اتّفق كثير من الخبراء على أنّ مكوّنات الثقافة الاستراتيجية هي؛ الجغرافيا، التاريخ، النظرة الخاصة للعالم، الدين، الآيديولوجيّة، الثقافة، العوامل الاقتصاديّة، تركيبة المنظومة السياسيّة، المؤسسات العسكريّة.
إذاً، هي معادلة مُعقّدة تحتوي على متغيّرات كثيرة، ولا يمكن توقّع نتائج عمليّة التفاعل بين هذه المكوّنات.
ونحن نقول باختصار إنها نتيجة تراكمات التجارب لمجموعة بشريّة معيّنة / أمّة، في كيفيّة تعاملها مع الآخر / الخارج، إن كان في السلم أو الحرب.
ولأن الجغرافيا هي، حتى الآن، العامل الأكثر ديمومة في علاقات المجموعات البشريّة، فإننا نقول إن الجغرافيا لها التأثير الأكبر في إنتاج ثقافة استراتيجيّة معيّنة. فنسأل: «هل تصادُم الثقافة الاستراتيجية الأميركيّة مع الثقافة الاستراتيجية الروسيّة، هو نفسه كالتصادم بين روسيا والبرازيل مثلاً؟»، إذا الجغرافيا تُحدّد الثقافة الاستراتيجية، حتى لها تأثير على العلاقات الدولية بين الأمم. وهنا يتظهّر لنا دور المفكّرين، ورجال السياسة الفذّين الذين يضعون الإطار الفكريّ لهذه الثقافة، التي بدورها تُنتج العقيدة الاستراتيجية لبلد ما.
لكن لماذا الحديث الآن عن الثقافة الاستراتيجية في خضمّ حرب دمويّة تدور في أوكرانيا؟ الجواب هو في الثقافة الاستراتيجية الروسيّة. فماذا عنها؟
3 أحداث كبرى، وتقريباً متشابهة، تكرّرت بسبب الثقافة الاستراتيجية الروسيّة، لكن بتواريخ مختلفة، ومع 3 أنظمة عالمية، اثنان منها في القرن العشرين، والثالث في القرن الواحد والعشرين، وهي...
أوّلاً؛ عام 1939 هاجم جوزيف ستالين فنلندا، لأنها رفضت تغيير الحدود مع الاتحاد السوفياتي. أو بالأحرى، أراد ستالين ضمّها. سُمّيت هذه الحرب «حرب الشتاء». هدف ستالين إلى تغيير النظام في فنلندا. لم يكن الجيش الروسي موفّقاً في هذه الحرب، فكانت خسائره كبيرة جدّاً، 130 ألف جندي. وهذا ما كتبت عنه كاترين ميريدال في كتابها المهم «حروب إيفان». والجدير ذكره هنا، أن متطوّعين، مرتزقة بلغة اليوم، قاتلوا إلى جانب الجيش الفنلندي. انتهت هذه الحرب بعد 3 أشهر ونصف شهر. في هذه الحرب، ابتكر الفنلنديون «كوكتيلاً» عُرف لاحقاً بـ«كوكتيل مولوتوف» تهكماً على وزير خارجية الاتحاد السوفياتي فياتشسلاف مولوتوف.
ثانياً؛ عام 1968، حاول رئيس تشيكوسلوفاكيا ألكسندر دوبتشيك، لبرلة بلاده (من الليبرالية). فتم إنزال نحو 200 ألف جندي من حلف وارسو لقمع التغيير، لكن تحت شعار «التحرير». فكان ربيع براغ. الجدير ذكره أن جيش الحلف بدأ بإنزال المظلّيين في مطار قريب من براغ. هذا المطار سُمّي لاحقاً باسم «فاكليف هافيل» الرئيس السابق لجمهوريّة التشيك. لكن الغريب في الأمر هو اعتقال دوبتشيك، وأخذه عنوة إلى موسكو، وإفهامه بالتخليّ عن الإصلاحات، ومن ثم إعادته إلى الرئاسة، وكأن شيئاً لم يحدث. بعد هذه الحادثة، أصدر ليونيد بريجنيف عقيدته التي تقول: «يحق التدخّل عسكرياً بواسطة قوات حلف وارسو في أي دولة في المنظومة الشرقية، إذا حاولت هذه الدولة ضرب المنظومة السوفياتيّة».
استمرّ ربيع براغ 7 أشهر وأسبوعين.
ثالثاً؛ عام 2022. في القرن الـ21 أعلن الرئيس بوتين الحرب على أوكرانيا. يريد تغيير النظام فيها بعد أن وصفه بالنازيّ. وبعد أن اعتبر أنه يستردّ إلى روسيا الأم ما أُخذ منها عنوة أو ما أُعطي للشعب الأوكراني خطأً من قبل فلاديمير لينين في العام 1920 (استقلال أوكرانيا)، كتب وحلّل وأعاد كتابة قصص التاريخ ليُبرّر فعلته، وليس بالضرورة أن يكون مُحقّاً في اعتقاده.
لكن الفارق بين الحادثتين أعلاه، والحرب على أوكرانيا، كبير جّداً، والأخطر منذ الحرب العالميّة الثانية. لكن كيف؟
- عام 1939 والحرب على فنلندا، لم يكن النظام العالمي الحالي قد وُلد بعد. ولم تكن أميركا قد انتصرت مع الاتحاد السوفياتي على هتلر. ولم تكن أميركا قد استعملت «النووي» ضد اليابان. ولم يكن الاتحاد السوفياتي قد تشكّل مع ستالين جغرافياً. كانت الحرب العالميّة الثانية المسار الدموي الذي أنتج النظام العالمي الذي نعيش فيه.
- عام 1968 مع «ربيع براغ»، كان النظام العالمي الثنائي قد تشكّل وبدأت الحرب الباردة. حدث «ربيع براغ»، أثّر في التركيبة العالمية، وساهم في مزيد من تآكل النظام، لكنه لم يضرب النظام العالميّ.
- لكن الحرب على أوكرانيا قد تكون شرارة التغيير للنظام القديم والسعي لتكوين نظام جديد. وعند تغيير الأمم، احفظ رأسك. فالحرب لا تزال في شهرها الأوّل، فماذا ينتظر العالم؟
روسيا من فنلندا و«ربيع براغ» إلى أوكرانيا
روسيا من فنلندا و«ربيع براغ» إلى أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة