تلمس الفنانة السعودية مروة المقيط، عبر أعمالها، الإنسان البسيط، بلغة فنية مفهومة لمختلف طبقات المجتمع، قائلة: «لا أتعاطى مع اللغة البرجوازية في الفن»، وهو ما بدا واضحاً من الحشد الجماهيري الكبير الذي حظي به عملها الأدائي «سأتبع الريح» وكان مسك ختام بينالي الدرعية، مساء أول من أمس، بحي جاكس في الرياض، جامعاً 8 فتيات قدمن أداءً أثار فضول الجمهور.
ولم يأتِ الأمر بمحض الصدفة، فالمقيط بدأت دراسة الفن الأدائي منذ عام 2014، وبحثت في أعمال الفنانين العالميين مثل: مارينا أبراموفيتش وآن هاميلتون وغيرهما. وهذا المشروع استغرق منها إعداده نحو 14 ساعة يومياً، وكانت شرارة البداية في باريس في أثناء فترة إقامتها الفنية، العام الماضي، وتعرفت خلالها على الفنان الفلسطيني أبو غابي والفنانة الجنوب أفريقية أناليزا.
وأبانت لـ«الشرق الأوسط» أن الفكرة تتمحور حول الإنشاد، الذي يختلف باختلاف الثقافات، بوصفه تعبيراً إنسانياً، ومزجت المقيط هذه التجارب العالمية بفن الفجري الشعبي الخليجي (الإنشاد البحري)، من خلال آخر عائلة تمارس هذا الفن «بن قحطان» بمدينة الدمام، موضحة أنه فن صعب جداً، ثم ترجمت كل الأصوات وقصصها إلى حركات أدائية.
فلسفة المقيط الفنيّة
بالسؤال عن توجهها في الفن المعاصر، تقول المقيط: «توجهي دائماً ينظر في العالم اللامرئي، وأحب في أي مشروع أبدأ فيه أن يكون الجزء الروحاني والنفسي متصلاً تماماً مع العمل، فأنا أؤمن جداً بعوالمنا الداخلية أكثر من عوالمنا الخارجية، وأشعر أينما نسير في هذه الحياة، فهناك دائماً اتصال مباشر وقوي مع عالمنا الداخلي وعقلنا الباطن».
وترتكز فلسفة الفنانة مروة المقيط الفنية على اعتبار أن كل فعل أو ردة فعل تخرج من الإنسان فإن مصدرها هو العقل غير الواعي، بما في ذلك التراكمات المخيفة في البشر، كما تقول. وتضيف: «كل شيء نمر به أو تراه أعيننا هو تراكم يُخزن داخلنا، وربما لا نتذكره، لكنه يخرج تلقائياً منا».
ويبدو من الغريب ما تراه المقيط من أن دافعها لعمل «سأتبع الريح» الذي قُدم في أكثر من عرض خلال فترة بينالي الدرعية، هو دافع لم يتضح لها حتى الآن، قائلة: «من الممكن أن أعرف بعد 10 سنوات لماذا قدمت هذا العمل»، وهو ما ترجعه لكون العقل الباطن يعمل بهذا الشكل، موضحة: «هو يدفعك دون أن تعلم الأسباب، إلا بعد انتهاء كل عمل أو بعد فترة زمنية، حيث تعود إلى محور معين في حياتك يصلك بسبب القيام بهذا العمل من الأساس».
وتردف: «أنا أسمع صوتي الداخلي وهو دافعي بالدخول في كل مسارات الفنون ما بين التصوير والفيلم والأداء الفني ومستقبلاً المسرح التجريبي». والمقيط كانت بدايتها في التصوير الفوتوغرافي قبل نحو 20 عاماً، ومنذ ذلك الحين وهي تخوض رحلة البحث عن معنى لهذه الحياة، ومعنى لوجودها فيها، مضيفة: «جميعها حوارات داخلية بيني وبين نفسي، فأنا لا أركز كثيراً على العوالم المادية، لأنني أدرك أنها ستدخلني في مداخل سطحية جداً... فالعالم المادي هو الذي شتت انتباهنا وأبعدنا عن الاستثمار بما هو داخلنا».
وتؤمن المقيط بفكرة أنها تستطيع عمل أشياء كثيرة في الحياة بدلاً من حصر ذاتها في مسار واحد فقط، قائلة: «طالما هناك صوت داخلي يدفعني للاستكشاف والدراسة والتطلع والحوار والتعاون مع أشخاص آخرين لديهم نظرة مختلفة عن الحياة، فإن كل هذا يمنحني الاستمرارية في الفن».
الفنانة السعودية مروة المقيط (تصوير: بشير صالح)
ذاكرة الفنانة... مزيج الطفولة
ولا يغيب تراكم الذكريات والصور المخزنة في ذاكرة المقيط عن هذا المزيج الذي يُحركها، مضيفة: «أتذكر في حرب الخليج كان عمري حينها 10 سنوات، وشهدت تلك الفترة بداية ظهور (الستالايت) والقنوات الفضائية، كنت أرى في القنوات العالمية مثل (سي إن إن) و(بي بي سي) الإعلانات التجارية الغريبة آنذاك، واللغة البصرية الجديدة التي لم نكن اعتدنا عليها، تلك اللغة المباشرة شعرت بأنها تحدثني كطفلة عبر التلفزيون».
وتوثق ذاكرة المقيط أيضاً تغيّر شكل الإعلانات التجارية في شوارع الرياض بعد تلك المرحلة، والشكل الجديد للغة البصرية التي ظهرت آنذاك، مبينة أن كل هذه التحولات أثرت بها كفنانة بشكل مبكر، مضيفة: «لا أعرف عقلي الباطن كيف كان يعمل حينها»، مشيرة إلى عظمة الدماغ في تشكيل مخزون مخيف داخل الإنسان، وتردف: «كنت أسمع صوتي الداخلي الذي يقول استمري في التصوير».
رحلة البداية
رغم أن مروة المقيط درست إدارة الأعمال في الجامعة، فإنها تمسكت بالتصوير، وأخذت درجة الماجستير في التصوير الصحافي، ثم دخلت في الفن المعاصر، وهو الذي جعلها تحاول أن تكتشف كيف من الممكن أن تنسى الكاميرا لتكون جزءاً من جسدها، أو عينها الثالثة، كما تقول.
وبسؤالها عن أعمالها الفنية المقبلة، تقول المقيط «الضياع هو أصل الفن»، مبينة أن الفنان حين يعلم ماذا سيفعل غداً فإن الأمر يبدو مملاً ورتيباً للغاية. إلا أن ذلك لا يتعارض مع كون ما تقدمه المقيط مدروساً ومخططاً له بشكل دقيق ومرتكزاً على بحث وتجربة وتدريبات طويلة، قائلة: «الأداء الفني بدأ معي منذ عام 2012 مع أول مشروع عملت عليه عن الصحة النفسية في السعودية، وارتبط ذلك بدراستي للماجستير، عبر امرأة سعودية وثّقت حالتها بالاكتئاب بكل المراحل، وقدمت أداء أمام الكاميرا بما يجسده عقلها أو الحالة التي تعيشها... وأعتقد أن هذا دفعني لمنحى الأداء الفني».
وفي عام 2015 كان أول فيلم أنتجته المقيط، وكان فيلم تجريبي بالتعاون مع السعودية رها محرق، ورغم تواضع الإمكانات ذاك الحين، فإنها تمكنت من التصوير تحت الماء، مشيرة إلى أن هذا المشروع وضعها على الخريطة الفنية. وتضيف: «في كل مشروع أحاول أن أضع نفسي في منطقة جديدة».
وتفخر المقيط بأن كل مشاريعها الضخمة هي بإنتاج سعودي 100 في المائة، مؤكدة ثقتها الدائمة بالبدايات المحلية، التي تراها بمثابة الإهداء للأهل والناس، مؤكدة أن الجمهور السعودي لديه تعطش كبير لكل أنواع الفن، وتوضح: «الجمهور المحلي هو دائماً الركيزة الأساسية، أما الجمهور العالمي فأظنه وصل لمرحلة التشبع والامتلاء».