هل حقاً نعيشُ زمن علمٍ بلا ثقافة؟

في نقد أطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري

ميشيل هنري
ميشيل هنري
TT

هل حقاً نعيشُ زمن علمٍ بلا ثقافة؟

ميشيل هنري
ميشيل هنري

نُشِرَتْ مطلع العام 2022 نسخة مترجمة من كتابٍ ألّفه الفيلسوف والروائي الفرنسي ميشيل هنري Henry Michel عام 1987. وصدر وقتذاك بعنوان «الهمجية La Barbarie». تُرجِم الكتاب من الفرنسية إلى الإنجليزية عام 2012، ثم جاءت ترجمته العربية عام 2022 بالعنوان ذاته مع إضافة عنوان ثانوي هو «زمنُ علمٍ بلا ثقافة»، في إشارة تأكيدية إلى الأطروحة الجوهرية للكتاب.
عُرِف عن ميشيل هنري (1922 – 2002) أنه فيلسوف فرنسي تخصّص في مبحث الفلسفة الظواهرية Phenomenology، كما كتب 5 روايات وكتباً كثيرة تناولت حقولاً معرفية شتى. منها؛ السياسة والاقتصاد واللاهوت المسيحي والتحليل النفسي والثقافة. درّس هنري في جامعات عدّة في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة واليابان.
تقومُ أطروحة هنري على تأكيد راديكالي للرابطة بين الهمجية الثقافية السائدة من جانب، والعلم والتقنية من جانب مقابل. وهو يرى أنّ العلم الحديث والتقنية الحديثة يعملان بالضد من التطوّر الذاتي لخصيصة إنسانية، أسماها «الحساسية الفردية»، التي رأى فيها دافعاً للارتقاء بالحياة الفردية النقية. يمضي هنري في تطوير فكرته بشأن هذا التعارض الحتمي - من وجهة نظره - بين العلم والحساسية الفردية؛ فيؤكّدُ في مؤلفاته قائلاً إن العلم يتأسّسُ على الحقائق الكلية الموضوعية؛ وهو ما يقودُ إلى تهميش حساسية الفرد تجاه العالم والحياة. ثمة عنصر ميتافيزيقي جوهري تقوم عليه الحساسية الفلسفية للأفراد، والعلم يعمل على تقويض هذا العنصر. يستدركُ هنري قائلاً إنه ليس ثمة من خطأ أساسي أو ضروري في مفهوم العلم أو الممارسة والتطبيقات العلمية طالما ظلّ الأمر محصوراً في نطاق دراسة الطبيعة وتطويعها للأغراض العملية؛ لكن إذا ما سعى العلم لتقويض أشكال الثقافة التقليدية (الفن، الأخلاقيات، الدين) فعندئذ لا بد أن نتوقّع مَقْدَمَ معضلات إشكالية خطيرة. يرى هنري في التطبيقات التقنية مخاطر أعظم من تلك التي يمكن أن تأتي مع الممارسة العلمية؛ فهو يؤكّدُ أن التطويرات التقنية العمياء باتت تتطوّرُ بأشكال متوحّشة من غير الانتباه إلى مفاعيلها الخطيرة المؤثرة على الحياة البشرية.
يرى هنري في العلم شكلاً من الثقافة التي تنكرُ فيها الحياة ذاتها ولا تعود لها أي قيمة مشخّصة؛ بل يمضي حدّ توصيف العلم بأنه ثقافة تمثّلُ نفياً عملياً للحياة، وهذا أمرٌ يدفعُ حثيثاً باتجاه صناعة آيديولوجيا علمية (بمعنى أصولية علمية) تتعارض مع كلّ أشكال المعارف البشرية السابقة وبخاصة في الحقلين الإنساني والاجتماعي. وهو يعتقد أنّ هذه الأصولية العلمية قد تغلغلت في كلّ المفاصل المؤسساتية للمجتمعات الحديثة (وبخاصة في الجامعات ومراكز صناعة الثقافة)، وراحت هذه الأصولية تستبعدُ الحياة البشرية (في أبعادها القيمية والثقافية وليس البيولوجية) من ميادين البحث المعمّق.
يتناول هنري في أطروحته التي يضمُّها كتابه أعلاه (الهمجية) تفاصيل محدّدة عن علاقة العلم بالمرئي؛ فهو يرى أنّ العلم منذ عصر الثورة الغاليلية التي أسّست نشأة العلم الحديث يتعاملُ مع الحقائق المرئية المشخّصة بحيثيات مادية، وأهمل تلك الحقائق الفردية الجوّانية المتعالية (الترانسندنتالية) التي تمثلُ أعالي الثقافة البشرية وتجلياتها الأسمى. عملت الفلسفة الديكارتية على تعميق هذه الحقيقة بمنهجها الاختزالي الميكانيكي، وجاءت التطوّرات العلمية اللاحقة مكرّسة لتلك المنهجية الاختزالية المادية عقب الفتوحات العلمية الكبرى منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أيامنا الحالية. يمضي هنري في أطروحته فيتناول موضوعات مثل؛ الثقافة والهمجية، العلمُ منظوراً إليه من وجهة نظر الفن، العلم وحيداً؛ التقنية، مرضُ الحياة المعاصرة، آيديولوجيات الهمجية، ممارسات الهمجية، تحطيم الجامعة، ثمّ ينهي أطروحته بخلاصة مكثّفة مبشّرة بأن العلم يقودنا إلى عالم سفلي ديستوبي، سينتهي إلى مآلات خطيرة.
قد يجد كثيرون راحة لذيذة في قراءة مثل هذه الأطروحات، وبخاصة أنها صدرت عن فيلسوف فرنسي ذائع الشهرة. تكمنُ اللذة في أنها توفّرُ لبعض الأفراد شكلاً من ميكانيكية دفاعية سيكولوجية يشعرُ معها البعضُ منّا بالسعادة عندما يرون العالم ينزلق نحو قيعان مظلمة، كما أنّ مثل هذه الأطروحات تعفيهم من مشقة التفكّر المجتهد في حال العالم والبشر، وبدلاً من ذلك يكرّسون عناصر الارتكان إلى ما هم عليه من خدر فكري وتخاذل في الفعل الحسي، حتى لو كان على أضيق النطاقات الفردية ولم يتخذ سمة الفعل الجمعي المنظّم.
أقدّمُ أدناه بعضاً من النقودات التي أراها وجيهة ومسوّغة تجاه أطروحة هنري...
أولاً؛ يميلُ هنري كثيراً إلى الموضوعات اللاهوتية في كتاباته، وهذا ما تشي به عناوين عدد من كتبه التي تنطوي على مضامين لاهوتية مسيحية مكثّفة، ومعروفٌ أنّ فلاسفة اللاهوت يرون الأمور من وجهة نظر طهرانية خالصة، وهم في هذا يتغافلون عن حقيقة أنّ العالم كينونة دنيوية لا تصحُّ معها الطهرانيات اللاهوتية التي تعزّز الرؤى القائمة على المطلقات الأخلاقية الكلية.
ثانياً؛ ينطوي العلمُ والممارسة العلمية على جانبين متلازمين؛ الأخلاقيات العلمية والتطبيقات العملية، والأمر في هذا ينقادُ لما كتبه (مونتين) منذ قرون عدّة، العلمُ حِلْيَة عظيمة، وهو أداة هائلة المنفعة. العلمُ له أخلاقياته وليس عنصراً محايداً في الحياة البشرية، وكثيرون من العلماء كانوا فلاسفة وصانعي سياسات ارتقت بأحوال البشر، مثلما يخبرنا عالم السيكولوجيا الإدراكية ستيفن بينكر؛ وعليه فإنّ النظر إلى العلم من ثقب الرؤية الغاليلية والفلسفة الديكارتية الاختزالية إنما يمثلُ اختزالاً للقيم التي ترتقي مع ارتقاء الممارسات العلمية.
ثالثاً؛ من اليسير أن نسِم عصرنا بأنه عصرُ التفاهة. ليس هذا بالأمر الجديد؛ فقد حصل في عصور سابقة لنا ومع كلّ انعطافة علمية أو تقنية. لماذا؟ لأنّ كلّ ثورة علمية أو تقنية تستجلبُ معها أنماطاً فكرية وسلوكية مستحدثة، وفي الوقت ذاته تعملُ على إزاحة أنماط قديمة، ولا تجد هذه الفاعلية من «الإحلال - الإزاحة» قبولاً عند كثيرين لأسباب كثيرة، منها أنّ تعلّم الأنماط الفكرية الجديدة يقتضي تدريباً عملياً وسيكولوجياً قد لا يريد البعض تحمّل عبئه، وقد ينطوي الأمر على محض شعور بحنين نوستالجي للأنماط الثقافية القديمة والشعور بالضيق والاكتئاب مع الممارسات الجديدة. كثيرون – مثلاً – ناهضوا فكرة تحويل الجامعة إلى ميدان للتأهيل التقني، وأرادوا الإبقاء على نمط التعليم الذي يؤكّدُ على الكلاسيكيات واللغات القديمة، وثمة أمثلة كثيرة في تأريخ العلم والتقنية على أشكال المناهضة ومقاومة التغيير على صعيد البنى الفكرية والاجتماعية والتعليمية.
رابعاً؛ كيف يرى هنري العلماء المعاصرين؟ هل يراهم كائنات روبوتية تمتلك عقولاً احتسابية لا تعرفُ شيئاً في هذه الحياة سوى البحث عن حلول لمعادلة شرودنغر أو تطوير أفكار غير مسبوقة في الحاسوب الكمومي؟ هل يحسبُ أنهم لا شأن لهم بكلّ ما يمتُّ إلى الدين أو الاقتصاد أو المؤثرات المجتمعية بصلة؟ كيف سيعلّق هنري لو قرأ الفقرة التالية التي كتبها بول ديفيز Paul Davies، أستاذ الفيزياء النظرية، الذي لقيت كتبه شهرة ذائعة على مستوى العالم: «... فَمِنْ بين العلماء غير المتدينين بالمعنى التقليدي للكلمة، نجد كثيرين يعترفون بشعور غامض بوجود (شيء ما) خلف سطح حقيقة الحياة اليومية، معنى ما خلف هذا الوجود؛ فثمة إحساس طاغٍ لدى أوساط أكثر العلماء راديكالية يجوز لنا أن نسميه؛ تبجيل الطبيعة، افتتانٌ واحترامٌ لجمالها وبُعْد غورها حتى حماقتها، وهذا الشعور مماثل للرهبة والخشوع الديني...».
ليس بول ديفيز وحيداً في هذه المقاربة، بل له نظراء كثيرون، ولا أحسبُ أنّ هنري سيرى فيهم تلاميذ خلّصاً للمنهج الغاليلي والفلسفة الديكارتية الاختزالية الصارمة.
خامساً؛ ثمة تغافل قصدي أو عابر للاستحالات التي طرأت على المفهوم السوسيولوجي للثقافة؛ فقد نرى في الجيل الجديد، جيل العصر الرقمي والثورة المعلوماتية، مثالاً على تهافت الثقافة وانحسارها، لكنّ حقيقة ما يحصلُ هو تطورٌ طبيعي في شكل الثقافة وأنماط التعاطي المجتمعي معها. مثلاً، لا بد أنّ شيوع الخوارزميات سيلقي بظلاله على طبيعة التعامل مع البيانات الهائلة التي يحفل بها عالمنا، ولم يعُدْ مناسباً التعاملُ مع هذه البيانات بذات الوسائل التحليلية القديمة. إنّ انكفاء القدرات التحليلية الفردية أمام سطوة الخوارزميات والبيانات الكبيرة لا يعني شيوع تفاهة ثقافية بأي شكل من الأشكال.
سادساً؛ لا بد أن «الديمقراطية» المعلوماتية التي جاءت مع شيوع وسائل التواصل الاجتماعي كشفت عن كثير من التفاهات والسخافات، مثلما قدّمت منصّات كثيرة رصينة للتعلّم الذاتي الجاد، وهي منصات كانت أقرب إلى حلم منذ عهد قريب. صار الخيار واضحاً لدى كلّ فرد، إن شئت التعلّم وتوظيف الزمن في بناء قدرات فكرية ومعرفية فعّالة، فالأمر موكول إليك؛ أما إذا شئت إضاعة الوقت فلك ذلك أيضاً. أنت من تصنعُ شأنك بذاتك.
* * * * *
ثمّة كثير من التسويغات التي تعاكس أطروحة الفيلسوف هنري؛ لكنّ هذا ليس تَعِلّة للتفلّت من قراءة أطروحته التي سطّرها في كتابه «الهمجية... زمن علمٍ بلا ثقافة» الذي يقدّم أطروحة تحتمل كثيراً من الجهد الفكري والمناقشة المستفيضة حتى بعد 20 سنة من رحيل صاحبها.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم