صدر للباحث اللبناني نادر سراج عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» كتاب «صرخة الغضب... دراسة بلاغية في خطابات الانتفاضة اللبنانية». والكتاب استكمال لثلاثية تشكّل مشروعاً معرفياً ابتدأ به كاتبه في شتاء 2005 على إثر انقسام الشارع اللبناني بين 8 و14 مارس (آذار)، بعد كتابيه «مصر الثورة وشعارات شبابها» (2014) و«الخطاب الاحتجاجي» (2017)، يقرأ المؤلف في كتابه الجديد، الذي سيوقعه غداً في معرض بيروت العربي للكتاب، وقائع ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 اللبنانية وشعاراتها، ويستقرئ مضامينها، ويعاين تجليات مفهوم الهامش في الخطابات الاعتراضية، أي رصد اليومي والملفوظ والمعيش، مستعيناً بالعلوم البينية (البلاغة وتحليل الخطاب والسوسيولوجيا) والاتكاء على مخرجاتها، بغية استقراء تحولات الشارع وتقصّي معالم خطابه التغييري.
يقول سراج، الأستاذ الجامعي ومدرّس مادة فن التواصل في «كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان»، عن كتابه «صرخة الغضب»: «أردتُ به التفكّر ملياً في رجع الصدى الذي غذّته اندفاعة ثائرة، صادقة ومبتكرة، بعيون القائمين والقائمات بها، استدعت ارتدادات عند جمهور عريض تعطّشَ ولا يزال لتغيير ومحاسبة، ما أوتيت ثماراً بعد. أسعفني الالتزام بأصول المعاينات الحقلية ومعاييرها الصارمة لأتوغّل في عمق خطابات الاحتجاج الشعبي، أتبصّر في سردياتها وجمالياتها، وأتقصى إبداعية منتجي النصوص وحيوية صنّاع الشعارات ورافعيها، مع الإصغاء بعناية إلى محمولات هتافاتهم وقرقعة طناجرهنّ التي صدحت بين الساحتين البيروتيتين النابضتين (رياض الصلح والشهداء)، وتردّدت أصداؤها عالياً في الأطراف المنتفضة».
وينطوي الكتاب على شعارات وهتافات وكتابات غرافيتية ابتدعها لبنانيون ولبنانيات منذ اندلاع غضب الشوارع، ويوضح كاتبه التزامه حدود مسؤوليته الأدبية والقانونية بمعزل عن موقفه الشخصي منها: «لستُ أدّعي بتاتاً أبوّة هذه الشعارات والكتابات والهتافات، بما انطوت عليه من عناوين وصور ومحتويات وبيانات وتعليقات انتقادية، لامست أحياناً حدود التجريح والبذاءة الكلامية».
ينحصر تدخّله، إذاً، في إطار عمله البحثي والتفكيكي والتأليفي، فيحلل المعطيات المجموعة ميدانياً ومن وسائل الإعلام والإنترنت، ومن صنّاعها، ويعيد صياغتها من منظور العلوم اللسانية والبلاغية والدلالية، بغرض وضعها في إطارها العلمي الصحيح وسياقها التاريخي.
يتبصّر نادر سراج ملياً في خطابات شاغلي الساحات اللبنانية، ويقول عن ذلك: «تدبّرتُ دلالات نصوصهم الاحتجاجية وتعليقاتهم الحادة الحواف و(بوستاتهم) الظريفة، المعلن منها والمضمر. وأوليتُ الصياغة والأسلوب المُحكَمَي الصنع والتشابيه المتقنة الصنعة كبيرَ اهتمام. مع الكشف وبشواهد حقلية موثقة، مكتوبة ومهتوفة، عن أهمية توظيف الباحث في ميدان اللسانيات التطبيقية مفهومَي الهامش والمتن المتجاورين والمتحاورين، والشديدي التفاعل والتداخل في نتاجات الشارع».
نادر سراج
انصرف نادر سراج، الحائز على «جائزة التميّز العلمي لعام 2018» من «المجلس الوطني للبحوث العلمية» في لبنان، وجائزة «أفضل كتاب عربي لعام 2013» من «مؤسسة الفكر العربي» عن كتابه «الشباب ولغة العصر»، منذ وقت مبكر إلى دراسة مظاهر الفكر والإبداع في ثقافة المجتمع، والتفت إلى المكوّن اللغوي، باعتباره عنصراً من عناصر الهوية والانتماء، وهو يروي كيفية تراكُم تجربته: «تصدّر النظر الجدّي إلى طرائق تبدّل أحوال اللغة الأم بمستوياتها التداولية ومعاينة النواتج القولية والكتابية للجمهور، وتقصي معالم بلاغته الشعبية العفوية، اهتماماتي ولا يزال. أما شرح النصوص المكتوبة وتلك الشفهية أو التطرّق إلى ظواهر اجتماعية وسلوكية لغوية، بأدوات تحليلية أمدتني بها جملة معارفي اللسانية المكتسبة، فهي مهارة طوّرتها بحكم الخبرة والمراس والتطبيق الميداني. هذه القدرات مجتمعة أعانتني على تفكيك خطابات المواطن العادي، وعلى حُسن الإصغاء للمخاطب - أياً يكن - والتقاط بوادر التغيير التعبيري والابتكار اللغوي الطريف واللمّاح عنده، واستطراداً في البيئة الثقافية الاجتماعية التي ننتمي كلانا إليها».
وهو يتوقف عند لغة «خطاب الهامش»، معتبراً أنّ «الهامش أضحى اليوم متناً بقدر ما أمسى الجدار نصاً، لما تنطوي عليه الساحات العربية من فيض بلاغي مبتكر». ويستفيض في شرح ذلك: «تنفرج اللغة المقصودة لتحتضن كلا المستويين التداوليين للضاد. فالفصيح الميسّر والمحكي المعيش تحاورا وتآزرا لرسم ملامح لغة الشارع المجازية، وتحديداً صرخات الغضب. هذا يستدعي مزيداً من الحديث عن وظائف المتن والهامش. فصدارة البحث العلمي اللغوي في يقيني وفي عملي الحقلي، ما غفلت عن الالتفات إلى المركز بوصفه ملاذاً وحضناً ونواة صلبة ومتماسكة للمنظومة اللغوية ككل. لكنها أولت في آنٍ الهوامش والجزئيات اهتمامها. وما أسقطت من الحسبان التفاصيل والمهملات والشوارد نظراً لطبيعتها التمثيلية لنبض الناس، ولتعبيرها الأصدق عن رؤيتهم لأنفسهم وللعالم وللآخر المختلف. وأحسب أنّ سماتها التفضيلية خالفت في توجهاتها وانشغالاتها وكيفيات عملها التيار السائد. وأعني خريطة طريق لطالما انتهجها بيسرٍ منتمون إلى التيار البحثي التقليدي والمهيمن، بصرف النظر عن قدراتهم وطبيعة مشاغلهم وأعمارهم ومنابتهم الجغرافية».
غلاف الكتاب
تستوقفنا رحلته مع اللغة وطموحاته في هذا الكتاب وسابقيه الكتب الأربعة عشر، النفاذ إلى أعماقها، فيقول: «لذا عالجتُ تراكيب اللغتين المحكية والمكتوبة، ونأيتُ عن منازع الهوى، و(تحاشيتُ الانزلاق إلى حيثيات الانتصار المعياري الذي يحوّل موضوع الازدواج اللغوي إلى فتنة ثقافية حضارية. فالتقت في مختبري الفصحى والعامية دونما موقف تفاضلي)، كما لاحظ الدكتور عبد السلام المسدي في تقديم كتابي (الخطاب الاحتجاجي... دراسة تحليلية في شعارات الحراك المدني)».
يتابع أنّ أبحاثه أظهرت أنّ الافتتان بالفصحى والنهوض بها، والتبصّر في تنويعاتها القُطرية، والتفكُّر في خصوصيات أهلها، ما هي إلا تحاور وتجاور بين القلب والأطراف: «وهذه فرصة ذهبية واتت جيلي لاكتساب علم عصري فتح بصيرتنا على حقائق اللغة وحراكها، وحفّزنا للنظر إلى ما بعد المتن، والتمعّن فيما اعتبر طويلاً هامشه المسكوت عنه».
الخوض في مجالات البحث العلمي والإنتاج الفكري في ميدان التخصص اللساني الاجتماعي، وسواه من العلوم البينية، أتاح للكاتب ترجمة نبض الساحات العربية المعترضة (2013 - 2022)، ودرس خطاباتها بعفويتها التعبيرية وتلوناتها الكلامية، وبضروب بلاغتها الشعبية المبتكرة. وفي «صرخة الغضب»، يُفرد سراج ملحقاً خاصاً بالشعارات والهتافات الثورية، ويتناول خروج بعضها عن سياقاتها. إنه يرى الشعار شكلاً متقدماً من أشكال التواصل الجماهيري، فيما البلاغة الاعتراضية تجدد ذاتها بإلهام من الشارع الغاضب. ويخصص فصلاً لشرح مفهوم البلاغة الاعتراضية الجديدة، وقسماً لدراسة الشعار تركيباً ووظيفة.
يقول أستاذ كرسي الدراسات في الجامعة الأميركية ببيروت رمزي بعلبكي، في تقديمه للكتاب: «الكتاب فريد حقاً في تقصّيه مفردات الغضب وعبارات الاعتراض التي أنتجها الأفراد وتداولوها في الساحات وعلى الشابكة، وكتبوها بعفوية على جدران المدن والبلدات. لقد نَفَذ سراج من هذه المادة (الخام) إلى استقراء الأمزجة وكشف الخطاب المسكوت عنه، وارتقى بدراسة الكلام المحكي إلى مستوى أكاديمي رفيع، متابعاً بدأب وأناة مشروعه المعرفي المتّصل بتحليل الخطاب الحي في العالم العربي».