باحثة ألمانية: لا تقلدوا الموضة الغربية ولا تستوردوها

باربارا فينكن تستقصي أصولها الغربية والأفكار التي نبتت منها

باحثة ألمانية: لا تقلدوا الموضة الغربية ولا تستوردوها
TT

باحثة ألمانية: لا تقلدوا الموضة الغربية ولا تستوردوها

باحثة ألمانية: لا تقلدوا الموضة الغربية ولا تستوردوها

تقدم الباحثة الألمانية باربارا فينكن التي تعمل أستاذة للأدب وعلم فقه اللغة في جامعة لودفيج ماكسيميليان بميونيخ في كتابها «عالم الأزياء... رحلة في تاريخ الموضة» دراسة معمقة عن أصول الموضات الغربية وتطورها والأفكار الأصلية التي نبتت منها، والتراث الذي استعارته واستفادت منه في تقديم ملابس جديدة. وتستعرض فينكن الظروف والملابسات الاجتماعية والسياسية التي أحدثت تغييرات في الأزياء، كما تناقش ملاحظات المفكرين والفلاسفة عليها، والمحاولات المضنية التي بذلوها من أجل إصلاحها لتكون متوافقة مع الحداثة الغربية، كما تقوم المؤلفة باستعراض دور المصممين اليابانيين الثلاثة الكبار «إيساي مياكاي» و«راي كاواكوبو» و«يودي ياماموتو» في إحداث ثورة جذرية في المفهوم الغربي للأزياء.
تشير الباحثة في الكتاب، الذي قسمته على 7 أقسام، وقدم نسخته العربية الكاتب أيمن شرف وصدر عن دار الترجمان بمصر، إلى أن مسألة الملابس الغربية، وليس الموضات فقط، تبدو أعمق بكثير مما يتصور البعض، لذا دعت كل من يتلقون أو يستوردون منتجات صادرة عن المفاهيم الغربية، باعتبارها الأفضل والأقيم، إلى أن يعيدوا النظر في موقفهم الأولي الساذج، مشيرة إلى أنهم يرتدون ملابسهم دون تدقيق في مدى مناسبتها لأجسادهم، ودون تأمل نقدي ينتقي ويختار ويستفيد ويستبعد ويضيف إلى منتجات الآخرين، كما أنهم ينقلون أفكارها ويستهلكونها دونما بحث أو استقصاء.

إثارة أنثوية
تذكر فينكن أن المفكرين والكتاب مثل بيير بورديو وإميل زولا وفريدريش نيتشه وأدولف لوس وجون كارل فلويجل وإدوارد فوكس وثورستاين فيبلين وحتى جورج زيميل، دعوا إلى ضرورة إصلاح الموضة الغربية وطالب بعضهم بالتخلص منها، وقد وصفوها، بعد أن استبعد مصممو الأزياء «الرجالَ» منها، بأنها صارت رذيلة أنثوية مخنثة ومدمرة، وذكر بعضهم أنها تُسْتَمدُ من العلاقات بين الرجل والمرأة في القرون الوسطى، كما رأوها نمطا من التشكيل الخارجي الذي يصنف المرأة في نهاية المطاف باعتبارها جاريةً أو جسدًا محضاً يتعين عليها أن تختبر قدرة أسيادها على الإنفاق، بعد أن جعلها مصممو الأزياء كائنا غير قادر على التصرف، وقدموها في صورة امرأة رخيصة.
وذكرت المؤلفة أن كل الدعوات التي صدرت من المفكرين ومعها محاولات عدد من مصممي الأزياء لم تنجح في تطوير ملابس المرأة نحو موضة غائية عقلانية تدمج جسد المرأة في حالة جماعية أو تحدث نوعاً من التوحيد مثلما حدث في أزياء الرجال من خلال البدلة، كما لم تظهر موضة حداثية كان توقعها مفكرون مثل نيتشه عقب «تحرر المرأة» الغربية المفترض، وظلت حتى اليوم ترتدي ملابسها من منطلق الجاذبية الجنسية. وأشارت فينكن إلى أن العاطلين والمتأنقين ومعهم النساء ما زالوا يعلقون كل قيمة في العالم على ملابسهم سريعة التغير، والتي تهيمن عليها مفارقات تاريخية من كل شكل ونوع، ويبدو بعد الإثارة فيها جليا، بعد ما فشلوا في تحقيق النموذج المثالي الأوروبي الذي دعا إليه نيتشه عن الرجل المثقف الذي يظهر في ملابسه أن لديه ما هو أهم من الانشغال بما يرتديه، وأنه معني بالتوافق بشكل صحيح مع التقاليد والعُرف، وهكذا ظلت الأزياء نطاقا تهيمن عليه الأنثوية.

سلطة التسليع
ولفتت فينكن إلى أن سلطة التسليع والتشيؤ في الرأسمالية المعاصرة، التي تحول كل شيء لمنتج قابل للاستهلاك والبيع والتسويق وتحقيق الربح، استعمرت المرأة الأوروبية الغربية من داخلها، واستغلت تصورها عن التحرر، بغض النظر عن مدى صحته من عدمه، لتروج وتنشئ صناعات هائلة تقوم بالأساس على رغباتها، ورغبات الرجل المرتبطة بها أيضا، وعلى مفاهيم صنع الرغبة في الاستهلاك، دون أن تهتم بتلبية الاحتياجات الطبيعية العقلانية، وقد خلقت ما سماه إميل زولا «جنة النساء» في روايته التي حملت الاسم نفسه، «حيث المتاجر الكبيرة أو معابد الاستهلاك، وحيث تصبح الأنوثة سلعة وتصبح السلعة أنثوية، وحيث لا شيء أهم من الفُرجة على الأنوثة».
ثم تطرقت المؤلفة إلى اقتحام ثلاثة من المصممين اليابانيين معقل الموضة الغربية محملين بنظرة نقدية من الخارج وتراث مغاير لمعايير اللبس أحدث ثورة في عالم الأزياء الغربي، وأصبح ما بعد أول عرض لليابانية «راي كواكوبو» «كوم دي جارسون» في باريس عام 1981 مختلفاً عما قبله، وقدم الثلاثة الكبار «مياكاي» و«كاواكوبو» و«ياماموتو» رؤى تتقاطع مع التصورات الجمالية والإثارة في الغرب، بدت هجومية أحيانا وساخرة في معظم الأحيان، وجعلوا من التاريخ المجنون للأزياء الغربية، ومعكوس مفاهيمها «الذكورة والأنوثة والأناقة والإثارة الجنسية» مادة خاما لها، وقد عرضوها بسلاسة وخفة من خلال تجاوزها أو السخرية منها، وسعوا إلى تغيير مرتكزاتها التاريخية بشكل جذري.
ولم تتوقف فينكن في الكتاب عند هذا الحد، بل ألقت الضوء على دور ماري أنطوانيت والأمير الفرنسي لويس فيليب دي أورليون وساقطات الطبقة العليا الفرنسيات في القرن الـ19، كما تتبعت صورة المرأة في التراث الكلاسيكي الأوروبي اليوناني الروماني، ورؤية الغرب للشرق، ثم الثورة الفرنسية كنقطة تحول اجتماعي وسياسي لصالح البورجوازية على حساب النبلاء والأرستقراطيين، وغيرها من العناصر الفاعلة في رسم الصورة النهائية لعالم الأزياء الغربي.

صورة بصرية
وأشارت الباحثة في فصل يحمل عنوان «الأزياء تسير على الأثر: تاريخ مختلف قليلا للموضة»، إلى التطور الإيجابي الذي حدث مؤخرا في الموضة النسائية الغربية الحديثة، محددة سمتين أساسيتين: الأولى هي الابتعاد عن «الأنوثة»، حيث صار تجاوز معاييرها هو جوهر الموضة، أما الثانية فتركزت في الحرص على أن تبقى المرأة «كائنا جنسيا خارج جماعة الرجال»، ولم تعد المعالم الجسمانية المميزة للفرد تُفهم في سياق تجليها المباشر كعنوان هوية في نظام أعلى، بل تم تجاوزها وتهذيبها بحيث ترتقي إلى مستوى كيان جسدي جمعي.
وفي الوقت نفسه أبرزت الحداثة حالة استدعت التغلب على «الثنائية الشكلية» للجنسين، وكانت الكلمة السحرية الدالة على ذلك المعنى هي «الجنس الموحد»، وكان الشرط الأساسي لتحقيق المساواة بين الجنسين في إطار تلك الثنائية الشكلية هو التخلي عن محددات وعناصر «التخنيث الأنثوي» والتغلب عليها، وهو ما حدث عملياً من خلال إدخال الأزياء الرجالية في الموضة النسائية، ويعتبر هذا النقل هو المبدأ المفصلي في موضة الحداثة، والذي ينبغي أن يُطلق عليها بحق «ارتداء ملابس الجنس الآخر»، وهكذا انتقلت موضة الرجال بالشكل الذي تطورت إليه في القرن 18 عند طبقة النبلاء الإنجليز إلى الموضة النسائية في العصر الحديث.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.