الأدب في مواجهة الحرب

كتّاب عرب: ألقت بظلالها الثقيلة على حياتنا وأعمالنا

أحمد طيباوي
أحمد طيباوي
TT

الأدب في مواجهة الحرب

أحمد طيباوي
أحمد طيباوي

«بشعة وآلامها لا تموت بالتقادم»، هذه خلاصة هذا التحقيق الذي تحدث فيه عدد من الكتاب العرب عن الحرب بكل تراجيديتها وتداعياتها المدمرة على الإنسان والمجمتع، وبالضرورة على الكتابة، كما رأينا في تجارب كتاب وشعراء وفنانين عبر التاريخ الإنساني، خاض بعضهم الحرب، وجسدوها في أعمالهم، من هوميروس إلى شعراء الحربين العالمية الأولى، والثانية، والحرب الإسبانية التي شارك فيها همنغواي وأندريه مارلو وجورج أورويل وغيرهم كثير، وبعضهم قد قتل في هذه الحرب أو تلك، خصوصاً في القرن العشرين:

الروائي الجزائري أحمد طيباوي: ضحايا أبديون
الناجون من الحرب ضحايا أبديون، والذين ماتوا سيبقون عالقين في الذاكرة وحتى في ذاكرة أجيال قادمة لزمن طويل. تفيد التجربة الإنسانية في هذا الصدد بأن بعض الآلام لا تموت بالتقادم. بعد محنة سنوات التسعينات التي عاشتها الجزائر، كُتب كثير من الروايات، شيء قريب من التخفف، والتطهّر، القول إن الحياة ما زالت ممكنة على نحو ما، وفاء للضحايا، أو إنقاذ الذاكرة الجماعية والفردية، وبعض النصوص كانت أقرب لسيرة ذاتية أو يوميات هذا الكاتب أو ذاك أثناء الأزمة الدموية. لم تكن فترة صعبة تجاوزناها زمنياً وانتهى الأمر، لقد كانت المعاناة والآلام تجلّ عن الوصف، وسيبقى أثرها فينا طويلاً، نحن الذين تفتح وعينا في تلك السنوات، وما نكتبه يعكس ذاكرتنا القريبة والبعيدة، والترسبات التي تخلفها بداخلنا المراحل القاسية وشديدة الوطأة في حياتنا. وقد كانت أول رواية كتبتها، وهي «المقام العالي»، عن تلك الفترة بالتحديد. الرواية سجّل آخر للإنسانية، ما يسقط من التاريخ نجده في الروايات، وعندما يعيش الروائي محنة الحرب وما بعدها، يمكنني أن أفترض بأن ما يحركه هو دافع أخلاقي وإبداعي بالأساس، ويكون عليه بعد ذلك أن يتمثّل جيداً ما حدث. الماضي القريب والأليم والملغم قد يكون أكبر من قدرتنا على التجاوز السريع، ويجب أن تأخذ الأمور وقتها الطبيعي. نكتب في الروايات تاريخاً - ولو متخيلاً - للإنسان في صعوده وسقوطه، لكن يجدر بنا الابتعاد عن إعادة إنتاج خطاب الكراهية ولو بالتضمين، وعدم محاكمة هذا الطرف أو ذاك، وهذا لا يعني أن نساوي بين الضحية والجلاد، والانتصار لقيم التعايش والسلام. الاستعجال وضيق الرؤية والاكتفاء بنقل التجارب الكتابية والسماعية الأخرى ومحاولة مضاهاتها، والتحيز لأطراف الصراع على حساب الناس ومعاناتهم، كل ذلك لن يعطينا سوى روايات محدودة القيمة والأثر.


فاتنة الغرة

الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة: غزة نموذجاً يتجدد
بالنسبة لي دائماً ما يتعثر حرف الراء بين الباء والحاء، فتارة تراه معلقاً في الكلمة وعندها تشحذ أسلحتك الخفيف منها والثقيل، الموبايل المشحون والسماعة للمكالمات الممنوعة وقت الحرب حيث نتراص جميعنا في مكان واحد مثل الدجاج ويكثر الضحك في هذا الوقت، يتعالى الضحك، تنزل الدموع من الضحك، نتقلب على الأرض من الضحك، أو نرتجّ أيضاً.

أذكر قصة حدثت في حرب 2014 على غزة والحروب كثيرة عليها، حيث تم تجميع العائلات في مدارس وكالة الأونروا، واستمر الحال على هذا الوضع أسابيع طويلة وثقيلة العيار، إذ أي هنّة تصدر من السرير المقابل الذي يفصلك عن متابعة ما يحدث عليه ستارة رقيقة من القماش، كانت تكفي لستر النظر، ولكن السمع كان يتخطى طرقات المدرسة.
في الطريق إلى غزة كما أتخيل، تخيم صور الحرب على ذاكرتي، التي طال عمرها أكثر من 13 عاماً لم أعد فيها لزيارة هذا المكان، تمر كشريط سمعي أمام عيني، وعقلي ينشط خلاياه من أجل حفظ المشاهد القديمة وتخزينها حتى لا تتعرض للإتلاف، السؤال الذي أخاف من ألا أجد إجابته هو: هل سأتعرف على المدينة؟ وكم بقي من الذاكرة التي خرجت بها من غزة؟ أظن أن بشاعة الحرب تتلخص عندي في الذاكرة، في الضحكات التي ألملمها مثل عقد تفرطت حباته، مثل رقصة وراء باب ولمة حول نار الشتاء، وأصوات أشخاص كانوا يسكنون هذا المكان وروائح أجساد مختلطة وثياب كل منها تحمل رائحة صاحبها، وتأتي أوقات الحرب حيث أراقب فيها بلادي من على بعد آلاف الكيلومترات وعند كل قصف أحسب كم حضن، كم ضحكة تم قصفها وكم رائحة زالت من فوق سطح الأرض. في الحرب لا يتبقى لديك سوى الذاكرة التي لا تخص أحداً سواك، وربما ستكون هي الدليل والإشارة على أن هناك روحاً قد مرّت من هنا.


ضحى عاصي

الروائية المصرية ضحى عاصي: مخاوف وأطماع بشرية
الحرب تعبير عن الاختلاف في أعنف صوره، وهي ترجمة دموية لكل الأطماع والمخاوف البشرية، الأنانية وحب السيطرة. لم أقصد يوماً الكتابة عن الحرب، ولكنني اكتشفت أنني كتبت في أعمالي الروائية الثلاثة عن الحرب، وأن مصائر شخصياتي وملامحهم النفسية، وأقدارهم البائسة، كان للحروب دور فيها.

ففي رواية «104 القاهرة» تطل علينا حرب 1967 وظلال الهزيمة، التي تلقي بتأثيرها على شخصية البطلة، وعلاقتها بالعالم وشعورها بالأمان. في النص وصف لليلة قضتها الشخصية الرئيسية، وهي ليلة وفاة جدها، وهي تلك الليلة التي تم إعلان الهزيمة فيها... وفى هذه الليلة يظهر بطل موازٍ وهو الزائر الليلي، الذي يبدو كضمير البطلة الذي جاء ليعينها على تقبل الفقد والهزيمة، لتبدأ رحلة «انشراح» المهزومة في الحياة، ومعها بطلها الافتراضي وتتوالى الأحداث.
وفي رواية «غيوم فرنسية» بدت الحرب أكثر وضوحاً، ولكن الحرب هنا مختلفة، وتراوحت أسئلة الرواية ما بين: هل كانت الحرب بين الفرنسيين والمصريين في فترة حمله نابليون؟ أم أنها كانت بين الفرنسيين والسلطنة العثمانية؟ أم كانت الحرب بين الحداثة المتمثلة في أفكار الثورة الفرنسية التي تدعو إلى الإخاء والمساواة والحرية، والأفكار التقليدية التي جعلت من مصر ولاية من ولايات السلطنة العثمانية؟ تبدأ الرواية بحرب فى مصر وتنتهي بحرب في روسيا.
في رواية «صباح 19 أغسطس» تتغير حياة البطلة وتفقد الوطن في حرب أخرى، حرب غير مرئية، أخطر من الحروب التقليدية، تُستخدم فيها كل الأفكار الطيبة والمثالية.


يعرب العيسى

الروائي السوري يعرب العيسى: الحماقة الأكثر تكراراً
في كل مبدع شيءٌ من شاعر، والشاعر لا يظن نفسَه مسؤولاً عن أهله وبلده فقط، بل عن النوع البشري، والحيوانات والنباتات والمناخ والأفلاك كذلك. وهو يعتقد بأنه منذورٌ لجعل العالم مكاناً أفضل.
يسوقه هذا الوهم الجميل الى أماكن محددة. يلقي به في آبار مهجورة، يغرقه بالشغف، فيجد نفسه أسيرَ الموضوعات الأكثر تناقضاً مع تصوّره للعالم. وأفترض بديهياً أن المبدع نصير الحياة، وبما أن مؤرخي الحروب يقيسون حجم انتصاراتها بحجم نهر الدماء البشرية الذي أَسالَتْه فعلاقة الجذب تصبح بديهية أيضاً.
فالحرب، بوصفها الحماقة البشرية الأكثر تكراراً، والأعمق أثراً، لا بدّ أن تقود المبدعين واحداً تلو الآخر إلى تلة الجماجم التي تخلّفها وراءها، وتدفعهم لهجائها. أو لهجاء أحد طرفيها دوناً عن الآخر، تصور العالم عنها، أثرها على الشجر، على العمارة، على الفتيات، على الخبز، على الحب.
أدبيات التاريخ تكاد تقتصر على الحروب، ومعظم ما بين أيدينا من التاريخ الإنساني هو تاريخ الحروب التي شنتها الإمبراطوريات والدول على بعضها، دون أن نعرف ما شعرت به تلك المرأة التي تبيع البيض في ساحة طروادة يوم اقتحامها بحصان خشبي، ولا المرأة الأخرى التي كانت تحاول ضبط انقباضات رحمها لتؤخر ولادة ابنها فيما تدكُّ منجنيقات محمد الفاتح بيوت القسطنطينية.
وأظن هذه مهمة الأدب، وهو ما يفعله حقاً، فالتاريخ الرسمي الذي يكتبه الحكام، جعل حكايتنا البشرية تلّة من الأكاذيب. هناك مبدعون كتبوا ورسموا عن الحرب، منهم هيمنغواي، وهو، مع جورج أورويل، برأيي من أفضل من كتب عن الحرب، فكلاهما شهد ويلاتها عن قرب، واختبر بشاعتها بكل حواسهما حين كانا مراسلين حربيين على الجبهات.
أيضاً أتذكر هنا إجابة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باز، حين سألته صحافية: هل تظن الأدب سينقذ العالم؟ فقال: ربما أنقذه مرات عديدة من قبل، من يدري؟


يسري عبد الله

الناقد د. يسري عبد الله: مأزق المصير الإنساني
لا تحمل سرديات الحرب مواد حكائية فحسب، فهي تخترق القشرة الصلدة للحروب باحثة عما يضمر في أعماقها، كاشفة عن مأزق الإنسان الفرد حين يجد نفسه في قلب مرمى المأساة، والفقد، والوحشة. ولطالما عبر الأدب عن جدل الموت والحياة، وعن حركة الإنسان وهو يسعى للنجاة، والوجود، ما يفضي به إلى الهلاك، وهنا مثلت سردية الحرب إحدى السرديات الكبرى في الأدب العالمي، منها نذكر ملحمة «الحرب والسلم» للكاتب الروسي ليو تولستوي، التي تم تصنيفها بوصفها إلياذة العصور الحديثة، ومثلت استجابة جمالية لجدل الحياة والموت الممتد، وهي تُسائل الحروب في مراجعة نقدية مستمرة. داخل «الحرب والسلم» كان تولستوى يُنقب عن الجوهر الإنساني الثري، عبر مسارات سردية متقاطعة لواقع الحرب المعبأة بالضغينة والكراهية، وإن كان لا يزال قادراً على إيجاد خيوط من المحبة والرومانسية، في بناء مركب يحمل سؤال المصير الإنساني، والتاريخ الدموي، والمشاعر التي تجدل بين القسوة والرهافة، وتطلع البشر لصناعة المحبة، والبحث عنها رغم كل ما يحيط بهم من موت، وخراب.
اتسع أفق رواية «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» للروائي الألماني إيريك ريمارك، لكل من صخب الحرب، ووحدة الإنسان الداخلية. وكان عنوان الرواية إشارة إلى العبارة التي عبرت عن حالة الحرب في التقرير الحربي المعتاد، وهي الجملة المركزية ذاتها التي تتوازى مع موت بطل الرواية الشاب العشريني (باول)، الذي حولته الحرب من محبة الحياة والشغف بها إلى اقتناعه بضرورة الموت وحتميته؛ باعتباره الخلاص من الخوف، والرعب، والاغتراب والمعاناة. وكانت أمه هي خط دفاع أخير عن انتمائه لهذا العالم، وعن كونه لا يزال موجوداً حاضراً قادراً على الفرح ولو من بعيد، لكنها تموت أيضاً، ككل شيء في عالم أصبح الموت سبيله الوحيد.
تطرح رواية ريمارك تساؤلات مثيرة عن جدوى الحروب، وخطورة اعتيادية القتل، تلك التي لم تخلف داخل سيكولوجية البطل الممزق (باول) سوى الوحشة، والإحساس العام بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي، ففى زياراته القليلة إلى قريته يجد نفسه عازفاً عن التواصل مع من حوله، بينما يسأله أبوه أسئلة لا يعرف إجاباتها عن مدى تقدم القوات، وهو الجندي الذي لا يملك من أمره شيئاً سوى البحث عن فرصة جديدة للنجاة، لتتعمق الآلام النفسية لديه، وتستمر حتى موته المنتظر.



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.