جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

سياسي وتكنوقراطي اشتراكي إسباني في واجهة الأحداث

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم
TT

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

في أول تصريح أدلى به جوزيب بورّيل، عقب تعيينه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في معرض التعليق على تهديدات إدارة دونالد ترمب بالتدخل عسكرياً في الأزمة الفنزويلية، قال: «لا يجوز اللجوء إلى سياسة رعاة البقر، والتهديد بشهر السلاح لمعالجة هذه الأزمة المعقدة». يومذاك، كان بورّيل لا يزال يشغل منصب وزير خارجية الحكومة الاشتراكية الإسبانية. ولقد استدعى كلامه احتجاجاً شديداً من واشنطن وإسراعاً أوروبياً لاحتواء التوتّر الذي كان بدأ يخيّم على العلاقات مع الولايات المتحدة، ثم إنه، يومذاك، ذكّر خصوم بورّيل، الذين يأخذون عليه اندفاعه المفرط في التصريح ومقاربة القضايا الحسّاسة، بما كان ورد على لسانه في خطاب تسلّمه رئاسة البرلمان الأوروبي، حين قال إن «الأزمات الجيوسياسية التي تعصف اليوم بالعالم تفرض على الاتحاد الأوروبي تحديد موقعه بوضوح على الساحة الدولية التي تسيطر عليها سياسة القوة الصمّاء، حيث نرى بعض القادة لا يتورّعون عن اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وحيث تتحوّل الأدوات الاقتصادية إلى أسلحة فتّاكة».

عندما تكلّم جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، يوم الأربعاء الماضي، أمام البرلمان الأوروبي في إحاطة حول الأزمة الأوكرانية، لم يتردد في القول: «ما إن بلغني فجر ذلك اليوم المشؤوم أن القوات الروسية بدأت تقصف كييف، أدركت أننا طوينا صفحة من التاريخ، وأصبحنا على عتبة مرحلة جديدة تقتضي منا، نحن الأوروبيين، أن نكون جاهزين لهذا التحدي الذي وضعتنا أمامه روسيا. في عالم تحكمه القوة، علينا أن نكون مستعدين لتطوير قدراتنا الدفاعية والوسائل العسكرية اللازمة». وأردف: «ما حصل في الأيام القليلة الماضية كان أكثر مما حصل في أوروبا خلال العقود الماضية. إنها قفزة نوعيّة في مسار المشروع الأوروبي، انتقلت به ليصبح كتلة متراصة تعي بوضوح الأخطار التي تتعرّض لها، وقادرة على اتخاذ موقف سريع وموحّد لدرئها، ومستعدة لتمويل عمليات عسكرية وقتالية خارج حدودها».
لكن من هو الرجل الذي لم تنظر واشنطن بعين الرضا إلى تعيينه، والذي احتجت عليه إسرائيل رسمياً، والذي يقول معاونون إنه جاء ليهزّ شجرة السياسة الخارجية الأوروبية التي «تتراوح بين العقم والخمول»، على حد قوله، والذي لم يعد سرّاً أن الدوائر العليا في الاتحاد تجهد لاحتواء اندفاعه والحد من صلاحياته؟

النشأة والمسيرة
وُلد جوزيب بورّيل عام 1947 في بلدة بويبلا دي سيغور، من أعمال إقليم كاتالونيا (شمال شرقي إسبانيا)، في كنف عائلة ناضلت سياسياً ونقابياً ضد ديكتاتورية الجنرال فرنشيسكو فرنكو. ولقد استهل دراسته الجامعية في العاصمة الكتالونية برشلونة، حيث التحق بكلية الهندسة الصناعية، لينتقل بعد تخرّجه هناك إلى جامعة مدريد التقنية، حيث تخصص في العلوم الجوية والبحرية، ثم تابع تحصيله في الخارج حيث نال شهادة عليا في البحوث التطبيقية من جامعة ستانفورد الأميركية المرموقة، ثم في اقتصاد الطاقة من المعهد الفرنسي الأعلى للبترول، قبل أن يعود إلى مدريد حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة مدريد «الكومبلوتنسية»، وأصبح استاذاً للتحليل الاقتصادي والرياضيات التجارية.
في عام 1974، انتسب بورّيل إلى الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، حيث تدرّج بسرعة ليتولّى بعد خمس سنوات الإشراف على السياسة المالية في حكومة مدريد الإقليمية. وعندما حقق الاشتراكيون فوزهم التاريخي الكاسح في انتخابات عام 1982، بقيادة فيليبي غونزاليس، عيّن بورّيل أميناً عاماً لوزارة الاقتصاد والمال، ثم كلّف الإشراف على برنامج مكافحة الفساد الضريبي برتبة وزير دولة، ثم انتخب نائباً في البرلمان عن إقليم برشلونة.
بعدها، عندما أجرى غونزاليس تعديلاً واسعاً على حكومته في عام 1991 تولّى بورّيل حقيبة وزارة الأشغال العامة والنقل، ثم حقيبة السياحة والبيئة في الحكومة التالية، بعدما جدّدت ولايته في البرلمان. وعندما فاز الحزب الشعبي المحافظ في انتخابات عام 1996، أصبح بورّيل عضواً في اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي الذي كان غونزاليس استقال من أمانته العامة. ثم فاجأ الجميع عندما انتخبته قاعدة الحزب أميناً عاماً ومرشحاً لرئاسة الحكومة، غير أنه اضطر للاستقالة بعد ثلاث سنوات تحت وطأة الصراعات الداخلية، وبسبب فضيحة مالية طالت اثنين من معاونيه السابقين في وزارة المالية.
مع هذا، عام 2004، ترأس بورّيل اللائحة الاشتراكية لانتخابات البرلمان الأوروبي الذي تولّى رئاسته بغالبية ساحقة في ذلك العام. وبعد انتهاء ولايته في رئاسة البرلمان الأوروبي، تولّى إدارة المعهد الجامعي الأوروبي الشهير في مدينة فلورنسا الإيطالية الذي يُعتبر من أهم المعاقل الفكرية في الاتحاد الأوروبي.

ضد انفصال كاتالونيا
مع اندلاع الأزمة الانفصالية في كاتالونيا، إثر الاستفتاء على الاستقلال الذي دعت إليه الحكومة الإقليمية في خريف عام 2007، أعلن بورّيل رفضه الانفصال وشنّ حملة قاسية مدعومة بالحجج الاقتصادية الدامغة على القوى الانفصالية التي أعلنته ألدّ خصومها. وما يُذكر أن قيادة الحزب الاشتراكي تبنّت تصوّر بوريل لمعالجة الأزمة الانفصالية قبل أن يكلّفه بيدرو سانتشيز حقيبة وزارة الخارجية في الحكومة الإسبانية، التي شكّلها بعد سقوط حكومة ماريانو راخوي اليمينية.
وخلال القمة التي عقدها رؤساء الدول والحكومات في الاتحاد الأوروبي، مطلع يوليو (تموز) 2019، عيّن بورّيل ممثلاً أعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية خلفاً للإيطالية فيديريكا موغيريني، التي كانت قد تولّت المنصب لمدة 5 سنوات.
منذ اليوم الأول لتوليه مهام منصبه الجديد كان بوريل يشدّد على ضرورة أن «يغيّر الأوروبيون خرائطهم الذهنية للتعاطي مع العالم كما هو وليس كما نتمنّى أن يكون، كي لا تصبح أوروبا الخاسر الأول في التنافس المحتدم بين الصين والولايات المتحدة في جميع المجالات». وهو يرى أن الشرط الأساسي لذلك هو الخروج عن قاعدة الإجماع التي تحكم السياسة الخارجية الأوروبية وتصيبها بالشلل، وأن «تتعلّم أوروبا لغة السلطة وتتصرّف من موقعها كطرف جيوستراتيجي من الدرجة الأولى».
أيضاً، يدعو بورّيل إلى إسناد السياسة الخارجية الأوروبية إلى القدرات التجارية والاستثمارية الهائلة التي تتمتع بها بلدان الاتحاد، وإلى القوة المالية والانتشار الدبلوماسي الواسع، وأدوات الأمن والدفاع التي في متناول البلدان الأعضاء، من أجل أن يكون تأثيرها ونفوذها في مستوى حضورها العالمي وقوتها الاقتصادية. وهو يقول في هذا الصدد: «مشكلة أوروبا ليست افتقارها للقدرات، بل في انعدام وجود الإرادة السياسية الكافية لتفعيل هذه القدرات وتسخيرها في الاتجاه الصحيح».
يضع جوزيب بوريل في صدارة أولوياته الاهتمام بالأزمات في البلدان المحيطة بالاتحاد الأوروبي، والعمل على تهدئتها ومنع نشوب نزاعات جديدة، ووضع استراتيجية لشراكة عميقة مع أفريقيا، واعتماد سياسة واضحة للتعامل مع المثلّث الاستراتيجي الذي يسيطر على عالم اليوم: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسي. وهو مؤمن بأن هذه القوى الثلاث، رغم اختلافها في أوجه عدة، تلتقي حول مبدأ إخضاع العلاقات السياسية لثقل القوة العسكرية والاقتصادية.

الملف النووي الإيراني
أما بشأن الملف النووي الإيراني والعلاقات مع دول الخليج، فإن بوريل يوليه اهتماماً خاصاً؛ إذ يعتبر «أن المنطقة التي يتدفّق منها أكثر من ربع الطاقة في العالم، تشكّل الشريان الأبهر للاقتصاد العالمي». ويدعو إلى «تجديد» الاتفاق النووي مع إيران الذي «ليست له صفة المعاهدة الدولية لأن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لم يكن قادراً على التعهد بمصادقة الكونغرس عليه في ذلك الحين». اقتصر على منع إيران من إنتاج القنبلة النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وذلك على «أن تنفتح إيران على العالم الخارجي ويتعزز موقع القوى المعتدلة داخلها، لكن النتيجة كانت أن إيران ازدادت عدوانية على الصعيد الإقليمي، خاصة في الأزمة السورية والأوضاع في العراق واليمن ولبنان، وذلك رغم تحالفها مع الغرب والولايات المتحدة لمحاربة تنظيم (داعش)، واستمرّت في خطابها المعادي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج».
في سياق موازٍ، يدافع بوريل بقوة عن النظام الدولي متعدد الأطراف ومنظمة الأمم المتحدة، التي يعتبر أن بعض الإصلاحات الجذرية في أجهزتها أصبحت ضرورة ملحّة في ضوء التطورات الدولية الأخيرة، خصوصاً في مجلس الأمن الذي لم يعد يعكس التوزيع الراهن للموازين الاقتصادية والديموغرافية في العالم. ذلك أنه يرى أنها أصبحت تختلف كثيراً عما كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولذا، فهو يدعو إلى إعادة النظر في شروط استخدام حق النقض «الفيتو» داخل مجلس الأمن، للحد من هيمنة الدول الكبرى على قراراته.

غزو أوكرانيا
على صعيد آخر، يرى بوريل أن الأزمة الأوكرانية «تحمل كل البذور الكفيلة باندلاع حرب عالمية ثالثة»، وأنها أعادت السياسة الخارجية الأوروبية إلى دائرة الضوء بعد ردة الفعل السريعة والموحدة لبلدان الاتحاد الأوروبي في مواجهة الغزو الروسي. وكان بوريل قد فرغ في خريف العام الماضي من وضع وثيقة يعمل على إعدادها منذ توليه منصبه، وهي تلخّص تصوره لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأوروبية في العقود المقبلة.
وخلال عرضه للوثيقة التي تحمل عنوان «البوصلة الاستراتيجية»، أواخر السنة الماضية، أمام المفوضية الأوروبية، قال الممثل الأعلى: «إننا نعيش في محيط استراتيجي بالغ التعقيد والخطورة، وهو لا يشبه في شيء ما كان عليه في العقود الماضية. إنه محيط أكثر عدوانية من أي وقت قريب مضى، حيث يتعرّض الأمن الاقتصادي والاستراتيجي الأوروبي للهجوم كل يوم، في حين يتدهور المشهد السياسي باطراد داخل الاتحاد. إن من واجبنا التأهب لمواجهة هذا الواقع الجديد، بدءاً بتطوير قدراتنا العسكرية بما يمكننا من نشر قواتنا ميدانياً بما يتناسب مع التهديد الذي تتعرّض له الأراضي الأوروبية، بالتعاون والتنسيق الوثيق مع الحلف الأطلسي الذي يبقى عماد الدفاع المشترك الذي لا بديل له».
وبالذات، عن الغزو الروسي لأوكرانيا، يقول بوريل: «نحن الآن في حرب، لأن رؤية بوتين للتاريخ تختلف جذرياً عن رؤيتنا عالمه الفكري لا يشبه عالمنا. علينا أن نتصدّى له بكل الوسائل، مدركين أنه أخطأ في حساباته وافتراضاته. لقد أعتقد أن أوكرانيا ضعيفة وخائفة، وأن أوروبا منقسمة على ذاتها وتحت رحمة الغاز الذي تمدّها به روسيا، وأن الولايات المتحدة شغلتها الصين عن بقية العالم، وأن جيشه سيسيطر على أوكرانيا في غضون أيام وينصّب في كييف نظاما خاضعاً له. لكن بوتين أخطأ في كل حساباته، وهذه الحرب ستدوم».
أخيراً، كان بوريل قد مهّد لوثيقته الاستراتيجية بملاحظة شخصية قال إنها غير قابلة للتفاوض، جاء فيها قوله: «إننا اليوم نعيش في عالم بات من الممكن أن يُستخدم أي شيء فيه كسلاح للاعتداء على الآخرين أو إخضاعهم. لم يعد كافياً أن يمارس الاتحاد الأوروبي (القوة الناعمة)، بواسطة السياسة التجارية وحقوق الإنسان».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.