ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

التكنوقراطي المنفتح و«صلة مجلس النواب مع الخارج»

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني
TT

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

ياسين جابر... عزوف مشرّع الإصلاح في البرلمان اللبناني

يغادر النائب والوزير السابق ياسين جابر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان اللبناني، ورئيس لجنة تطبيق القوانين فيه، الندوة البرلمانية بإرادته.
الاقتصادي والتكنوقراطي المنفتح يطوي صفحة امتدت لـ27 سنة في العمل الحكومي والنيابي، كرسته «عراباً» لتشريع «القوانين الإصلاحية»، و«صلة الوصل» بين لبنان والخارج، مرة عبر لجان الصداقة الأوروبية والبريطانية واليابانية، ومرة أخرى عبر تجمع نيابي لـ«ترميم» علاقات لبنان مع الكونغرس الأميركي. تجربتان في أبرز ملفين دقيقين على عاتق البرلمان، الملف الخارجي والملف المالي والاقتصادي، ويغادرهما جابر الآن محبطاً لعلمه بأن إرادة الإصلاح ليست فاعلة، وتجنباً لتكرار الانتقادات التي طالته، مع آخرين، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
في العام 1995 تلقّى ياسين جابر، رجل الأعمال اللبناني المقيم في لندن اتصالات من لبنان عرضت عليه المشاركة في حكومة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ورُشّح، بالذات، لأن يحمل فيها حقيبة «الاقتصاد والتجارة». عند تلك النقطة اتخذ جابر قراراً بالعودة إلى بيروت التي هجرها في العام 1979 إلى بريطانيا، وافتتح أعماله فيها.
كانت بيروت في ذلك الوقت تشهد صعوداً مدوّياً على صعيد إعادة الإعمار والإنماء. ولقد أغرى ذلك الصعود، كثيرين من اللبنانيين المهاجرين ليكونوا شركاء في هذه النهضة. وكان جابر واحداً منهم، كيف لا وهو يمثل جزءاً من مجتمع رجال الأعمال اللبنانيين الذين انتقلوا إلى العاصمة البريطانية إبان فترة الحرب، حيث أسهم خلال إقامته فيها بأواخر الثمانينات بتأسيس فرع «جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت» في لندن، وترأس الفرع لثلاث سنوات. غير أن معظم أولئك عادوا بعد نهاية الحرب من أجل للمشاركة في مسيرة النهوض السياسي والاقتصادي لبلد عاين الخراب والدمار، و«حاز فرصة» للنهوض بعد العام 1992.
مثّلت تلك الحقيبة التي حملها ياسين جابر في الحكومة، مستهل مسيرته في العمل السياسي، أتبعها بالترشح إلى الانتخابات عن المقعد الشيعي في النبطية (جنوب لبنان) وبات عضواً في كتلة «التنمية والتحرير» التي يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري. إلا أن هذا الدخول إلى البرلمان، لم يحجب الهدف الأساسي من دعوته إلى العمل السياسي، وهو المشاركة في حكومتين ترأسهما الحريري وزيراً للاقتصاد. إذ تلاقت دراسته كخريج في إدارة الأعمال من الجامعة الأميركية في بيروت، وخبرته الواسعة في قطاع المال والأعمال في بريطانيا على مدى أكثر من 15 سنة، مع الرؤية السياسية للنهوض بلبنان في تلك الفترة. واستقر على رأس الوزارة حتى خروج الحريري من الحكومة للمرة الأولى في العام 1998 في عهد الرئيس الأسبق إميل لحود. وتحوّل جابر بعد ذلك إلى التفرغ للعمل البرلماني.

مشرّع لقوانين إصلاحية
وعلى الصعيد البرلماني، بدأ ياسين جابر مسيرته في لجنة المال والموازنة النيابية التي بقي فيها لمدة 24 سنة. ومنذ ذلك الوقت، يقول جابر «كنتُ جزءاً من النشاط التشريعي الهادف للعبور إلى الإصلاح المالي والاقتصادي». يصفه عارفوه بأنه «مهندس القوانين الإصلاحية» التي بدأت تتبلور بعد مؤتمر «باريس1»، حيث أصرّ المجتمع الدولي على إقرار القوانين الإصلاحية، وتنفيذها، وليس أولها إقرار «الهيئات الناظمة» لقطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني ولاحقاً النفط، كما أقر البرلمان في تلك الفترة قوانين إصلاحية أخرى مثل السوق المفتوحة لإلغاء الوكالات الحصرية.
جابر قال لـ«الشرق الأوسط» متذكراً وشارحاً «في تلك الفترة، كان الوضع صعباً. إذ أقيم مؤتمر (باريس1) لمساعدة لبنان بدفع من الرئيس الحريري، وعلى أثره، طالب المجتمع الدولي لبنان بإقرار القوانين الإصلاحية التي بدأنا بتشريعها في العام 2002. أقررنا حزمة القوانين الإصلاحية المطلوبة، لكن المؤسف أنه بعد عشرين سنة، لم تطبق هذه القوانين». ومن ثم، استتبعت بحزمة جديدة على مدار السنوات، منعها «قانون الأسواق المالية الحديثة» الذي أقرّ في العام 2011، وأتاح للقطاع الخاص العمل بالبورصات بمعزل عن الدولة، وتلاه التمهيد لقانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وصولاً في العام 2021 إلى إقرار «قانون الشراء العام» الذي «لم يكن أحد ليصدق بأنه يمكن أن يُقرّ». ولكن، بالفعل، جرى إقراره في العام الماضي، وكان يفترض أن يبدأ العمل به في يوليو (تموز) الفائت، إلا أنه حتى الآن لم يدخل حيّز التنفيذ. وهنا يُشار إلى أن جابر كان قد تقدم باقتراح القانون إلى المجلس النيابي، وأُعدّ هذا القانون في «معهد باسل فليحان» بالتعاون مع «البنك الدولي» و«الاتحاد الأوروبي» و«الوكالة الفرنسية للتنمية» و«وستمنستر فاوندايشن».

قوانين لم تُنفّذ
هذه المسيرة في التشريع، والجهود في إقرار القوانين التي وضع جابر لبنة قسماً منها، لم تثمر أو تنفذ، شأنها شأن أكثر من 72 قانوناً جرى إقرارها في البرلمان على مدى السنوات السابقة ولم تُنفذ رغم الدفع من قبله، وهو رئيس لجنة تطبيق القوانين.
هذا الواقع يختصره جابر بالقول، إن المؤسف والدافع لليأس في لبنان أنه «حتى اليوم ليس هناك قرار سياسي بالإصلاح». ثم يوضح «في ملف الكهرباء، لم يتخذ أي قرار بالإصلاح، رغم صراخنا منذ ثماني سنوات عبر الإعلام وفي داخل المؤسسات... كذلك حين تم إقرار سلسلة الرتب الرواتب التي عارضناها، بالنظر إلى أنه يستحيل إقرار سلسلة رواتب جديدة في ظل عجز في الموازنة... حذّرنا ورفعنا الصوت، لكن لا رأي لمن لا يُطاع».

الاقتصاد والشؤون الخارجية
نشاط جابر في المجلس النيابي تركز في أهم محورين: الشأن الخارجي، والمحور الاقتصادي – المالي. وتجربة جابر وزيراً للاقتصاد في عقد التسعينات، ولاحقاً وزيراً للأشغال العام والنقل في العام 2004، لم تقتصر على رفده بخبرة تشريعية في إعداد القوانين الإصلاحية. فهذه التجربة، إلى جانب مرافقته لرئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في أسفاره الخارجية لإنقاذ الوضع اللبناني، مهّدت له لتشكيل مروَحة واسعة من العلاقات الخارجية، وفتحت له أبواب التعرف إلى المجتمع الدولي، استفاد منها في وقت لاحق حين زادت الضغوط الخارجية السياسية على لبنان.
أضف إلى ما سبق، أنه خلال تجربة جابر النيابية، كلفه رئيس مجلس النواب نبيه برّي - الذي هو أيضاً رئيس كتلته البرلمانية - ملفات خارجية كثيرة، بينها «مجموعة الصداقة مع لبنان في مجلسي العموم واللوردات البريطانيين»، كما ترأس «لجنة الصداقة اللبنانية - الأوروبية»، إلى جانب رئاسة «لجنة الصداقة البرلمانية اللبنانية - اليابانية» لنحو عشرين سنة. وهذا بجانب تمثيله البرلمان اللبناني في الجمعية اللبنانية - اليورومتوسطية حتى العام 2011.
بعدها، في فترة الأزمة السورية، توترت العلاقة بين لبنان والكونغرس الأميركي، على ضوء تجاذبات في السياسة الخارجية. وكان الاتجاه الأساسي لدى لبنان شرح الموقف اللبناني وترميم العلاقات مع واشنطن على مختلف المستويات. عندها، وخلال العام 2016، طلب رئيس المجلس النيابي من جابر ومجموعة أخرى من الزملاء تشكيل وفد كُلّف تصحيح تلك العلاقات، وإنشاء تجمع يترأسه جابر نظم رحلات متتالية إلى واشنطن، حيث عقدت لقاءات مع ممثلين في الكونغرس والمؤسسات الدولية... بينها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لشرح الموقف اللبناني وإعادة أحياء العلاقات.
يقول جابر، الذي بات منذ العام 2018، رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، إن اختياره من قِبل برّي لهذه المهام، جاء على خلفية تجربته مع الحريري، وقبلها لوجوده لفترة غير قصيرة في بريطانيا، حيث اكتسب قدرات التواصل مع الخارج، ومهارات الحوار والمباحثات. وفي هذا السياق، يشدد على أنه كان يمثل كتلة «التنمية والتحرير» والمجلس النيابي، وانخرط في هذا النشاط بتكليف ورعاية الرئيس نبيه برّي. ثم يوضح «دخلنا إلى الكونغرس الأميركي وطرحنا وجهة نظر لبنان بالظروف السياسية المحلية والإقليمية، وبالفعل أعطى ذلك الحراك مفعولاً إيجابياً لفترة».

إرادة الخروج... وإرادة سياسية
اليوم، يترك ياسين جابر البرلمان بإرادته. لقد قرر العزوف عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة، من غير أن يترك العمل السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يمارسه منذ سنوات طويلة، عبر مركز ثقافي افتتحه في مدينته النبطية، وغيره من المؤسسات.
أكثر من هذا، لم يخرج من البرلمان بسبب خلافات. بل اتخذ قراره الشخصي، على ضوء شعوره بالحسرة. وهو هنا يسأل بضيق «هل يُعقل أن هناك عشرات القوانين التي حفرناها بالصخر وكافحنا من أجل إقرارها، لم تصدر المراسيم التنفيذية لها، وهذا مع أن بعضها موجود منذ عشرين سنة، مثل إقرار الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء؟».
بعدها، يعود جابر بالذاكرة إلى الوراء، ليتحدث عن تجربة لبنان اليوم. يقول مسترجعاً شريط الأيام والسنين «حين وصلت إلى لندن في العام 1979، كانت بريطانيا تعيش حالة اقتصادية صعبة استلزمت منها توقيع برنامج مع (صندوق النقد الدولي)، مثلنا تماماً في هذا الوقت. يومذاك اتخذ الساسة البريطانيون قراراً بالإصلاح، وأجريت انتخابات عامة فاز فيها حزب المحافظين، وجاءت مارغريت ثاتشر إلى رئاسة الحكومة البريطانية... ونهضت بالبلاد حتى باتت واحدة من أكبر الاقتصاديات في القارة الأوروبية». ويتابع «... هذه التجربة بعثت فينا الأمل في ذلك الوقت، ولا تزال؛ لأنه متى توافرت الإرادة السياسية، سنكون قادرين على التغيير. لكن للأسف، هذه الإرادة غير موجودة. مشكلتنا في غياب الإرادة لا في النظام».

تضحية وحسرة
حسرة جابر اليوم، تنطلق من كونه مارس العمل السياسي 27 سنة، أهمل خلالها أعماله ونشاطاته الخاصة لصالح الشأن العام... ومع هذا، بعد 27 سنة «تعرّضت للانتقادات في 17 أكتوبر 2019، وطالتنا الشتائم مع الآخرين، وهذا أمر يدعو للأسف». ويستطرد فيقول «حين قررنا نحن خريجي الجامعة الأميركية العودة إلى لبنان والانخراط في العمل السياسي، كان يدفعنا الأمل الكبير. من جهتي، ضحيت من أجل الإصلاح والنهوض في البلد، وكنت مشرّعاً أعمل على هذا الصعيد. إلا أن ما يحزنني أننا وصلنا إلى طريق مسدودة، ولم نتمكن من تخليص لبنان من أزماته. لقد كانت أحلامنا كبيرة، لكنها اصطدمت بالكثير من العوامل التي حالت دون ريادة لبنان».
جابر كان قد أكد في بيان عزوفه عن الترشح للانتخابات المقبلة المقرر يوم 15 مايو (أيار) المقبل، أن الخروج من العمل النيابي «لا يعني الخروج من الحياة السياسية والعمل الاجتماعي»، متعهداً الاستمرار في خدمة الناس وخدمة لبنان. وخلال اللقاء مع «الشرق الأوسط» جدد القول، إنه موجود في العمل الاجتماعي والسياسي، خارج الندوة البرلمانية «لأننا جزء من لبنان»، وشدد على أن البلاد رغم الأزمة «ستكون قادرة على تحقيق إنجازات إذا ما توافرت الإرادة؛ فالإصلاح ممكن وغير مستحيل، لكن لا يبدو حتى الآن أن هناك رؤية واضحة للخروج من الأزمة بعد وصولنا إلى الانهيار». واختتم متسائلاً «هل يُعقل أن قانون الكابيتال كونترول لم يُقرّ حتى الآن بعد سنتين ونصف السنة على تفجّر الأزمة؟... بل، ولا يبدو أن هناك إرادة لتحقيق إنجازات... للأسف».

ياسين جابر... بطاقة شخصية
< يتحدّر من عائلة شيعية تعد إحدى أكبر عائلات مدينة النبطية، في جنوب لبنان
< ولد في مدينة لاغوس، العاصمة السابقة لنيجيريا، يوم 15 يناير (كانون الثاني) من عام 1951م
< والده رجل الأعمال المغترب في أفريقيا كامل جابر
< أنهى دراسته الثانوية في مدرسة الإنترناشونال كوليدج (الآي سي) في بيروت
< تخرَج في الجامعة الأميركية ببيروت، حاملاً درجة بكالوريوس آداب في الاقتصاد
< متزوّج من وفاء محمد العلي، وأب لأربعة أولاد هم: كامل وسارة وتمارا ونائل



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».