ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

باتت وكرًا للجريمة.. و«حكومة الوحدة» أمام تحدي إسكات الميليشيات أو الانهيار

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب
TT

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

ليبيا بين ناري «الهجرة».. والإرهاب

تسبب إعلان حكومة طبرق الليبية المعترف بها دوليا عن مقتل الصحافيين التونسيين المخطوفين في ليبيا منذ 8 أشهر في زوبعة إعلامية وسياسية داخل تونس وفي المنطقة خاصة أن الإعلان كشف كذلك عن مقتل مجموعة جديدة من الصحافيين المصريين والليبيين في بلد «ليس فيه سلطة قادرة على حفظ الأمن في البلاد».
وتزامنت الانتقادات في تونس للسلطات الليبية والتونسية - بسبب ملف الصحافيين نذير القطاري وسفيان الشورابي مع انتقادات تونسية وأوروبية لتطور ليبيا إلى وكر لجماعات الجريمة المنظمة والتهريب والإرهاب بما انعكس على تضاعف عدد المهاجرين غير القانونيين نحو أوروبا انطلاقا من أراضيها أكثر من 30 مرة في ظرف بضعة أشهر. فإلى أين ستسير ليبيا والأوضاع على ما هي عليه؟ وكيف تحركت السلطات التونسية بالتنسيق مع البلدان المجاورة لليبيا ودول الاتحاد الأوروبي في محاولة لتغيير الواقع على الأرض وتشكيل «حكومة وحدة وطنية» توقف النزيف وتدهور الأوضاع؟

وفي الوقت الذي تتابع فيه منظمات الصحافيين التونسيين وأطراف تونسية وليبية انتقاداتها لأداء السلطات الليبية في طبرق وطرابلس ولنظيرتها في تونس بسبب فشلها في إنقاذ حياة الصحافيين التونسيين نذير القطاري وسفيان الشورابي قام وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش بـ«مبادرة علنية غير مسبوقة حول ليبيا» تمثلت في عقد لقاء تشاوري رسمي مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية حول «التسوية السياسية» للأزمة الليبية ودعم جهود الحوار السياسي الأممية حول الأزمة الليبية التي تنظم منذ أشهر في الجزائر والمغرب.

* تحت ضغط بروكسل وروما
هذا التحرك الأوروبي التونسي المغاربي لمحاولة «تسوية الأزمة الليبية» تحت ضغط من مفوضية الاتحاد الأوروبي ببروكسيل في أعقاب القمة الأوروبية الطارئة التي نظمت موفى الشهر الماضي ردا على «موجات المهاجرين السوريين والليبيين والأفارقة الذين أصبحوا يتسللون بكثافة إلى أوروبا عبر الجزر الإيطالية مستفيدين من غياب أي سلطة مركزية موحدة في ليبيا» حسب المسؤول السياسي في مفوضية الاتحاد الأوروبي بتونس حضر الاجتماع.
ولئن أعلنت العواصم الأوروبية منذ استفحال «الحرب الأهلية» في ليبيا أنها تلتزم» الحياد» في النزاعات الداخلية الليبية الليبية ثم اعترفت بـ«شرعية» برلمان مدينة طبرق - 1700 كلم شرقي العاصمة طرابلس - فقد اكتشفت أن «التحكم في كل السواحل الليبية المطلة على المتوسط التي تمتد على ألفي كلم غير ممكن إذا تواصل الفراغ السياسي في العاصمة طرابلس وفي غالبية مدنها وقراها المنتشرة في مساحة شاسعة جدا تقدر بمليون و800 ألف كلم مربع غالبيتها من الصحاري والأرياف والمناطق المهجورة».

* إيطاليا المتضرر الأول
ولئن تحافظ إيطاليا الشريك الاقتصادي الأوروبي الأول لليبيا لأسباب كثيرة من بينها قربها الجغرافي من السواحل الليبية، فإن حكومتها تعتبر نفسها «الضحية الأكبر» لانتشار ظواهر العنف السياسي والإرهاب والتهريب في ليبيا، لأن تلك الظواهر ساهمت في ترفيع منسوب تدفق المهاجرين «السريين» نحو الجزر والموانئ الإيطالية منذ اندلاع «الربيع العربي».
وتدعم روما والعواصم الأوروبية المخطط الأممية والدولية لإنهاء الاقتتال والصراعات في ليبيا بقيادة مبعوث الأمم المتحدة الإيطالي برناردينو ليون، وهي جهود ترمي أساسا إلى تشكيل «حكومة توافق وطني تضع حدا لتقسيم سلطات البلاد بين حكومتين الأولى «شرعية» في طبرق شرقا والثانية «فعلية» في العاصمة طرابلس.
ويجمع المراقبون المختصون في الشؤون الليبية على التقليل من أهمية الحكومتين الحاليتين و«كلتاهما لا تسيطر إلا على مساحات صغيرة من البلاد» على حد تعبير زعيم الحزب الناصري القومي التونسي ومنسق «منظمات الليبيين اللاّجئين» المحامي البشير الصيد في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

* نار الحرب ونار الحصار
في الأثناء تؤكد مصادر إعلامية وسياسية ليبية مختلفة التوجهات أنه «لا بديل عن تشكيل حكومة توافق وطني» بالتنسيق مع الأمم المتحدة ودول الجوار والدول الأوروبية. ويخشى الخبير الليبي مصطفى العبيدي أن يتسبب تأجيل تشكل حكومة وحدة وطنية في تمديد مرحلة عدم الاستقرار بما سيعني مزيدا من زوارق الهجرة غير القانونية وسقوط مزيد من القتلى بين الليبيين وبين الحقوقيين والصحافيين والعمال التونسيين والمصريين والأجانب على غرار جريمة قتل الصحافيين المصريين والليبيين والتونسيين مؤخرا.
وحذر الخبير الليبي فؤاد عمر من أن يجد الليبيون أنفسهم بين «ناري الحرب والحصار الإقليمي لأن تونس ومصر والجزائر قد تقوم بمضايقة المليوني ليبي اللاجئين على أراضيهم احتجاجا على قتل الصحافيين واختطاف الدبلوماسيين والعمال في ليبيا».

* خطوط حمراء اقتصادية
ويقدم عدد من الساسة الليبيين من مختلف الأطراف المتحاورة منذ مدة في تونس والجزائر والمغرب - بمشاركة رؤساء القبائل والبلديات الكبرى - أسماء كثيرة لرئاسة «حكومة التوافق الوطني» أو «الوحدة الوطنية» من بينها وزير الخارجية في عهد القذافي عبد الرحمن شلغم وأول رئيس منتخب للمؤتمر الوطني العام في 2012 محمد المقريف سفير ليبيا لدى الهند مطلع الثمانينات وأحد أبرز زعماء المعارضة الليبية طوال 30 عاما.. لكن استمرار هيمنة ميليشيات متعددة الألوان على مناطق مختلفة في ليبيا - وبينها ميلشيات محسوبة على «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» ـ معطى قد يعقد أوضاع ليبيا المنهكة بعقود من القمع وسنوات من الحرب «الأهلية» والتدمير لكل رموز الوحدة الوطنية.
وقد استفحلت المخاطر بعد بروز «خطوط حمراء اقتصادية» بالجملة حسب تصريح رئيس البنك الليبي الخارجي للاستثمار عبد الفتاح عبد الغفار لـ«الشرق الأوسط». المسؤول الاقتصادي الليبي أورد أن «احتياطي ليبيا من العملة الصعبة تدحرج من 321 مليار دولار عام 2010 إلى نحو 106 فقط الآن أي إلى أقل من قيمة الاحتياطي قبل ثورة 17 يناير (كانون الثاني) 2011».

* المصرف المركزي يحذر
وحسب تأكيدات مصادر ليبية لـ«الشرق الأوسط» فإن تقرير ديوان المحاسبة الليبي أكد أن نسبة «الفساد المالي وسوء التصرف في موارد الدولة في ارتفاع «وأن قيمة النفقات العسكرية تجاوزت الـ17 مليار دولار في وقت يعتقد فيه كثيرون أن تلك الأموال ترصد أساسا لتمويل الميليشيات المتحزبة والمنحازة لبعض اللوبيات المالية والسياسية». كما حذر مصدر مسؤول من المصرف المركزي الليبيين من تراجع قيمة الاحتياطي الليبي ن العملة الصعبة بعد أن «أنفقت ما يزيد على ربع احتياطياتها من النقد الأجنبي في 2014 لتعويض الهبوط في إيرادات النفط الحيوية».
إلا أن ديوان المحاسبة الليبي في طرابلس فيقدم حقائق وأرقاما أكثر «إثارة للفزع» من بينها أن احتياطيات مصرف ليبيا المركزي من النقد الأجنبي بلغت 76.6 مليار دولار في نهاية 2014 مقارنة بنحو 106 مليار دولار قبل عام.
ويعتبر هذا الانخفاض أن «ليبيا ربما تقترب من الانهيار المالي والاقتصادي الشامل».

* عضو في الأوبك؟
وتعاني «ليبيا الجديدة» اليوم من رهانها على قطاع المحروقات - من نفط وغاز - وعدم تنويع مواردها الاقتصادية والمالية وعدم تطوير قطاعات الخدمات والإنتاج الصناعي والزراعي. واستفحلت الحصيلة السلبية لهذا الرهان بعد إغلاق أكبر ميناءين نفطيين «السدر» و«راس لانوف» في ديسمبر (كانون الأول) بسبب القتال الدائر بين فصائل موالية للحكومتين المتنافستين للسيطرة على ثروات البلاد ومؤسساتها السياسية.
كما كشفت تقارير ديوان المحاسبة والمصرف المركزي وأخرى حكومية إغلاق «ما يزيد عن اثني عشر حقل نفط هذا العام وهو ما تسبب في خفض إنتاج ليبيا من الخام إلى أقل من 500 ألف برميل يوميا وهو ثلث مستوى الإنتاج في 2010». كما ازدادت السلطات السياسية ضعفا والصراعات المسلحة على الحكم وعلى المواقع حدة بعد أن تراجعت إيرادات النفط 30 في المائة إلى 14.6 مليار دولار في 2014 أي إلى ثلث الإيرادات في 2010.

* الانهيار الشامل بعد عامين
وحذر البرلماني الليبي أبوبكر بعيبرة من سلبيات «عدم حقن دماء الليبيين فورا» وسجل أن الشعب الليبي «تعب كثيرا» وأن الدولة الليبية ومؤسساتها السيادية مثل البنك المركزي باتت مهددة بالانهيار الشامل. كما حذر مسؤولون في «ديوان المحاسبة» من أن تواصل الانخفاض الحاد في الاحتياطيات الأجنبية وسياسة الأنفاق الحالية سيتسببان في انهيار شامل للمصرف المركزي والاقتصاد الليبي سينهاران في أقل من عامين.
ويعتقد دبلوماسيون من بين المتابعين عن قرب للملف الليبي أن «الإحساس بحجم الكارثة المالية التي تهدد كل الفرقاء في صورة انهيار البنك المركزي وإنفاق ما تبقى من احتياطي العملات الأجنبية قد يدفعهم إلى التعجيل بالموافقة على إخراج البلاد من أزمتها السياسية عبر «التوافق» على حكومة وحدة وطنية تمهد لانتخاب برلمان موحد جديد.
ولعل من بين ما سيضغط على السياسيين في حكومتي طبرق وطرابلس أكثر أن «ميزانية ليبيا تخصص أساسا لتوفير مرتبات الموظفين الحكوميين ونفقات لأسعار البنزين والخبز وسلع غذائية أخرى أساسية».

* المصالحة والحسم العسكري
لكن تدهور المؤشرات الاقتصادية والمالية والأمنية في ليبيا لن يكون كافيا لدفع الأوضاع نحو بناء «سلطة مركزية موحدة ودولة حقيقية» حسب عالم الاجتماع والعلوم السياسية التونسي الخبير في الشؤون الليبية المنصف وناس. وفي هذا السياق تطرح مسألة الحسم بين موقفين متناقضين في طريقة «الحسم» في ليبيا هل يكون سياسيا - مثلما تريد الأمم المتحدة وتونس والجزائر وبعض العواصم الدولية ـ أم عسكريا مثلما يريد بعض «أمراء الحرب» في ليبيا الذين يحصلون على دعم من قوى إقليمية ودولية مهمة؟
ولعل العنصر الجديد هو خروج بعض القوى الإقليمية - مثل حكومات إيطاليا ومصر - عن صمتها وتلويحها بالتدخل العسكري في ليبيا إذا تمادت الفوضى التي ستتسبب في قتل مزيد من الأبرياء وفي إرسال مزيد من المهاجرين نحو أوروبا عبر الجزر الإيطالية ومالطا.
قد يحسم مثل هذا الخلاف قريبا. لكن المدير العام السابق للأمن العسكري في تونس أمير اللواء محمد المؤدب يعتبر أن «الأزمة الأمنية والعسكرية الليبية قد تستمر 20 عاما كاملة بسب تعقيداتها وتورط بعض الأطراف في عمليات ثأرية في مجتمع قبلي وهو ما سيزيد من مخاطر انتشار عصابات التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة في تونس وفي كامل المنطقة».
في نفس السياق حذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا الفريق أول سعيد الكاتب من «مخاطر التسامح مع العصابات الإرهابية التي تنتشر بسرعة في ليبيا ودول الساحل والصحراء مشكلة تهديدات جدية على تونس ومصر وبقية دول الجوار العربية والأفريقية والأوروبية».

* ورقة الأقليات
ولعل من بين ما يزيد الأوضاع في ليبيا خطورة بالنسبة لشعبها والدول المجاورة لها شمالي المتوسط وجنوبه معارضة بعض الفرقاء السياسيين لخيار إعلان مسار وطني للإنصاف والمصالحة «يساعد شعب ليبيا على فتح صفحة جديدة حقيقية» حسب تصريح الخبير الليبي عبد السلام زاقود لـ«الشرق الأوسط». لكن الكاتب الليبي السنوسي وهلي وعددا من أنصار تيار «احترام الأقليات في ليبيا» يقدمون شروطا لتحقيق المصالحة وإخراج ليبيا من نيران الحرب والحصار والفوضى من بينها «التوقف عن اعتبار القومية العربية والهوية العربية جامعة في ليبيا مع ما يعنيه ذلك من تجاهل لواقع التعدد في الألوان والتعدد العرقي واللغوي والمذهبي والغوي».
ويعتبر أنصار هذا التيار أنه «آن الأوان للحديث عن الهوية الليبية الحقيقية، التي شوهها النظام السياسي القائم على العروبة، بتغليبه للعرقية العربية على باقي الهويات الليبية الأخرى، وفرضها كهوية جامعة لليبيين مع تجاهل تام للأمازيغية والتباوية والتارقية (نسبة إلى التوارق) التي لها أراضيها وتاريخها، ولغاتها، ورموزها، كشعوب قديمة متمسكة ومحافظة على نظمها الاجتماعية والثقافية المتميزة منذ آلاف السنين رغم اعتناقها الإسلام».

* الحوار السياسي هو الحل
وزير الخارجية التونسي السابق ونائب الأمين للأمم المتحدة حاليا المنجي الحامدي أورد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحكومة التونسية وبقية الحكومات الصديقة لليبيا تتابع ما يجري من مستجدات في الشقيقة ليبيا باهتمام وهي لن تكون طرفا في الصراعات الداخلية في ليبيا وتساهم بجهود سياسية ودبلوماسية لمحاولة إنجاح جهود الحوار السياسي بين مختلف الأطراف المتصارعة إيمانا منها بأن السلاح لن يمكن من معالجة الخلافات مهما صعبت».
وذكر وزير الخارجية بكون مدينة الحمامات السياحية التونسية سبق أن استضافت مؤتمرا لدول جوار ليبيا في سياق جهود الوساطة السياسية. وقد توج مؤتمر الحمامات بمؤتمرين في كل من القاهرة والخرطوم وسلسلة من مؤتمرات الحوار السياسي في الجزائر والمغرب.

* التزام الحياد
في نفس السياق أكد السفير التونسي السابق بليبيا رضا بوكادي - الذي أعيد إلى تونس منذ نجاحه في استرجاع الدبلوماسيين المخطوفين من ليبيا واستفحال معارك مطار طرابلس - أن «من مصلحة تونس ومصر وكل الدول الأوروبية والأفريقية المعنية بالحرب في ليبيا التزام الحياد في التصعيد العسكري الميداني وتشجيع الحلول السياسية».
وفي تونس أيضا أورد القائم بالأعمال الليبي بتونس محمد المعلول لـ«الشرق الأوسط» أنه بتابع مع الجانب الليبي ومع سلطاته الشرعية «أي حكومة عبد الله الثني وبرلمان طبرق» كل مجالات التنسيق مع تونس في المجالين الأمني والعسكري والسياسي بهدف تأمين الحدود المشتركة والبوابات وحركة المسافرين في الاتجاهين وأوضاع مئات آلاف اللاجئين الليبيين في تونس الذين يراهنون على أن تسوى الأزمات الحالية في بلدهم حتى يتمكنوا من استئناف حياة طبيعية قريبا في مواطنهم وطي صفحة الماضي.

* إمّا.. وإمّا
تتقاطع المبادرات السياسية وجهود التسوية السلمية للأزمة المستفحلة في ليبيا منذ أكثر من 4 أعوام.. وتتعمق التناقضات بين عدد من أبرز الفاعلين في ليبيا.. لكن بعض المستجدات مثل قتل الصحافيين التونسيين واستفحال ملفي الهجرة والإرهاب قد تضغط على كل الفرقاء حتى يقبلوا بحقن الدماء وإخراج بلدهم والمنطقة من المأزق وإطفاء نيران الحرب التي لا تهدد ليبيا وحدها بل توشك شظاياها أن تفجر صراعات مسلحة وتتسبب في هزات عنيفة جدا في كامل المنطقة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».