واسيني الأعرج يطرح إشكاليات كتابة السيرة الذاتية و«محاذيرها»

يطلق «سيرة المنتهى» في طبعة فلسطينية خاصة من متحف محمود درويش

واسيني الأعرج يوقع سيرته في قاعة متحف محمود درويش.. وفي الإطار غلاف «سيرة المنتهى»
واسيني الأعرج يوقع سيرته في قاعة متحف محمود درويش.. وفي الإطار غلاف «سيرة المنتهى»
TT

واسيني الأعرج يطرح إشكاليات كتابة السيرة الذاتية و«محاذيرها»

واسيني الأعرج يوقع سيرته في قاعة متحف محمود درويش.. وفي الإطار غلاف «سيرة المنتهى»
واسيني الأعرج يوقع سيرته في قاعة متحف محمود درويش.. وفي الإطار غلاف «سيرة المنتهى»

أطلق الروائي الجزائري، واسيني الأعرج، مساء الاثنين، في متحف محمود درويش، وبحضوره، سيرته الروائية «سيرة المنتهى»، الصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان، وسط حضور كبير. تخلل حفل إطلاق السيرة حوار أدارته الناقدة د. رزان إبراهيم، قبل أن يلتف معجبو الأعرج وقراؤه حوله للحصول على توقيعه. وكان الروائي الجزائري تبرع بحصته من ريع الكتاب، للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، موجهًا من داخل قاعة الجليل في المتحف، التحية لهم ولتضحياتهم، عبر قناة «فلسطين مباشر»، ومستهجنًا كل من يتهم زوار فلسطين من العرب بـ«التطبيع».
وقال: «أي كتابة لا تمس القارئ ليس لها قيمة، ومسّ القارئ يتم عبر قنوات متعددة، من بينها القضية التي يرسلها الكاتب، وسيرتي الذاتية كتبت في إطار هذا المناخ.. من الصعب على الكاتب، بل من الصعب جدًّا عليه كتابة سيرته الذاتية، لأننا في الوطن العربي جبناء؛ فالسيرة الذاتية بوح صادق قد يتحدث خلالها الكاتب عن علاقته مع أمه أو أبيه أو أخته أو آخرين. كثير من الكتاب يجبنون عن مجرد التفكير بالكتابة عن أنفسهم، خصوصا أن (بعبع) الوضع الاجتماعي قد يلاحقهم بعد ذلك، وهذا أمر أفهمه»، لافتًا إلى أنه ابتعد عن صيغة الأنا ليخرج من إطار النرجسية.
وقال الأعرج: «أن تكتب سيرة ذاتية، كأن تسير على بيض تخشى أن يتهشم أسفل قدميك»، وليتفادى ذلك، اختار «خمس شخصيات أساسية، أولها جدي الأندلسي، حيث تقاطعت مع الجد عبر تقنية معقدة عملت على تبسيطها.. كل الشخصيات في سيرتي الذاتية ميتة (ليست على قيد الحياة)، وبينها شخصيات نسوية كالجدة والأم والحبيبة، واخترتها ميّتة لأنني قصدت القيام برحلة معراجية لهذه الشخصيات.. هي طريقة ليست جديدة عمومًا في الكتابة، وأبرز من اتكأ عليها، أبو العلاء المعري ودانتي أليغري، لكني اخترت هذه الرحلة المعراجية، وبدأت أجوب، برفقة الشخوص، الأماكن الجغرافية، بعيدًا عن نرجسية كاتب السيرة الذاتية، ولذلك سعيت بتحويلها إلى نص يقبله القارئ، ولا يشعر معه أنه نرجسي».
وأضاف في حديث مقتضب مع «الشرق الأوسط»: «وأنا أكتب هذه السيرة واجهتني أسئلة كثيرة، على رأسها: إلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يقول سيرته الذاتية؟ وإلى أي مدى يستطيع أن يتكلم عن حميمياته الخاصة، وخاصة أن هذه الحميميات ليست ملكًا للكاتب وحده، لا سيما مع وجود مؤسسات اجتماعية وعشائرية ودينية قامعة تمنع أن يكون الكاتب صريحًا في هذا الاتجاه». ومن ناحية أخلاقية أيضًا، برز سؤال حيوي مفاده «هل للكاتب الحق في الحديث عن تجربة حميمية عاشها ذات يوم مع أنثى على سبيل المثال باتت لها حياتها الخاصة اليوم؟ باعتقادي ليس له هذا الحق، لأن هذه التفاصيل لا تخص الكاتب وحده، وتتعلق بتجربة مشتركة، لذا لم تحضر في السيرة».
وسرد الأعرج في سيرته الذاتية التي كتبت بأسلوب روائي، حكايات الجد الذي يروي التاريخ الأندلسي للعائلة، وكيف طردت هذه العائلة من الأندلس، وكيف يجد نفسه عام 1609 بعد قرار ملك إسبانيا بطرد المسلمين نهائيًا، فالجد هنا يروي الحكاية الأولى حول بناء العائلة، وكيف وجد نفسه بين ليلة وضحاها يتحوّل من أندلسي أو إسباني بالمفهوم الجغرافي الحالي، إلى جزائري.
يقول الأعرج في سيرته الشيقة: «كنت أستيقظ فجرًا، وأدرس اللغة العربية في الكتاتيب، قبل التوجه في السابعة والنصف صباحًا إلى المدرسة الفرنسية.. لولا الجدّة لما باتت مع الزمن حالة من العشق بيني وبين العربية كلغة».
وتسرد الرواية السيرية، حكايات كثيرة حول الجدة والكتاتيب، كما تسرد شيئًا من حكايات نسمعها للمرة الأولى: استشهد والدي عام 1959، ترك والدتي دون معيل، فكانت على الدوام تتلبس ثوب الأب بالنسبة لي، فهي من خرجت إلى العمل، وبقينا في رعاية الجدّة.
ولم يغفل الأعرج منح الحب الأول في حياته دور شخصية رئيسية في السيرة، فـ«أول حب، كما يعلم الكثير منّا، مؤثر للغاية، وعلى الرغم من أنه حب فاشل في الغالب، إلا أنه غالبا ما يبقى منغرسًا في دواخل الإنسان.. الحب الأول في حياتي، قتلت في ظروف قاسية جدًا، ولذلك بقيت كجرح غائر في نفسي لا يزال يرافقني، ولا يزال ينزف». ومن الجدير ذكره، أن الأعرج وصف روايته السيرية «سيرة المنتهى.. عشتها كما اشتهتني»، بالقول: «سيرتي ليست سيرة بالمعنى التقليدي، ولكنها تقدّم لأساسيات لعبت دورًا أساسيًا في تكويني الشخصي كأديب وإنسان في الدرجة الأولى».



أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
TT

أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.

في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب»، أزعم أني ارتفعت إلى مستوى المعري في رسالة الغفران. صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. لماذا كل هذه الفخفخة والمنفخة؟ لماذا كل هذه الغطرسة الفارغة؟ هذه ليست من شيمي وعاداتي. بل إن عاداتي العكس تماماً؛ أي التضاؤل والتصاغر إلى درجة الاضمحلال. وقد لامني على ذلك، برفق، سمير عطا الله يوماً ما. عاداتي المزمنة والمتواصلة هي أنني أختبئ وراء أساتذتي الكبار. ولكن هذه المرة أصابتني نوبة مفاجئة من جنون العظمة ولا أعرف لماذا. ولله في خلقه شؤون. وعلى ذكر رسالة الغفران، ينبغي العلم أنها ترجمت إلى الفرنسية عام 1984. وصدرت عن أشهر دار نشر باريسية: «غاليمار» في 320 صفحة. ولكن من يستطيع أن يشتريها: 150 يورو فقط. من يصدق ذلك؟ من يستطيع ترجمتها؟ حتى في العربية يصعب فهمها، فما بالك بالفرنسية. ينبغي أن نترجمها أولاً إلى العربية الحديثة قبل الفرنسية. ولكن لا يسعنا إلا أن نشكر المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل على هذا الجهد الكبير والشاق العسير الذي بذله في نقل إحدى روائع أدبنا الكبرى إلى لغة موليير وفولتير. شكراً له وألف شكر. كيف استطاع تحقيق ذلك؟ معجزة حقيقية. والباحث المذكور أصبح اسمه الكامل فانسان منصور مونتيل عندما اعتنق الإسلام بعد أن أعجب به كل الإعجاب: ديناً وفلسفة وحضارة.

كان ديكارت يقول هذه العبارة اللافتة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ. بمعنى أنه لا يستطيع أن يكشف كل أوراقه دفعة واحدة، وإلا لكانوا قد ذبحوه حتى قبل أن يفتح فمه. إنه مجبر على أن يضع قناعاً على وجهه لكي يستطيع أن يُكمل مهمته على أفضل وجه ممكن، لكي يستطيع أن ينجز مؤلفاته وكشوفاته الكبرى قبل أن يقتلوه. وما هي مهمته في الحياة؟ تفكيك الأفكار التراثية الشعبوية الطاغية التي تتخذ صفة اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش. هل نعلم بأن المعري طبق هذه القاعدة حرفياً قبل ديكارت بسبعة قرون؟ وراء كل صفحة من صفحات رسالة الغفران تقريباً تبدو شخصية المعري مقنعة وماكرة إلى أقصى الحدود. إنه مجبر على الظهور بمظهر الإنسان المتدين التراثي التقليدي الذي لا تشوبه شائبة. ولكن خلف ذلك تكمن شخصيته الحقيقية. يكفي أن نقرأ ما بين السطور أو ما خلف السطور لكي ندرك ذلك. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه مخلص كل الإخلاص للتصورات التراثية وملتزم بها كلياً. ولذلك ينبغي أن نقرأ رسالة الغفران قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها. المعري أكثر مكراً مما نظن. تكاد تموت من الفرح والابتهاج، تكاد تنفجر من الضحك والانشراح، عندما تقرأ رسالة الغفران. لست بحاجة لأن تذهب إلى المسرح أو السينما لكي ترفّه عن نفسك. يكفي أن تقرأها. مسرحها أعظم وأكبر من كل المسارح العالمية. مسرحها العالم الآخر وجنة عرضها السماوات والأرض. إنك تسرح وتمرح في فضاءات شاسعة واسعة منتشرة على مد النظر. من هنا الطابع التحريري الهائل والإبداعي الخارق لرسالة الغفران.

تشعر بأنك أصبحت أكثر ذكاء عندما تقرأها، هذا إذا ما استطعت أن تصبر عليها حتى النهاية. ولهذا السبب قال عنها عباس محمود العقاد: «إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، ونسق ظريف في النقد والرواية. إنها فكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها». هذا أقل ما يمكن أن يقال يا عملاق الفكر العربي. كان بإمكانك أن تقول أكثر بل كان يجب أن تقول أكثر. تأمل جيداً كيف يوزع المعري بكل مهارة واستمتاع، وأكاد أقول بكل خبث ودهاء، مشاهير العرب على الجنة والنار. يقول مثلاً:

«وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قُرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزُهير بن أبي سُلمى المُزني، وعلى الآخر: هذا القصر لعَبيد بن الأبرص الأسديّ، فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء. فيسأل زهير: بم غُفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هَمَلٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً...

ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسد. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء، لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي؟ فيقول: أجل وإن في ذلك لعجباً، أألفيت حُكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرحمة محجباً؟ فيقول عبيد: أُخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قد قلت في الحياة:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل يُنشَد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كُرر إلى أن شملَتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن الله لغفور رحيم.

فإذا سمع الشيخ - ثبت الله وطأته - ما قال ذانك الرجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء».

صفحات خالدة

أخيراً، ماذا نستنتج من كل هذه المهزلة، من كل هذه الفضيحة، من كل هذه التحفة العبقرية؟ نستنتج أن المعري استمتع كل الاستمتاع بتوزيع بعض المشاهير على الجنة وبعضهم الآخر على النار. ونستنتج أنه على الرغم من كل تظاهره بالوقار وصحة الاعتقاد لم يسلم من القيل والقال. على العكس، لقد شكوا فيه وكفّروه وزندقوه ومسحوا به الأرض مسحاً كما هو معلوم. وهذا يعني أن القناع الذي وضعه على وجهه لم يَدُم طويلاً ولم ينفعه شيئاً في نهاية المطاف. وهكذا حصل له ما سيحصل لديكارت من بعده بسبعة قرون. فهو الآخر كشف الأصوليون المسيحيون القناع اللاهوتي الكاثوليكي عن وجهه وكفّروه ووضعوا كتبه على لائحة الكتب المحرّمة أو الممنوع قراءتها. بل وقتله أحد الكهنة اللاهوتيين في السويد عن طريق دس السمّ له في القربان المقدّس، كما كشف أحد الباحثين الألمان. وهو اكتشاف انفجر مؤخراً كالقنبلة الموقوتة. ولكن بالله عليكم قولوا لي: من يستطيع أن يستشهد بمقولات شيوخنا القروسطيين التكفيريين في أي مؤتمر عالمي يُعقد عن الإسلام والفكر العربي؟ أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على ذلك. ولكن بإمكانك أن تُفحم الغرب كل الغرب بعبقرية شخص كأبي العلاء المعري. بإمكانك أن تفاخر العالم كله برسالة الغفران.