كتّاب على خط الجبهة في حرب الكلمات

كثير منهم حملوا السلاح ضد الغزو الروسي لأوكرانيا

كتّاب على خط الجبهة في حرب الكلمات
TT

كتّاب على خط الجبهة في حرب الكلمات

كتّاب على خط الجبهة في حرب الكلمات

فيما يستمر الهجوم الروسي على أوكرانيا في تدمير المدينة تلو الأخرى، فإن الألم والغضب اللذين يعيشهما الأوكرانيون يتركان أثرهما على جمهور هائل في أنحاء العالم. جزء من ذلك يعود إلى مجموعة من الأبطال الذين آثروا التواري: كتاب وشعراء ومترجمون.
كثير من هؤلاء الأفراد حملوا السلاح في الصراع الفعلي، إلى جانب حرب الكلمات. الروح المحاربة لدى أهل الأدب في أوكرانيا - ومنهم من شهد وقام بدور فعلي في الصراع الروسي - الأوكراني عام 2014 - كانت مثاراً للإعجاب. آرتيم تشاباي، وهو كاتب ومراسل حاصل على الجوائز، أرسل صوراً لنفسه في ملابس المعركة من كييف. سرهيز زادان، أحد أوسع الشعراء والكتاب الأوكرانيين شهرة، يكتب تغريدات على «تويتر» حول عمله التطوعي في جمع المؤن وسط الدمار بخاركيف.
وللمترجمين أيضاً دور في إيصال صوت هذه المقاومة الشرسة. في 26 فبراير (شباط) وضعت كيت تسوركان، التي كانت محررة ومؤسِّسة للمجلة الأدبية (أبوفيناي)، نداء على «تويتر» من مدينتها تشيرنفستي التي مزقتها الحرب تطلب من الناشرين الغربيين أن ينشروا أعمال الكتاب الأوكرانيين: «لن ندع صوت الحقيقة يصمت».
نداء تسوركان استجاب له كثير من المترجمين والناشرين، وهي الآن تنسق هذا المسعى بينما هي شاهدة على الحرب. كتبت في تغريدة مؤخراً: «إنها الليلة الثالثة على التوالي التي نصحو فيها هنا في تشيرنفتسي على صوت إنذار الهجمات الجوية ما بين الثانية والخامسة صباحاً. حمانا الله».
في أوائل مارس (آذار) حولت إرينا باتورييفتش، التي شاركت في تأسيس مجلة أوكرانية للمختصين بالنشر، مع فريق عملها، مجلتهم الرقمية إلى موقع باللغة الإنجليزية يبعث بما يكتبه الكتاب الأوكرانيون. وفي قلب هذا المشروع يقع المترجمون المحليون وهم يعملون بسرعة لجعل هذه النصوص متوفرة، غير أن الموقع يتضمن أيضاً قائمة من الكتب الأوكرانية «ضرورية الترجمة» والموجهة للناشرين الأجانب ومديري حقوق النشر.
إن عملهم ليس مجرد مقاومة وإنما هو أيضاً مقابل أساسي لهجمة التشويه المعلوماتي الروسية. قال باتورييفيتش لـ«ببلشنغ بيرسبكتفز»: «سنحارب وترتفع أصواتنا حول هذه الحرب».
لقد بلغ جيلي من الكتاب من العمر ما يكفي ليتذكروا فترة الحرب الباردة، وهي فترة سابقة من الصراع من أجل الهيمنة الجيوبوليتيكية والأدبية. وكما كتب الباحثان إسماعيل حدادين - مقدم وغايلز سكوت سميث في عدد نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 من دورية «دراسات الترجمة والتفسير»: «كانت الترجمة... أحد (الأسلحة) الرئيسية التي استعملتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي للوصول إلى (الشعوب الأسيرة) خلف ستائر الحديد وستائر الخيزران والجماهير (المضطهدة) في الغرب، على التوالي».
موّلت «سي آي إيه» محاولات أدبية، غالباً بصورة غير مباشرة عبر منظمات مثل كونغرس الحرية الثقافية. ويعتقد ميلفن لاسكي، الذي حرر مجلة «إنكاونتر» في لندن، والصحيفة الألمانية «دير مونات»، التي كانت تمول جزئياً من قبل «سي آي إيه»، أن «دير مونات ستكون سلاحاً ضد الأفكار والاتجاهات السلطوية والتوتاليتارية». أما المثال الذي أفضله لمساعي «سي آي إيه» فيرويه دنكان وايت في كتاب «المحاربون الباردون» (2019)، الذي يبدأ بوصف لنسخ من رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوان» طبعت على ورق خفيف وأمطرت من بالونات تعمل بالهواء الحار في سماء بولندا.
كما أن هناك برامج كتاب فرانكلن التي بدأت عام 1952 والتي دعمت حضور الكتب الغربية عبر إندونيسيا وباكستان ونيجيريا بين أماكن أخرى. إلى جانب إقامة مكتبات لبيع الكتب بالتعاون مع شركاء محليين عملوا على مشاريع ترجمة ناجحة وطبعوا آلافاً من نسخ الكتب الأميركية متضمنة رواية «نساء صغيرات» للويزا مي ألكوت و«الإنسان والفضاء» لآرثر سي كلارك. وبمجرد كتابة هذه الكلمات تذكرت أن الترجمات البنغالية لإدغار ألن بو التي قرأت حين كنت طفلة في كلكتا كانت من طبعات فرنكلن.
لكن تلك المعركة «للتمكن من القلوب والعقول» ليست مما يمكن التنبؤ به دائماً. كبر جيلي من القراء في الهند وتغذوا على طعام من الأدب السوفياتي في وقت كانت فيه روسيا ترسل أطناناً من كتب الأطفال الملونة (كانت حرفياً ترسل سفناً تحمل الكتب مع بضاعتها) إلى جانب الموسوعات العلمية المثيرة لبلدنا الذي كان جائعاً آنذاك. كنا نقرأ حكايات عن سحرة مرعبين مثل بابا ياغا أو أشبال النمر الذين تربوا في جبال الألما آتا، فنطوي الشخصيات الروسية مع حكاياتنا الفولكلورية.
أتذكر أن بين تلك كانت حكايات أوكرانية موضحة بالخشب المحفور حول قطط شريرة، وثور صغير من القش ودجاج مشاكس، تركت كلها انطباعاً لا يمحى على ذهني عن أوكرانيا بوصفها مكاناً مرتبطاً بروسيا لكنه مختلف عنها. إنه تذكير شخصي حان وقته بأن القصص تحمل حقيقة الأشياء، إنها محصنة ضد تعتيمات الرجال الأقوياء.
بدأتُ اليوم في الهند بقراءة «رسائل من كييف»، اليوميات المؤثرة حول الحرب التي كتبتها الفنانة والكاتبة يفجينيف بيلوروسيتس، المتاحة أونلاين على «أرت فورُم». تقول: «كانت الحرب غير واقعية، لامعقولة؛ لم يكن ممكناً تخيلها. وحين تستيقظ وسط الحرب، فإنها تظل هي نفسها، عصية على التخيل». من يوميات يفجينيف مضيت إلى الأعمال المبكرة لكتاب أوكرانيين، مثل ماريا ماتيوس التي ترجم روايتها «داروسيا الحلوة» الصادرة عام 2019 مايكل نيدان وأولها تيتارينكو - إلى جانب قصائد لإليا كيمنسكي المولودة في أوديسا.
وفيما تزداد الاندفاعة لترجمة الأدب الأوكراني أرى الكتاب والمترجمين كما لو كانوا جيشاً خفياً في الحرب - وأرى التعبير الإبداعي لهؤلاء الناس يدافع عن حق أوكرانيا في الاستقلال بقوة مماثلة لأي من خطابات الرئيس فولوديمير زيلينسكي.

* النسخة الورقية من صحيفة «فايننشيال تايمز» (19 مارس 2022)



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.