زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

في كتابها «الشعر العربي المعاصر من منظور إيكولوجي»

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»
TT

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

زهيدة درويش جبور تبحث عن «الأدب البيئي»

ثمة فرق بين دراسة علاقة الشاعر بالطبيعة وهذا كلاسيكي، وما يسمى بـ«النقد الإيكولوجي». فالصنف الثاني يُعنى برصد صدى التحولات البيئية الناتجة عن النشاط البشري، في العمل الأدبي، ومدى قدرة الكاتب على إثارة وعي القارئ بالدور الذي تلعبه الطبيعة، باعتبارها الفضاء المحيط بالإنسان.
تعتمد الباحثة الدكتورة زهيدة درويش جبور على ما سبقها من «نقد إيكولوجي»، لتبحر في شعر اثني عشر شاعراً عربياً معاصراً، ناظرة في حساسياتهم الخاصة تجاه ما يحيط بهم، وكيفية تعاطيهم، مع الطبيعة، وانعكاسها في نتاجاتهم. وفي كتابها الجديد «الشعر العربي المعاصر من منظور إيكولوجي» الصادر عن «دار جروس برس ناشرون» في لبنان، تعود إلى أشعار أنور سلمان، نزيه أبو عفش، وديع سعادة، علي جعفر الصادق، شوقي بزيع، عبد العزيز المقالح، جودت فخر الدين، إبراهيم نصر الله، عيسى مخلوف، سيف الرحبي، أديب صعب، فوزي يمين.
وبعد أن تمر على الشعراء واحداً تلو الآخر، تصل الباحثة إلى ملامح مشتركة تجمع هؤلاء الشعراء، «أهمها الحدس بوحدة الكائنات والتوق لاستعادة التناغم المفقود». فالقصائد، على تنوع الجغرافيات العربية الآتية منها تعبر عن «قناعة بأن الإنسان، إنما هو جزء من هذا الكون، ووجه من وجوه لا حصر لها لتجليات تلك الطاقة الخفية الكامنة في النبات والحيوان، بل والجماد». وما يجمع هذه التجارب الشعرية أيضاً هو بعدها الروحاني والقيمي الذي «يتكامل مع ما تختزنه من سمات جمالية ترقى بها على سلم الإبداع الفني.

القرية بيت القصيد

القرية بنقائها وعذوبتها لا تزال كما الحال منذ ستينات القرن الماضي، هي الملجأ والملاذ. فعند شوقي بزيع في ديوانه «صراخ الأشجار»، تعود بك القصائد إلى «الحقل» و«السنبلة» و«ورق الشجر». إذ يقول: «كل قصائدي منقوعة بحليب ذاك العالم الصيفي. كل رؤاي أكمَلها، تطاير شعر سنبلة على أفق الحنين».
عند الراحل أنور سلمان نجد النزعة نفسها. فقد امتاز شعره بلغة غنائية تستبطن وعياً عميقاً بأهمية الطبيعة. وبقي الشاعر ملتزماً بالقيم الإنسانية، متسامياً، باحثاً عن الجمال: «بي حنين إلى تراب قريتي... إلى عهد بيادر القمح ومعاصر العنب والزيتون!... بي حنين إلى السواعد السمراء تضرب معاولها في صدر الأرض، فتملأها بالعافية». الشعراء اللبنانيون عموماً، تكاد قصائدهم تكون معجونة بعناصر الطبيعة المتنوعة، التي تلفهم في قراهم وجبلهم وبحرهم.
وديع سعادة في شعره، يرى في الطبيعة وسيلة ليملأ الفراغ الذي يعاني منه العالم، ولديه قناعة بأن الشعر هو لغة الأخوة الإنسانية التي تصنع الانسجام والتناغم، بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، في سعي للحفاظ على الكوكب. وكذلك فوزي يمين فخلاص الذات عنده يتحقق بـ«استعادة السلام المفقود بين الإنسان ومحيطه الطبيعي». يقول يمين: «أفتح باب القصيدة لتدخل الشمس، وأدعو أول شجرة أصادفها لتجلس معي على الطاولة، وتعزز جذورها عميقاً في البلاط. فيعود سطحي الورق وغرفتي الغابة». وهو إضافة إلى ذلك يخلط المرارة بالسخرية في العديد من قصائده، ومنها: «تنفّس، البس ثيابك، اشرب قهوتك، واخرج، تابع، تنفّس، عند كل صباح، اقلب الصفحة».

الاختلال بين الإنسان ومحيطه
تقول د. زهيدة درويش جبور إنها لا تتوقف فقط عند كيفية تعامل الشعراء المعاصرين مع الطبيعة، وإنما المهم «معرفة المساحة التي احتلتها في نتاجاتهم، كحضور حي يحاوره الشاعر ويدخل في علاقة تفاعل معه». وهذا يساعد على «جلاء موقف الأديب من قضايا وإشكاليات تتعلق بالبيئة، والتنبيه إلى الأضرار الناتجة عن اختلال العلاقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، وعن الانعكاسات السلبية للتطور التكنولوجي حين لا يواكبه تطور على مستوى القيم الإنسانية والروحية».
حين نصل إلى العراق مع الشاعر والناقد علي جعفر العلاّق، نجد أن مفرداته مستلة من وداي الرافدين كـ«النهر» و«الريح»، و«الخضرة»، و«المطر»، حيث «تلبس الريح حنين الشجرة، وتغطي خشب الأيام بالوهم». وهو لا يتوقف عن استيحاء بيئته الأولى ببساطتها وحنوها. فقد نشأ على الألفة مع الحيوان والنبات والتعاطف مع الفقراء وضعاف المخلوقات: «أعدنا حيث كنا: من رعاة الغنم والتحنان والبرد... يخالط نومنا خوف بدائي من الله، إن لم نبتسم للطير في الفلوات، أو تِهنا على أحدِ...».

التصدي للخراب
أما نزيه أبو عفش فالشعر عنده هو «توثيق بالصورة والصوت لنبض القلب الإنساني». أما الشعراء فوظيفتهم: «الانتباه للحياة». هذا الكلام على بساطته، عميق ينغرز في الروح، إذ يعتبر أبو عفش أن رسالة الشعر أن «يجعلنا تعساء بشكل أفضل». وربما أن قصائد هذا الشاعر هي من بين الأكثر مواءمة، لما يرمي إليه النقد الإيكولوجي، حين يرصد عند الأدباء صدى الكوارث التي يتسبب بها البشر لبعضهم بعضاً: «سيأتي برابرة آخرون، يأكلون النساء كعرانيس الذرة، ويشربون الدماء بالشلمون، ويطلقون القنابل النووية بالمقاليع وأقواس النشاب. سيأتي الماضي».
أبو عفش له للكون «نظرة المتصوفة من أهل الحلول»، أما الطبيعة، فهي «الترياق ضد السوداوية التي تجتاح الوعي حين يغرق في ظلمة العالم». يقول: «تداووا بجمالي قالت الخجولة - الوردة».
اختيارات بديعة، للدكتورة زهيدة درويش، بنت عليها دراستها، التي أرادتها عربية، ومتعددة. فمن عُمان، يرى سيف الرحبي أن الشاعر، يشبه «الناسك في حدائق الروح» وهو يقيم في الأقاصي حيث «العزلة تاج الحياة، -والسماء كوكب العري الأنقى». والرحبي وإن مال إلى استلهام الطبيعة العمانية بخضرتها وبحرها وصحرائها، إلا أنه كما أبو عفش مشغول بهذا الظلام الوجودي الذي يطبق على البشر: «ستة وعشرون مرّت، وأنت تذرع الأفق بقدم مكسورة، ورأس غارق في الجحيم. تمشي مغمض العينين، في طرقات مليئة بالذئاب».

المقالح و«الرسالة البيئية»
من اليمن عبد العزيز المقالح الذي جعل الحب كلمة سرّه، ومفتاح دواوينه. ولد وترعرع في المقالح، واحدة من أخصب قرى اليمن، وهي لم تفارقه أبداً. في ديوانه «كتاب القرية» خص المقالح، بسبع وسبعين لوحة شعرية «تشكّل سجلاً للحياة هناك وتصويراً لجغرافيا القرية الطبيعية والبشرية وتدويناً لعاداتها وطقوسها». لكن الأهم هو حضورها القوي في وجدان الشاعر «من سقف قريتنا يتدلى النهار، ومن ضوئها تصعد الشمس، مغسولة بالندى والتعاويذ، حاملة ماء فضتها من ينابيعنا». وتعتبر زهيدة درويش أن المقالح نجح في تضمين قصائده «رسالة بيئية» لا بل إن «كتاب القرية» يدخل في نطاق «الأدب البيئي». وتقصد بهذا المصطلح «الأدب الذي يسعى إلى دحض مقولة ثنائية الإنسان والطبيعة التي قامت عليها العقلانية الغربية» منذ أطلق ديكارت صرخته الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود». وأفضت إلى اعتبار الإنسان سيداً على الطبيعة.
كل الأماكن صالحة، لتجعلك باحثاً عن سحر الطبيعة حتى لو قضيت طفولتك في مخيم للاجئين كما إبراهيم نصر الله، أو عشت في مدينة كعمّان، فقصص الأمهات والجدّات كفيلة بنقل هذا الإرث. تقول د. درويش أن نصر الله «ابتدع في قصائده وطناً يعوضه عن الوطن الممنوع، وطناً أرضه وشمسه وبحره وسماؤه ومياهه وبيّاراته جغرافيا عاطفية، مرسومة بحبر الكلمات...» فالشهداء عنده «كلما شفّوا – تطايروا - تراباً إلى الفضاء». و«في التراب مذاق، البحار، الندى والغيوم... مذاق المدى والمطر. مذاق السهول، الجبال، السفوح: مذاق البشر».
بالعودة إلى الشعراء اللبنانيين الذين يستحوذون على نحو نصف الكتاب، نلتقي عيسى مخلوف، «يقطف الضحك من أشجار البساتين المحيطة بالنهر». وتصفه الباحثة بأنه من الشعراء الندرة الذين تجتمع في قصائدهم الفنون على تنوعها. كما أن الطبيعة تسحره ومفتون بالحدائق. رومانسية مخلوف، تجعله من الشعراء الذين يرون في حروب اليوم امتداداً للوحشية البشرية، وفي سلوكنا اليومي ما يستحق الإدانة: «سنفتح الخزائن على فراء المعاطف، على الأحزمة والأحذية الجلد. سنرتدي، الليلة، الحيوانات المقتولة قبل الذهاب إلى الاحتفال».
أما عند جودت فخر الدين، فللطبيعة مكانة محورية. «ولا حواجز تفصل بين كتابة الذات ووصف المشهد الطبيعي والتفكير في ماهية الشعر ولغة القصيدة». «طبيعتي بعيدة مثل البراري. وديعة مثل الحدائق. خجولة مثل ورود على وشك الذبول... طبيعتي هي الجلوس مثل سنديانة، والوقوف مثل حورة». يختلف عنه أديب صعب في أنه يتوسل الطبيعة مساحة لعبادة الله والتأمل في عظمة وجمال الخالق، وفي شعره نزعات صوفية روحانية: «وما الشعر إن لم يكن صلوات. وما الصلوات، غير شعر يفيض من القلب، يرسم وجه الحياة». وغالباً ما تتحول قصيدة الوصف إلى ضرب من ضروب العبادة: «يضرب الفجر خيامه - بين غابات الظلال- العصافير علامة - لمدى يمتد، والنور ابتهال».
«النقد الإيكولوجي» كمصطلح، ظهر للمرة الأولى في نهاية سبعينات القرن الماضي، في مقالة للباحث الأميركي ويليام روكرت تحت عنوان «الأدب وعلم البيئة: تجربة في النقد الأدبي»، وبقي يتداول من حينها، خاصة في الأوساط الأكاديمية الأنجلوسكسونية، دون أن يحقق اختراقاً كبيراً. وجد المصطلح طريقه إلى النقد العربي حين طبق على الرواية والقصة. محاولة الدكتورة زهيدة درويش جبور، تطبيق «النقد الإيكولوجي» على الشعر العربي المعاصر، تكتب لها، وتجعلنا نتساءل إن لم يكن شعراؤنا هم بطبيعتهم من عشاق البيئة وحماتها، حتى قبل أن تطلق الصرخات المهددة بزوال الكوكب.



مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان
TT

مهدي سلمان: صراع الشعر مع الأفكار والمشاعر من أهم سمات الكتابة المسرحية

مهدي سلمان
مهدي سلمان

استطاع الشاعر البحريني مهدي سلمان أن يترك بصمة بارزة على خريطة الشعر في بلاده عبر عدد من دواوينه الشعرية التي تتميز بتراكيب بصرية جريئة ولغة مشحونة برؤى جديدة. صدر ديوانه الأول «ها هنا جمرة وطن، أرخبيل»، 2007، لتتوالى بعده أعماله التي لفتت الأنظار لموهبته الكبيرة؛ مثل «السماء تنظف منديلها البرتقالي»، و«لن أقول شيئاً هذه المرة»، و«لا شيء يحدث ولا حتى القصيدة».

ومن الشعر تمتد تجربته الإبداعية إلى المسرح بقوة، حيث شارك ممثلاً في نحو 20 مسرحية؛ منها «اللعبة»، و«المستنقع»، و«الوهم»، كما أخرج مسرحيتي «مكان ما»، و«التركة»، وحصد جوائز مرموقة في المهرجانات الفنية المتخصصة... هنا حوار معه حول تجربته وهمومه الأدبية:

* لنبدأ بثنائية الشعر والمسرح في تجربتك، فالقصيدة، على الأقل في تصور العامة، فن ذهني ساكن، في حين أن المسرحية فن بصري حركي... هل ثمة تناقض بين النوعين؟

-هنالك بالتأكيد اختلافات بين كتابة القصيدة وكتابة المسرحية، لكن هذا الاختلاف لا يرقى ليكون تناقضاً، إن الأجناس الأدبية اليوم تستقي من بعضها، وتتجاور بكل هدوء، فيأخذ الشعر الحالة الدرامية من المسرح، ويأخذ المسرح الحالة التأملية الرائية من الشعر، وتنهل الرواية والقصة من مظاهر هذا وذاك. وعموماً لم يكن الشعر يوماً فناً ساكناً، على الرغم من كونه ذهنياً، فلطالما احتوى الشعر على صراع عنيف بين الأفكار والمشاعر، وهذا الصراع أهم سمات المسرحية. وكذلك لم تكن المسرحية دائماً فناً حركياً، فلقد استخدم كتّاب المسرح في كثير من تجاربهم طرق وأساليب التأمل الشعري لإنتاج الحدث. فعل ذلك كتّاب مسرح العبث؛ مثل يونسكو، وبيكيت، وكذلك تجارب توفيق الحكيم المسرحية الذهنية، وقبلهم استغل كتاب المسرح الكلاسيكي الحوار الداخلي والمناجاة من أجل الاقتراب من روح الشعر في المسرح.

* أيهما أسبق في إثارة ولعك ووجدانك، القصيدة أم المسرحية، وكيف أثرت إحداهما على الأخرى من واقع تجربتك؟

- لا أتذكر بالتحديد أسبقية شكل على آخر، لقد كان الشكلان ينموان معاً في تجربتي، ويتبادلان الأهمية والتأثير، وكذلك يتساقيان الفهم من التجارب المختلفة. ولطالما كان الشعر قريباً من المسرح والمسرح قريباً من الشعر، منذ سوفوكليس حتى شكسبير. ولطالما كانت الكتابة لأحدهما تغترف من تقنيات الشكل الآخر، ومن أدواته وإمكاناته، ليس على مستوى الممارسة في الكتابة فقط، إنما كذلك في آلية تحليل وتفسير وتقليب الأفكار والعواطف والقضايا، لا يمكن للكاتب أن يقول أين يكمن هذا التأثير، وكيف، لكنني أومن أنه موجود في الكتابة للشكلين، وفي التمثيل والإلقاء على السواء.

* لنتحدث قليلاً عن فكرة «الجمهور» فهي حاضرة بقوة أمامك بصفتك ممثلاً يصعد إلى خشبة المسرح، لكن كيف تتمثلها بصفتك شاعراً؟

* لو سألتِ أي ممثل على المسرح كيف ترى الجمهور، لقال لك إنه لا يراه، حضور الجمهور في المسرح هو حضور فكرة، فحين تظلم القاعة، ويصعد الممثل على الخشبة لا يرى أمامه إلا الظلمة التي فيها ومن خلالها يدخل ويخرج من وإلى الشخصية، أظن فكرة الجمهور في الكتابة تشبه هذا، ظلمة لا تتبينها، لكنها أمامك، تدخل نحوها شخصاً، وما إن تخطو فيها حتى تصير شخصاً آخر.

* ماذا عن موضوع «التطهر» بوصفه وظيفة قديمة في التراجيديا الإغريقية... هل يمكن أن تصنع قصيدة النثر حالياً حالة شبيهة وتخرج الانفعالات المكبوتة داخل القارئ، لا سيما الخوف والشفقة؟

- بقدر الخلاف على معنى محدد لمفهوم مصطلح التطهر أو التنفيس، لا يمكن القطع بإمكانية شكل ما شعري أو سواه في حيازة نتاج هذا المفهوم، فهو موجود في جميع الأشكال - الشعرية وغيرها - كما في المسرح، بنسب مختلفة. إنه جزء من صنع الفن، طالما أن الفن جزء منه يخاطب العقل والقلب والمشاعر والأفكار الإنسانية، فهو فعل تطهّر أو تطهير، وكذلك في المقابل هو فعل تلويث كذلك، أو فلنقل هو فتح للجروح المختلفة، لكن في كل ذلك، هو نتاج الفاعل لا الفعل نفسه، الشاعر لا شكل القصيدة، الكاتب المسرحي، لا نوع المسرحية.

وبقدر ما يبحث الشاعر أو المسرحي أعمق، ويقطع أكثر، بقدر ما يطهّر، نفسه، قارئه، شخصياته، أو أفكاره وعواطفه، وهو في كل ذلك ليس فعلاً قصدياً دائماً، إنما هو نتاج إما لشخصية الكاتب، أو للظروف المحيطة به، لذلك فهو يظهر في فترات تاريخية بعينها بشكل أوضح وأجلى، وقد يخبو في فترات أخرى، تبعاً لقدرة المجتمعات على فتح جروحها، أو على الأقل استقبال هذا النوع والشكل من الفعل الفني.

* على مدار أكثر من نصف قرن، لم تحصد أي جائزة أو تنال تكريماً بصفتك شاعراً، لكنك في المقابل حصدت عدداً من الجوائز والتكريمات بصفتك ممثلاً مسرحياً... كيف ترى تلك المفارقة؟

- يعود ذلك إلى مفهوم الجائزة فيما بين الشكلين، والخلل الكبير في شكل الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، الجوائز لا ينبغي أن تُطلب، إنما تُعطى نتيجة لفعل ما أو جهد ما، هذا يحدث في المسرح الذي هو عمل جماعي، فالمؤسسة القائمة على المسرحية هي التي تتقدّم لمهرجان ما، أو جائزة ما. وعندها يحصد ممثل أو كاتب أو مخرج جائزة على جهده في هذا العمل بعينه، فيما على الكاتب أن يتقدّم بنفسه لطلب جائزة أو تكريم لديوان أو قصيدة، وهذا خلل بيّن في ضبط مصطلح جائزة، أو تكريم، أو حتى مسابقة. الأجدى أن تكون هناك مؤسسات، إما دور النشر، أو الوكالات الأدبية، هي التي تمحّص أعمال الكتّاب، وتنتقي منها ما يتقدّم للجائزة، أو المسابقة، وذلك من أجل ضبط عملية خلق المعايير في الساحة الأدبية، لكن وبما أننا في بيئة فاقدة للمعايير، فالتقدّم للجوائز الأدبية، يرافقه في أوقات كثيرة تشويه لدور الكاتب أو الشاعر، أين يبدأ وأين ينتهي.

* تقول في ديوانك «أخطاء بسيطة»:

«كل الذين لمست أصابعهم في الطريق

تماثيل شمع غدوا

كل من نمت في حضنهم خبتوا

واختفوا».

من أين يأتي كل هذا الإحساس العارم بالعدمية والخواء، وكأن الحميمية تعويذة ملعونة تلقيها الذات الشاعرة على الآخرين؟

- لا يمكن اقتطاع أبيات شعرية لتشكل معنى عاماً في تجربة ما، بالتأكيد هنالك عدمية تظهر أحياناً في أحد النصوص، لكنْ في مقابلها معان أخرى، قد تناقضها. الشعر فعل مستمر، تحليل دائم، وتدفق في مشاعر قد تكون متناقضة بقدر اختلاف أزمان الكتابة أو أزمان التجارب، لكن إن كنا نناقش هذه التجربة خاصة، هذا المقطع من هذا النص تحديداً، عندها فقط يمكننا أن نسأل، بالتأكيد ثمة لحظات في حياتنا نشعر خلالها بالانهزام، بالعدمية، بالوحشة، ونعبّر عن تلك اللحظات، ومن بينها تلك اللحظة في النص. ويأتي هذا الشعور بالتأكيد من الخسران، من شعور مغرق في الوحدة، وفقدان قدرة التواصل مع آخرين، إنها لحظات تنتابنا جميعاً، ليست دائمة، لكن التعبير عنها يشكّلها، بحيث نكون قادرين على مساءلتها، واختبارها، وهذا هو دور الشعر، لا البحث عن السائد، إنما وضع الإصبع وتمريره بحثاً عن النتوءات أو الحفر، لوصفها، لفهم كيف تحدث، وماذا تُحدِث.

* ينطوي عنوان ديوانك «غفوت بطمأنينة المهزوم» على مفارقة تبعث على الأسى، فهل أصبحت الهزيمة مدعاة للطمأنينة؟

- الهزيمة في معناها العام ليست فعلاً سلبياً دائماً، إنها التراجع كذلك، أو فلنقل العلوّ، رؤية المشهد بشكل آخر، من أعلى كما أراها، خلافاً للمنهمك فيه والداخل فيه. لذلك فإن الطمأنينة التي ترافق هزيمة كهذه هي طمأنينة المتأمل، أن تخرج من ذاتك أو تنهزم منها، لتحاول أن تجد طمأنينة ملاحظتها، والبحث فيها، وفهمها. أن تنهزم من تجربة ما وتتراجع عنها، لتجد لأسئلتها أجوبة، وأن يرافق هذا البحث طمأنينة الخروج والمغادرة، حتى لو كانت هذه المغادرة وقتية وليست تامة.

* في ديوان آخر هو «موت نائم، قصيدة مستيقظة»، هل أصبح الشعر المقابل الفعلي للموت؟

- ليس مقابلاً، إنما معطى آخر، ليس نقيضاً أو معاكساً، بل هو رفيق وصاحب يفعلان أفعالاً عكسية للتوافق والتوازن، وليست للمناكفة والمعاداة. تستيقظ القصيدة، لا لتلغي الموت، أو تنهيه، إذ لا يمكن إنهاء الموت، أو إماتته، لأن في موت الموت موت للحياة كذلك. لكنها تستيقظ في اللحظات التي يقف فيها في الخلف، تستيقظ لأجل أن ترى، وتبصر، وتصنع، وتحاول أن تتكامل معه من أجل الخلق نفسه، والولادة نفسها.

* كيف ترى الرأي القائل إن قصيدة النثر التي يكتبها غالبية أبناء جيلك استنفدت إمكاناتها الجمالية والفكرية، ولم تعد قادرة على تقديم الجديد؟

- ثمة تراجع حالياً نحو القصيدة العمودية، إنه واضح تماماً، أبناء جيلي والأجيال التالية، يعودون نحو روح العمود، حتى لدى كتاب قصيدة النثر، حيث الكتابة بوصفها فعلاً ليست فعل بحث واكتشاف إنما فعل إدهاش وتعال. لا، ليست القصيدة هي التي استنفدت إمكاناتها، بل كتاب القصيدة وشعراؤها هم الذين استنفدوا طاقتهم على المواجهة، الكتاب الآن يبحثون عن (صرة الدنانير) التي كان الخلفاء يلقون بها على شعراء المديح، هذا فقط تغيّر في روح الكتّاب، لا روح الكتابة نفسها.

* أخيراً، كيف تنظر إلى ما يقال عن تراجع تأثير الشعر في المشهد الثقافي مؤخراً وعدم ترحيب الناشرين بطباعة مزيد من الدواوين؟

- هذه حقيقة، وهي جزء من الأزمة ذاتها، التحوّل نحو الشكل العمودي من جانب، والنكوص نحو الذاتية المستنسخة من جانب آخر. تحوّل في فهم روح العصر، يأس من فعل الكتابة بوصفه عامل تفسير وتحليل وتفكيك وتغيير، تطويع الشعر ليعود إلى أدواره السابقة، فيكون صوت السائد الذي يُصفّق له. الشعر الآن في أي شكل من أشكاله، انعكاس للوجوه المتشابهة التي خضعت لعمليات التجميل التي نراها حولنا، هذا هو العصر، وأنت لا تريد تغييره، أو محاولة تغييره، أنت تريد الخضوع له وحسب. هذا هو ما يحدث.