الأدب في مواجهة الحرب

كتّاب عرب: ألقت بظلالها الثقيلة على حياتنا وأعمالنا

أحمد طيباوي
أحمد طيباوي
TT

الأدب في مواجهة الحرب

أحمد طيباوي
أحمد طيباوي

«بشعة وآلامها لا تموت بالتقادم»، هذه خلاصة هذا التحقيق الذي تحدث فيه عدد من الكتاب العرب عن الحرب بكل تراجيديتها وتداعياتها المدمرة على الإنسان والمجمتع، وبالضرورة على الكتابة، كما رأينا في تجارب كتاب وشعراء وفنانين عبر التاريخ الإنساني، خاض بعضهم الحرب، وجسدوها في أعمالهم، من هوميروس إلى شعراء الحربين العالمية الأولى، والثانية، والحرب الإسبانية التي شارك فيها همنغواي وأندريه مارلو وجورج أورويل وغيرهم كثير، وبعضهم قد قتل في هذه الحرب أو تلك، خصوصاً في القرن العشرين:

الروائي الجزائري أحمد طيباوي: ضحايا أبديون
الناجون من الحرب ضحايا أبديون، والذين ماتوا سيبقون عالقين في الذاكرة وحتى في ذاكرة أجيال قادمة لزمن طويل. تفيد التجربة الإنسانية في هذا الصدد بأن بعض الآلام لا تموت بالتقادم. بعد محنة سنوات التسعينات التي عاشتها الجزائر، كُتب كثير من الروايات، شيء قريب من التخفف، والتطهّر، القول إن الحياة ما زالت ممكنة على نحو ما، وفاء للضحايا، أو إنقاذ الذاكرة الجماعية والفردية، وبعض النصوص كانت أقرب لسيرة ذاتية أو يوميات هذا الكاتب أو ذاك أثناء الأزمة الدموية. لم تكن فترة صعبة تجاوزناها زمنياً وانتهى الأمر، لقد كانت المعاناة والآلام تجلّ عن الوصف، وسيبقى أثرها فينا طويلاً، نحن الذين تفتح وعينا في تلك السنوات، وما نكتبه يعكس ذاكرتنا القريبة والبعيدة، والترسبات التي تخلفها بداخلنا المراحل القاسية وشديدة الوطأة في حياتنا. وقد كانت أول رواية كتبتها، وهي «المقام العالي»، عن تلك الفترة بالتحديد. الرواية سجّل آخر للإنسانية، ما يسقط من التاريخ نجده في الروايات، وعندما يعيش الروائي محنة الحرب وما بعدها، يمكنني أن أفترض بأن ما يحركه هو دافع أخلاقي وإبداعي بالأساس، ويكون عليه بعد ذلك أن يتمثّل جيداً ما حدث. الماضي القريب والأليم والملغم قد يكون أكبر من قدرتنا على التجاوز السريع، ويجب أن تأخذ الأمور وقتها الطبيعي. نكتب في الروايات تاريخاً - ولو متخيلاً - للإنسان في صعوده وسقوطه، لكن يجدر بنا الابتعاد عن إعادة إنتاج خطاب الكراهية ولو بالتضمين، وعدم محاكمة هذا الطرف أو ذاك، وهذا لا يعني أن نساوي بين الضحية والجلاد، والانتصار لقيم التعايش والسلام. الاستعجال وضيق الرؤية والاكتفاء بنقل التجارب الكتابية والسماعية الأخرى ومحاولة مضاهاتها، والتحيز لأطراف الصراع على حساب الناس ومعاناتهم، كل ذلك لن يعطينا سوى روايات محدودة القيمة والأثر.


فاتنة الغرة

الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة: غزة نموذجاً يتجدد
بالنسبة لي دائماً ما يتعثر حرف الراء بين الباء والحاء، فتارة تراه معلقاً في الكلمة وعندها تشحذ أسلحتك الخفيف منها والثقيل، الموبايل المشحون والسماعة للمكالمات الممنوعة وقت الحرب حيث نتراص جميعنا في مكان واحد مثل الدجاج ويكثر الضحك في هذا الوقت، يتعالى الضحك، تنزل الدموع من الضحك، نتقلب على الأرض من الضحك، أو نرتجّ أيضاً.

أذكر قصة حدثت في حرب 2014 على غزة والحروب كثيرة عليها، حيث تم تجميع العائلات في مدارس وكالة الأونروا، واستمر الحال على هذا الوضع أسابيع طويلة وثقيلة العيار، إذ أي هنّة تصدر من السرير المقابل الذي يفصلك عن متابعة ما يحدث عليه ستارة رقيقة من القماش، كانت تكفي لستر النظر، ولكن السمع كان يتخطى طرقات المدرسة.
في الطريق إلى غزة كما أتخيل، تخيم صور الحرب على ذاكرتي، التي طال عمرها أكثر من 13 عاماً لم أعد فيها لزيارة هذا المكان، تمر كشريط سمعي أمام عيني، وعقلي ينشط خلاياه من أجل حفظ المشاهد القديمة وتخزينها حتى لا تتعرض للإتلاف، السؤال الذي أخاف من ألا أجد إجابته هو: هل سأتعرف على المدينة؟ وكم بقي من الذاكرة التي خرجت بها من غزة؟ أظن أن بشاعة الحرب تتلخص عندي في الذاكرة، في الضحكات التي ألملمها مثل عقد تفرطت حباته، مثل رقصة وراء باب ولمة حول نار الشتاء، وأصوات أشخاص كانوا يسكنون هذا المكان وروائح أجساد مختلطة وثياب كل منها تحمل رائحة صاحبها، وتأتي أوقات الحرب حيث أراقب فيها بلادي من على بعد آلاف الكيلومترات وعند كل قصف أحسب كم حضن، كم ضحكة تم قصفها وكم رائحة زالت من فوق سطح الأرض. في الحرب لا يتبقى لديك سوى الذاكرة التي لا تخص أحداً سواك، وربما ستكون هي الدليل والإشارة على أن هناك روحاً قد مرّت من هنا.


ضحى عاصي

الروائية المصرية ضحى عاصي: مخاوف وأطماع بشرية
الحرب تعبير عن الاختلاف في أعنف صوره، وهي ترجمة دموية لكل الأطماع والمخاوف البشرية، الأنانية وحب السيطرة. لم أقصد يوماً الكتابة عن الحرب، ولكنني اكتشفت أنني كتبت في أعمالي الروائية الثلاثة عن الحرب، وأن مصائر شخصياتي وملامحهم النفسية، وأقدارهم البائسة، كان للحروب دور فيها.

ففي رواية «104 القاهرة» تطل علينا حرب 1967 وظلال الهزيمة، التي تلقي بتأثيرها على شخصية البطلة، وعلاقتها بالعالم وشعورها بالأمان. في النص وصف لليلة قضتها الشخصية الرئيسية، وهي ليلة وفاة جدها، وهي تلك الليلة التي تم إعلان الهزيمة فيها... وفى هذه الليلة يظهر بطل موازٍ وهو الزائر الليلي، الذي يبدو كضمير البطلة الذي جاء ليعينها على تقبل الفقد والهزيمة، لتبدأ رحلة «انشراح» المهزومة في الحياة، ومعها بطلها الافتراضي وتتوالى الأحداث.
وفي رواية «غيوم فرنسية» بدت الحرب أكثر وضوحاً، ولكن الحرب هنا مختلفة، وتراوحت أسئلة الرواية ما بين: هل كانت الحرب بين الفرنسيين والمصريين في فترة حمله نابليون؟ أم أنها كانت بين الفرنسيين والسلطنة العثمانية؟ أم كانت الحرب بين الحداثة المتمثلة في أفكار الثورة الفرنسية التي تدعو إلى الإخاء والمساواة والحرية، والأفكار التقليدية التي جعلت من مصر ولاية من ولايات السلطنة العثمانية؟ تبدأ الرواية بحرب فى مصر وتنتهي بحرب في روسيا.
في رواية «صباح 19 أغسطس» تتغير حياة البطلة وتفقد الوطن في حرب أخرى، حرب غير مرئية، أخطر من الحروب التقليدية، تُستخدم فيها كل الأفكار الطيبة والمثالية.


يعرب العيسى

الروائي السوري يعرب العيسى: الحماقة الأكثر تكراراً
في كل مبدع شيءٌ من شاعر، والشاعر لا يظن نفسَه مسؤولاً عن أهله وبلده فقط، بل عن النوع البشري، والحيوانات والنباتات والمناخ والأفلاك كذلك. وهو يعتقد بأنه منذورٌ لجعل العالم مكاناً أفضل.
يسوقه هذا الوهم الجميل الى أماكن محددة. يلقي به في آبار مهجورة، يغرقه بالشغف، فيجد نفسه أسيرَ الموضوعات الأكثر تناقضاً مع تصوّره للعالم. وأفترض بديهياً أن المبدع نصير الحياة، وبما أن مؤرخي الحروب يقيسون حجم انتصاراتها بحجم نهر الدماء البشرية الذي أَسالَتْه فعلاقة الجذب تصبح بديهية أيضاً.
فالحرب، بوصفها الحماقة البشرية الأكثر تكراراً، والأعمق أثراً، لا بدّ أن تقود المبدعين واحداً تلو الآخر إلى تلة الجماجم التي تخلّفها وراءها، وتدفعهم لهجائها. أو لهجاء أحد طرفيها دوناً عن الآخر، تصور العالم عنها، أثرها على الشجر، على العمارة، على الفتيات، على الخبز، على الحب.
أدبيات التاريخ تكاد تقتصر على الحروب، ومعظم ما بين أيدينا من التاريخ الإنساني هو تاريخ الحروب التي شنتها الإمبراطوريات والدول على بعضها، دون أن نعرف ما شعرت به تلك المرأة التي تبيع البيض في ساحة طروادة يوم اقتحامها بحصان خشبي، ولا المرأة الأخرى التي كانت تحاول ضبط انقباضات رحمها لتؤخر ولادة ابنها فيما تدكُّ منجنيقات محمد الفاتح بيوت القسطنطينية.
وأظن هذه مهمة الأدب، وهو ما يفعله حقاً، فالتاريخ الرسمي الذي يكتبه الحكام، جعل حكايتنا البشرية تلّة من الأكاذيب. هناك مبدعون كتبوا ورسموا عن الحرب، منهم هيمنغواي، وهو، مع جورج أورويل، برأيي من أفضل من كتب عن الحرب، فكلاهما شهد ويلاتها عن قرب، واختبر بشاعتها بكل حواسهما حين كانا مراسلين حربيين على الجبهات.
أيضاً أتذكر هنا إجابة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز، حين سألته صحافية: هل تظن الأدب سينقذ العالم؟ فقال: ربما أنقذه مرات عديدة من قبل، من يدري؟


يسري عبد الله

الناقد د. يسري عبد الله: مأزق المصير الإنساني
لا تحمل سرديات الحرب مواد حكائية فحسب، فهي تخترق القشرة الصلدة للحروب باحثة عما يضمر في أعماقها، كاشفة عن مأزق الإنسان الفرد حين يجد نفسه في قلب مرمى المأساة، والفقد، والوحشة. ولطالما عبر الأدب عن جدل الموت والحياة، وعن حركة الإنسان وهو يسعى للنجاة، والوجود، ما يفضي به إلى الهلاك، وهنا مثلت سردية الحرب إحدى السرديات الكبرى في الأدب العالمي، منها نذكر ملحمة «الحرب والسلم» للكاتب الروسي ليو تولستوي، التي تم تصنيفها بوصفها إلياذة العصور الحديثة، ومثلت استجابة جمالية لجدل الحياة والموت الممتد، وهي تُسائل الحروب في مراجعة نقدية مستمرة. داخل «الحرب والسلم» كان تولستوى يُنقب عن الجوهر الإنساني الثري، عبر مسارات سردية متقاطعة لواقع الحرب المعبأة بالضغينة والكراهية، وإن كان لا يزال قادراً على إيجاد خيوط من المحبة والرومانسية، في بناء مركب يحمل سؤال المصير الإنساني، والتاريخ الدموي، والمشاعر التي تجدل بين القسوة والرهافة، وتطلع البشر لصناعة المحبة، والبحث عنها رغم كل ما يحيط بهم من موت، وخراب.
اتسع أفق رواية «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» للروائي الألماني إيريك ريمارك، لكل من صخب الحرب، ووحدة الإنسان الداخلية. وكان عنوان الرواية إشارة إلى العبارة التي عبرت عن حالة الحرب في التقرير الحربي المعتاد، وهي الجملة المركزية ذاتها التي تتوازى مع موت بطل الرواية الشاب العشريني (باول)، الذي حولته الحرب من محبة الحياة والشغف بها إلى اقتناعه بضرورة الموت وحتميته؛ باعتباره الخلاص من الخوف، والرعب، والاغتراب والمعاناة. وكانت أمه هي خط دفاع أخير عن انتمائه لهذا العالم، وعن كونه لا يزال موجوداً حاضراً قادراً على الفرح ولو من بعيد، لكنها تموت أيضاً، ككل شيء في عالم أصبح الموت سبيله الوحيد.
تطرح رواية ريمارك تساؤلات مثيرة عن جدوى الحروب، وخطورة اعتيادية القتل، تلك التي لم تخلف داخل سيكولوجية البطل الممزق (باول) سوى الوحشة، والإحساس العام بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي، ففى زياراته القليلة إلى قريته يجد نفسه عازفاً عن التواصل مع من حوله، بينما يسأله أبوه أسئلة لا يعرف إجاباتها عن مدى تقدم القوات، وهو الجندي الذي لا يملك من أمره شيئاً سوى البحث عن فرصة جديدة للنجاة، لتتعمق الآلام النفسية لديه، وتستمر حتى موته المنتظر.



هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.