينوميكس» المتخصصة في التقنيات البيولوجية وصناعة فيروسات «مصممة» لمحاربة السرطان، بالإضافة إلى مشروع الشراكة العالمي «جينوم بروجكت - رايت» الذي يهدف إلى تسهيل فحص وصناعة الجينومات الكبيرة. يستعرض هيسيل في ورقته البحثية «ذا جينسيس ماشين» The Genesis Machine التي شاركته في إعدادها عالمة المستقبل آيمي ويب، الوعود والمخاطر التي يخفيها هذا المجال.
> ساهم اهتمامكم المبكر بالبرمجة في إغناء حبكم لعلم الأحياء التركيبي. كيف يتقاطع هذان المجالان؟
- تقوم أجهزة الكومبيوتر بما تطلبونه منها – وإذا كانت فكرتكم تنطوي على خطأ ما، ينفذ الكومبيوتر هذا الخطأ. ولكن البرمجة تعلمنا كيف نفكر بشكلٍ دقيق.
يشبه علم الأحياء الخلوي هذه الفكرة من نواحٍ عدة، ولكن الفرق يكمن في قدرة علم الأحياء على التجميع الذاتي. فبدلاً من برمجة أداة معينة بعد صناعتها، يعد علم الأحياء، البرامج. ومن ثم يبني الأداة. تعدّ لغة الأحياء البرمجية، أي الحمض النووي، لغة كونية، أي أن جميع الكائنات الحية تعمل ببرنامج واحد لم يتغير منذ أربعة مليارات سنة تقريباً... وهذا الأمر لا يزال يذهلنا حتى اليوم.
> صنع هذا البرنامج وحده الملايين من الأنواع الحية المختلفة. ماذا يسعنا أن نضيف على هذا الإنجاز؟
- عندما نبدأ في البحث على مستوى برنامج الحمض النووي في خلية ما، لا توجد حدود للأنواع الحية. يمكننا أن نمزج ونجمع هذا البرنامج من كائنات حية متنوعة لنحصل على فرصة استكشاف فضاء لا تستطيع الطبيعة استكشافه. تقف الطبيعة عاجزة هنا لأن شجرة الحياة باتت تضم فروعاً منفصلة ابتعدت عن بعضها كثيراً لدرجة أنها باتت عاجزة عن التقاطع مرة أخرى. ولكن في حالة علم الأحياء التركيبي والبرمجة الجينية، لا توجد حدود، وهذا الأمر يذهلني – ويخيف الكثيرين.
خوف وغضب
> اصطدمت تجارب عدة في علم الأحياء التركيبي بالكثير من الخوف والغضب. ما السبب وراء ذلك؟
- الروبوتات والكومبيوترات والتواصل الاجتماعي – أشياء نحن صنعناها، أي أننا نعلم من ابتكرها وكيف خطرت له فكرتها. ولكن الحياة ليست تقنية قد اخترعناها، ولطالما كانت من الأمور التي تفوق قدراتنا. وقد أصبحنا قادرين حرفياً اليوم على صناعة كائنات حية حرة من الصفر؛ ما قد يثير حنق البعض. ويجب أن أعترف أنني كنتُ سأواجه صعوبة في تقبل هذا الأمر لو أنني من الأشخاص المتدينين. ولكن هذه التقنية أصبحت واقعاً ولن تزول، فضلاً عن أنها أقوى تقنية حصلنا عليها حتى اليوم، ولا يمكننا بالتالي حظرها أو تجاهلها، بل لا بد من التعامل معها.
> عانيت وزوجتك من مشاكل في الإنجاب. كيف يمكن لعلم الأحياء التركيبي أن يغير مقاربتنا لتحديات الخصوبة؟
- عندما التقيتُ زوجتي، فإنها أشعلت شيئاً بيولوجياً في داخلي لم أشعر به من قبل؛ إذ أصبحت أرغب فجأة في إنجاب الأطفال. ولكنني في مرحلة الشباب، خضعت لجراحة استئصال القناة المنوية، وعندما انعكس تأثير هذه الجراحة، كان الوقتُ قد فات على الإنجاب بطريقة طبيعية. زرتُ عيادة للتلقيح المخبري كطفل يزور متجر الحلوى – ولأنني عالم أحياء، أحببتُ المعدات والإجراءات. أشعر أن ابني «قطعة فنية»، لا سيما أن جميع الأجنة التي خُصبت خضعت لاختبار جيني مسبق، وبقي وحده صامداً حتى النهاية. في وقتٍ قريب، سيصبح هذا النوع من الاختبارات متوفراً على نطاق واسع مع منح الآباء والأمهات لوائح خيارات ليتمكنوا من اختيار الجنين الأقل خطراً من هذه الناحية أو تلك. أما بالنسبة للأشخاص غير القادرين على الإنجاب على الإطلاق، فسيحل علم الأحياء التركيبي معظم مشاكلهم.
هندسة الفيروسات
> برأيكم، ما هو التهديد الأكبر الناتج من علم الأحياء التركيبي؟
- هندسة الفيروسات؛ لأنني أعتقد أن الفيروسات هي عامة التهديد البيولوجي الأكبر لجنسنا. شكل فيروس «كوفيد» دليلاً واضحاً وخطيراً على أن فيروساً واحداً يستطيع أن يشل الحياة البشرية، ولكن الطبيعة قادرة على تصميم نوعٍ محدد من الفيروسات؛ لأن الأمر يسير عكس المبادئ التطورية، ولا يوجد شيء في الطبيعة قادر على القتل والتسبب بالعدوى الشديدة في وقت واحد. ولكن بمساعدة علم الأحياء التركيبي وحساب مصرفي كبير بعض الشيء، يمكنك تصميم وبناء جسيمات معدية وقاتلة في الوقت نفسه؛ ما يعني أن البشر هم التهديد الوجودي الأكبر.
> كيف يمكننا تخفيف هذا التهديد؟
- يجب علينا حقاً التوقف عن أبحاث التعديل الجيني التي تعزز الوظائف البيولوجية للفيروسات. كما يجب إضافة توقيع أو «رمز شريطي» إلى جينوم أي فيروس مُهندسٍ جينياً.
لنقل مثلاً إنني اليوم صنعتُ فيروساً يستطيع معالجة السرطان بالكامل، وبعد عشر سنوات، مرض أحدهم واكتشف أن مصدر مرضه هو الفيروس الذي صنعته أنا. في هذه الحالة، يتيح الرمز الشريطي تعقب الفيروس للكشف عن سجله الذي يحتوي على معلومات عن تصميمه وهندسته والأشخاص المشاركين في صناعته. يجب أن يكون هذا البحث مفتوحاً للجميع وشفافاً، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تخفيف المخاطر على البشرية.
> ما التغيرات الأخرى التي تراها في مستقبلنا؟
- علينا أن نقرّ بأننا أصبحنا فصيلة تقنية مرتبطة بالطبيعة. وإذا أردنا حقاً ألا نمس الطبيعة أو نفسدها، يجب أن يكون الانفصال عنها قليلاً هدفاً لنا على المدى الطويل.
بنظري، أن الطريقة المثلى للقيام بهذا الأمر هي البدء بنقل كل شيء إلى باطن الأرض على عمقٍ لا يقل عن تسعة أمتار، كما أفعل أنا حالياً. زرتُ أخيراً صومعة للصواريخ تحت الأرض في مدينة نيويورك، ولا بد من القول إنها أكثر مكان آمن وهادئ زرتُه يوماً، حتى أنني حلمتُ بأن يكون منزلي التالي هناك، ويجب أن نمنح المزيد من الناس فرصة عيش هذه التجربة. يمكننا أن ننعم بالأمن والاستدامة والتقنية دون التضحية بكوكبنا... إذا انتقلنا إلى باطن الأرض، سنخرج من الطبيعة، وستُشفى.
* «سايكولوجي توداي»
- خدمات «تريبيون ميديا»



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً