بعد 3 أسابيع، ستجرى في فرنسا الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي يخوضها الرئيس إيمانويل ماكرون للفوز بولاية ثانية. ولاضطراره القيام بحملة انتخابية، فمن الطبيعي أن يتراجع نوعاً ما اهتمامه بالملفات الدولية، وعلى رأسها الحرب الروسية على أوكرانيا التي كرس لها كثيراً من وقته منذ 7 فبراير (شباط)، بل إنه كان المسؤول الغربي الأكثر تواصلاً مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولودومير زيلينسكي. ويوماً بعد يوم، كان ماكرون يشدد على الحاجة لإبقاء قناة تواصل بين الغرب (الأطلسي، والأوروبي) مفتوحة مع الرئيس الروسي. وبسبب الانتخابات، فإن ماكرون مضطر لـ«تجيير» جزئي لملف الحرب إلى وزيري الخارجية والدفاع، جان إيف لو دريان، وفلورانس بارلي، من غير أن يعني ذلك تخليه عن متابعته، رغم أن وساطته منفردة أو مع المستشار الألماني أولاف شولتز لم تؤتِ ثماراً. وأمس، صدرت تصريحات عن لو دريان وبارلي. الأول في حديث لصحيفة «لو باريزيان»، والثانية في خطاب لها أمام طلاب معهد «بوليتكنيك»، وهي مدرسة النخبة في فرنسا التي تخرج أفضل المهندسين. وأصدرت الخارجية بياناً حول الاتصال الهاتفي الذي أجراه لو دريان مع نظيره الأوكراني ديميترو كوليبا لتقييم الوضع ميدانياً وسياسياً وإنسانياً. وجاء، في بيان للخارجية، أن لو دريان أكد لنظيره الأوكراني أن فرنسا «منخرطة في متابعة جهودها، على المستوى الأوروبي، لرفع كلفة العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا». وإذ اتهمت باريس الجانب الروسي بانتهاك القانون الدولي الإنساني بسبب استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، فإنها دعت إلى «وقف فوري وشامل لإطلاق النارّ الذي هو السبيل الوحيد لقيام مفاوضات جادة ولإنهاء النزاع». وما جاء مخففاً في بيان الخارجية الفرنسية، شدد عليه لو دريان في حديثه الصحافي، ولكن هذه المرة بلغة بعيدة عن الدبلوماسية. ذلك أن الوزير الفرنسي اتهم موسكو بـ«التظاهر بإجراء مفاوضات» من أجل وقف لإطلاق النار والتوصل إلى حل، بينما هي في الواقع «مستمرة في اللجوء للغة السلاح» وترفض القبول بإسكات السلاح.
لا يكتفي لو دريان بذلك، بل يتهم روسيا بالسعي لدفع أوكرانيا إلى «الاستسلام» من خلال رفع «مطالب الحد الأقصى» و«توسل فرض الحصار» على مجموعة من المدن الأوكرانية، ما يعد في نظره «مساراً مأساوياً لهمجية طويلة المدى»، ما يعني ضمناً، في نظره، أن الحرب مرشحة للاستمرار لفترة زمنية طويلة. والأهم من ذلك أن كلام لو دريان يبين تحفظاً فرنسياً ــ أوروبياً على انخراط أوكرانيا في المفاوضات مع روسيا، إذ إن باريس ترى أن لا جدية لمفاوضات، فيما «المسدس موجه إلى صدغ» المفاوض الأوكراني. وإزاء التشدد الروسي وازدواجية اللعبة التي تلعبها موسكو، فإن الوزير الفرنسي يشيد بحس «المسؤولية» و«الانفتاح» اللذين تظهرهما كييف في المفاوضات. ويعتبر لو دريان أن الخطة الحربية الروسية تعتمد على الثلاثية المعهودة التي تقوم على «عمليات القصف العمياء» و«إنشاء ما يمكن تسميته ممرات إنسانية آمنة، يتهم الخصم لاحقاً بعدم احترامها»، وثالثها «مفاوضات بلا هدف سوى الإيهام بالتفاوض». ولأن المقاربة الغربية ترى أن الحرب قامت لتدوم، فإن الخطة التي يسير الغرب على هديها تقوم على «تغليظ العقوبات حتى يظهر للرئيس بوتين أن كلفة تواصلها مرتفعة، إلى درجة أنه من المفضل له أن يقبل وقفاً لإطلاق النار، وأن ينخرط في مفاوضات حقيقية». أما «إذا ذهبت روسيا إلى مزيد من التصعيد كمثل استخدام الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية»، فإن الغرب سيرى في ذلك «تصعيداً لا يمكن السماح به، وسوف يستدعي رداً على هيئة عقوبات اقتصادية شاملة وجذرية ومن غير محرمات».
حقيقة الأمر أن إشارة لو دريان إلى الرد على احتمال استخدام الطرف الروسي أسلحة دمار شامل بفرض مزيد من العقوبات، تعكس انقساماً داخل الأسرة الأوروبية - الأطلسية، حيث ثمة من يدعو إلى اعتبار تطور كهذا «خطأ أحمر» يفترض أن يكون الرد الأطلسي عليه على مستوى التحدي، بما في ذلك التخلي عن مبدأ الامتناع عن التدخل المباشر في الحرب الدائرة في أوكرانيا. والحال أن باريس، منذ اليوم، تحصر الرد في العقوبات التي فرض منها على روسيا ما لم يفرض مثله بتاتاً في السابق أميركياً وأوروبياً. وهذا الانشقاق يلي تفسخاً آخر، بدا من خلال مطالبة بولندا بإرسال «بعثة سلام» من الحلف الأطلسي إلى أوكرانيا تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، بمعنى أن تكون مسلحة. والحال أن اجتماع وزراء دفاع الحلف، أول من أمس، في بروكسل بيّن أن هناك رفضاً لخطوة يمكن أن تقود إلى مواجهة أطلسية - روسية. هل التصعيد الروسي يستدعي وقف الحوار مع موسكو؟ الجواب جاء هذه المرة من وزيرة الدفاع الفرنسية التي أكدت أمس أن باريس «تؤمن دائماً بفائدة الحوار» الذي ترى فيه «الوسيلة الوحيدة للحصول على وقف لإطلاق النار، وبالتالي التوصل إلى سلام عادل» في أوكرانيا. وتضيف فلورانس بارلي أن الحوار هو أيضاً «الوسيلة الوحيدة التي توفر الشروط من أجل العودة إلى الاستقرار الاستراتيجي في أوروبا»، فيما هدف العقوبات الثقيلة التي فرضت على روسيا «رفع كلفة الحرب وجعل خيار مواصلتها باهظاً بحيث يتخطى قدرات بوتين على تحملها». وبحسب بارلي، فإن الحرب الجارية في أوكرانيا «ليست حرب الروس، بل حرب روسي واحد هو فلاديمير بوتين وبعض النخبة (الأوليغارك) المتواطئة معه». وخلاصة بارلي أنه «لا فرنسا ولا أوروبا ولا الحلف الأطلسي في حال حرب مع روسيا، بل نحن عازمون على أن نضع حداً لها».
فرنسا: موسكو تتظاهر بإجراء مفاوضات... وغرضها تركيع أوكرانيا
فرنسا: موسكو تتظاهر بإجراء مفاوضات... وغرضها تركيع أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة