تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من «الإجراءات الاستثنائية»

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية
TT

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من القرارات «الاستثنائية» التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) 2021، وبرّرها أنصاره بـ«تصحيح مسار ثورة 2011»، تعمقت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وأخذت بعض هذه الأزمات أبعاداً دولية خطيرة، فيما يجمع كل الخبراء على أن تونس ستكون من بين أكثر البلدان تضرراً من حرب أوكرانيا وروسيا ومن تضخم أسعار المحروقات عالمياً، في وقت تتعثر مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية للحصول على قروض لا تقل عن 6 مليارات دولار أميركي تحتاجها تونس لتغطية عجز مالي غير مسبوق في موازنة الدولة للعام الحالي.
وفي حين تؤكد مصادر حكومية أن السلطات انتصرت سياسياً على معارضي الرئيس سعيّد «والإجراءات الاستثنائية»، تتعالى تحذيرات داخل البلاد وخارجها من سيناريوهات «إفلاس الدولة وآلاف الشركات الخاصة»، ومن انفجار سياسي أمني اجتماعي مجهول العواقب، و«انهيار بعض مؤسسات الدولة» ومؤسساتها المالية والسياسية. وفي موازاة ذلك، تزايدت الضغوط الأممية والدولية لدفع السلطات إلى العودة لـ«المسارين الديمقراطي والبرلماني واحترام استقلالية القضاء والحريات العامة والفردية».

كشف الخبير الاقتصادي والنقابي التونسي عبد الجليل البدوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن الدراسة التي نشرها قبل أيام في كتاب حول الأبعاد الدولية لميزانية الحكومة عام 2022 تؤكد أن «المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية تجاوزت كل الخطوط الحمراء». وأضاف أن الأوضاع استفحلت خلال الأشهر القليلة الماضية، وتوشك أن تتطور إلى «انهيار شامل للدولة» وإلى «انتشار المجاعة داخل الفئات الفقيرة»، وإلى «مزيد من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والعاملين في الوظيفة العمومية».
البدوي توقع أيضاً أن تتزايد ضغوط صندوق النقد الدولي والخارج على السلطات التونسية بسبب ثغرات ميزانية 2022، بما يوشك أن يجعل من الدولة «رهينة لدى الصندوق». وهو ما يعني دفعها نحو «إحالة عشرات آلاف الموظفين على البطالة أو التقاعد المبكر وبيع المؤسسات العمومية المفلسة، مثل شركات النقل والكهرباء والغاز والنفط والحبوب والمواد الغذائية... إلخ».

نسب الفقر والبطالة
في الاتجاه نفسه، أورد مالك الزاهي، وزير الشؤون الاجتماعية والناطق الرسمي باسم الحكومة، قبل أيام أن 963 ألف عائلة تونسية تضم 4 ملايين مواطن، أي نحو ثلث الشعب، أصبحت تعاني من الفقر. وكشف الناطق باسم الحكومة أن الإخفاق المدرسي والاضطرابات في قطاع التعليم تسببا في ترفيع نسبة الأميين في البلاد من مليون قبل 10 سنوات إلى نحو مليونين حالياً. ومن جانبه، حمّل الخبير الاقتصادي الدولي والأكاديمي المستقل جمال الدين العويديدي مسؤولية هذه المؤشرات «لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ مدة، وللحكومة الحالية».
وفي سياق متصل، أورد عبد الرحمن الهذيلي، رئيس «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن دراسة أعدها خبراء مؤسسته كشفت أن عدد الإضرابات والاعتصامات والتحركات الاحتجاجية تجاوزت خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من العام الجاري الألفين، وأن عددها يوشك أن يتضاعف خلال الأشهر المقبلة بسبب غلاء الأسعار واستفحال مشكلات البطالة والفقر، وانسداد الآفاق السياسية والمهنية والثقافية لدى الشباب «الذي أصبح لا يثق في مؤسسات الدولة وفي قدرتها على توفير شغل لائق له». ولقد سجلت الدراسة عينها أن غالبية الاحتجاجات الشبابية والتحركات الاجتماعية والسياسية أصبحت منظمة ولم تعد تلقائية وفوضوية، وأنها انتشرت كذلك في العاصمة والجهات المهمشة وبين مئات الآلاف من أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل.
في هذه الأثناء، حذّر الزعيم المعارض والوزير السابق أحمد نجيب الشابي من استفحال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بعد 7 أشهر مما وصفه بـ«الانقلاب على الدستور». كذلك، طالب البرلماني والخبير المالي عياض اللومي بإقالة حكومة «التكنوقراط» الحالية برئاسة نجلاء بودن، قائلاً إن فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة منذ «منعرج 25 يوليو» يذكّر بـ«حكومة هشام المشيشي التي أطاح بها الرئيس قيس سعيّد وعمرها 7 أشهر فقط واتهمها بالفشل والفساد».
وبينما حذّر رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، من الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية للتضخم المالي وارتفاع الأسعار، فإنه استدل بكون آخر تقارير المؤسسة الحكومية للإحصاء أوردت أن الأسعار ارتفعت بنسبة ناهزت 8 في المائة، فيما ناهزت نسب ارتفاع أسعار لحوم الدجاج 23 في المائة، وأسعار زيت الزيتون 22 في المائة، وأسعار البيض 16 في المائة، كما زادت أسعار الفواكه 17 في المائة، وأسعار الأسماك 10 في المائة.

قرارات رئاسية جديدة
من جهة أخرى، يتساءل مراقبون عن موقف الحكومة ورئاسة الجمهورية والأوساط المحسوبة عليها، وبينها «تنسيقيات قيس سعيّد» و«حراك 25 يوليو» من المتغيرات السلبية السريعة التي تربط المعارضة وبعض النقابات بينها وبين غلق البرلمان المنتخب وشلّ عدد من المؤسسات المنتخبة، من بينها المجلس الأعلى للقضاء.
الرئيس سعيّد والمقربون منه يردّون بالقول إن تسوية كل المشكلات تبدأ بـ«محاربة الفساد داخل قطاعات القضاء وعالم المال والأعمال»، وإن قصر قرطاج أصدر قرارات رئاسية بالجملة نصّت على عقوبات بالسجن وعقوبات مالية تشمل رجال الأعمال والتجار المتهمين بالاحتكار وترفيع الأسعار و«تجويع الشعب». كذلك أعلن الرئيس سعيّد خلال زيارات ليلية أداها إلى مقر وزارة الداخلية عن إجراءات أمنية حازمة بهدف «التصدي» لمن وصفهم بـ«المتآمرين والخونة والمتورّطين في تدمير الاقتصاد وترفيع الأسعار بهدف دفع الشعب نحو التجويع والتركيع».
لكن عدداً من الأكاديميين المستقلين مثل جمال الدين العويديدي، وبعض وزراء الشؤون الاقتصادية السابقين مثل توفيق الراجحي، يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية السياسية الحالية، بأبعادها الوطنية والدولية، لا يمكن اختزالها في «إجراءات استثنائية أمنية» قد تبرّرها «مؤامرات بعض المتهمين بالاحتكار والتهريب والفساد المال»، بل تمتد إلى «أزمة بديل» أو «بدائل». وهنا أيضاً انتقد بعض الخبراء والإعلاميين، مثل الكاتب الصحافي حسان العيادي، «تقديم رئيس الدولة وبعض المقربين منه إجابات أمنية للأزمة السياسية والاقتصادية، وللعجز التجاري، ولفشل الحكومة في توفير الموارد المالية الأجنبية التي تستحقها ميزانية الدولة، والتي سوف تحتاجها في توريد حاجيات البلاد من المواد الغذائية والمحروقات والتجهيزات الضرورية».

تأثير الأزمة الأوكرانية
في هذه الأثناء، دعا بلاغ رسمي صدر عن رئاسة «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» بتونس الحكومة إلى التعجيل بتشكيل خلية أزمة لإيجاد بدائل تتصل بمصادر شراء القمح في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا التي تعد أول مزود لتونس بهذه المواد. وطالب خبراء «المعهد» في وثيقة أصدروها تحت عنوان «الحرب في أوكرانيا... التأثيرات المحتملة والإجراءات المطلوبة» بإيجاد آليات للتمويل، لأن تونس تقع حالياً تحت وطأة خطر مرتفع للتخلف عن سداد ديونها. إذ تعاني تونس، التي تستورد 84 في المائة من حاجياتها من القمح اللين و40 في المائة من القمح الصلب و50 في المائة من حاجاتها من الشعير العلفي، من نقص مزمن على مستوى قدراتها التخزينية التي تغطي 3 أشهر فقط. ويمكن أن تؤدي أسعار تداول الحبوب في السوق العالمية، حالياً، إلى أعباء إضافية لتناهز مليار دولار ونصف مليار. وقد تؤدي زيادات الأسعار الحالية للمحروقات وللحبوب في مضاعفة أعباء «صندوق الدعم» التي تضخمت خلال العشرية الماضية، واستفحلت منذ 7 أشهر.
في المقابل، برزت تباينات في تقييم السياسات المالية والبنكية والنقدية للسلطات منذ 7 أشهر، وذلك بعد تزايد تدخل الحكومة في قرارات البنك المركزي والبنوك. وهنا انتقد بعض السياسيين والنقابيين، مثل عبد الجليل البدوي، اعتماد «سياسة تضارب المصالح» بين رئاسة البنك المركزي من جهة، ووزارة المالية والحكومة من جهة أخرى. في حين كشف أحمد كرم، المدير العام لأحد البنوك التجارية والرئيس السابق للجمعية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية التونسية، أن نسبة القروض والتمويلات التي توفرها البنوك التونسية للدولة ارتفعت من 6 في المائة عام 2010 إلى 22 في المائة حالياً. وأشار الناشط السياسي والخبير الاقتصادي الصادق جبنون إلى أن تدخل البنوك لتمويل المستثمرين والخواص تراجع بسبب رصد الأموال لدعم ميزانية الدولة والمؤسسات العمومية التي تواجه صعوبات بالجملة.
وبينما حذر زعماء نقابيون وسياسيون من «مغامرة توريط البنوك» في تحمل أعباء كل مخاطر الاقتصاد التونسي ومسؤولية تمويل الدولة ونفقاتها الاجتماعية والاستهلاكية، معتبرين أن هذه الوضعية قد تضر بقدرة البنوك على ممارسة نشاطها الأصلي والمساهمة في خلق الثروة في البلاد عبر تمويل المستثمرين ورجال الأعمال والخواص، رأى أحمد كرم أن الوضعية الاقتصادية والمالية والسياسية أصبحت حرجة جداً اليوم. وأردف أن الاستثمار وعالم الأعمال يتعثران ما يكثّف «ضبابية المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد». وتابع كرم أن أرباح البنوك التونسية انخفضت العام الماضي بـ30 في المائة. ورجح أن يتواصل هذا الانخفاض ما لم تتغير الأولويات السياسية والمالية لصناع القرار.

الأزمة السياسية
ما سبق كان حال الواقع الاقتصادي، ولكن ماذا عن الحصيلة السياسية للأشهر السبعة من «الإجراءات الاستثنائية» وغلق البرلمان وعدة مؤسسات دستورية وتجميد أغلب فصول الدستور؟
مؤيدو الرئيس سعيّد ينوهون رداً على هذا التساؤل بالإشارة إلى «شعبية قيس سعيّد المرتفعة»، بينما يصعّد خصومه السياسيون خطابهم، بمن فيهم بعض مَن كانوا من أكثر المقربين إليه، مثل قيادات «الكتلة الديمقراطية» وحزبي «التيار الديمقراطي» و«الشعب» بزعامة الوزراء السابقين محمد عبو وغازي الشواشي وسالم الأبيض. ولقد ساهمت استقالة بعض الوزراء والمستشارين في قصر قرطاج، من بينهم الوزيرة ومديرة مكتب الرئيس نادية عكاشة، في خلط الأوراق وتعقيد الموقف وسط ترويج الإعلام لـ«خلافات داخل السلطة» وخاصة بين وزير الداخلية توفيق شرف الدين وخصومه.
ثم إنه على الرغم من توقف المظاهرات المعارضة للسلطة التي نظمها كل من هيئة «مواطنون ضد الانقلاب» وأنصار «المبادرة الديمقراطية» و«الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية»، فإن جبهات سياسية بدأت تتشكل بزعامة شخصيات حقوقية وعلمانية وسياسيين لعبوا في العشرية الماضية مثل الوزراء السابقين رضا بالحاج وأحمد نجيب الشابي وعبد الرحمن الأدغم وعبد الرؤوف بالطبيب وزعماء «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» بزعامة غازي الشواشي وخليل الزاوية وعصام الشابي.
ودولياً، صعّد عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي والبرلمانات الأوروبية والدولية انتقاداتهم للنظام التونسي، بينما وجّه عدد من السفراء الأميركيين السابقين بتونس والدول العربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن تطالبه بالتدخل «دعماً للاستثناء التونسي وللديمقراطية العربية الوحيدة التي نجحت ثم وقع الانقلاب عليها». وفي حين لوّح جوزيب بورّيل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعقوبات اقتصادية ضد الحكومة التونسية، أعربت ميشيل باشيليه، مفوضة الأمم المتحدة السّامية لحقوق الإنسان، في كلمة لها بثّت على موقع المفوضية على اليوتيوب، عن «قلق عميق لاستمرار تعليق عمل مجلس نواب الشعب في تونس ولقرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء ومضايقة المعارضين».
باشيليه، وهي الرئيسة السابقة لجمهورية تشيلي، رأت أن حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس قرار يقوض سيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في البلاد. كذلك، انتقدت مفوضية حقوق الإنسان الأممية والاتحادات الدولية للمحامين والبرلمانيين وحقوق الإنسان «محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية».

انفراج سياسي واقتصادي
في المقابل، بادرت السلطات الأمنية والسياسية أخيراً إلى الإفراج عن البرلماني الوزير السابق للعدل نور الدين البحيري، أحد قياديي حزب «حركة النهضة»، وألغت قرار فرض الإقامة الجبرية الذي صدر ضده وضد عدد من السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال. ولقد رحب نقيب المحامين إبراهيم بودربالة وعدد من زعماء المعارضة بالإفراج عن البحيري، وببوادر «الانفراج السياسي»، رغم انتقاداتهم لتوقيف نقيب المحامين السابق عبد الرزاق الكيلاني أخيراً من قبل محكمة عسكرية بسبب تصريح سياسي.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من انشغال العالم بالغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، حصلت تونس أخيراً على وعود من البنك العالمي والبنك الأفريقي للتنمية ومؤسسات مالية عالمية وإقليمية دعماً لبعض المشروعات التنموية والاجتماعية. وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الاقتصاد والتخطيط أن الوزير سمير سعيّد وقّع مع البنك الأفريقي للتنمية بتونس على اتفاقية القسط الثاني من القرض الممنوح من البنك لتونس لإنجاز المرحلة الثانية من برنامج تطوير البنية التحتية للطرقات بقيمة 104 ملايين يورو، أي ما يعادل 335 مليون دينار تونسي.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.