تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من «الإجراءات الاستثنائية»

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية
TT

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

تونس: المأزق الاقتصادي يعمّق الأزمة السياسية

بعد 7 أشهر من القرارات «الاستثنائية» التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو (تموز) 2021، وبرّرها أنصاره بـ«تصحيح مسار ثورة 2011»، تعمقت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وأخذت بعض هذه الأزمات أبعاداً دولية خطيرة، فيما يجمع كل الخبراء على أن تونس ستكون من بين أكثر البلدان تضرراً من حرب أوكرانيا وروسيا ومن تضخم أسعار المحروقات عالمياً، في وقت تتعثر مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي والبنوك العالمية للحصول على قروض لا تقل عن 6 مليارات دولار أميركي تحتاجها تونس لتغطية عجز مالي غير مسبوق في موازنة الدولة للعام الحالي.
وفي حين تؤكد مصادر حكومية أن السلطات انتصرت سياسياً على معارضي الرئيس سعيّد «والإجراءات الاستثنائية»، تتعالى تحذيرات داخل البلاد وخارجها من سيناريوهات «إفلاس الدولة وآلاف الشركات الخاصة»، ومن انفجار سياسي أمني اجتماعي مجهول العواقب، و«انهيار بعض مؤسسات الدولة» ومؤسساتها المالية والسياسية. وفي موازاة ذلك، تزايدت الضغوط الأممية والدولية لدفع السلطات إلى العودة لـ«المسارين الديمقراطي والبرلماني واحترام استقلالية القضاء والحريات العامة والفردية».

كشف الخبير الاقتصادي والنقابي التونسي عبد الجليل البدوي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن الدراسة التي نشرها قبل أيام في كتاب حول الأبعاد الدولية لميزانية الحكومة عام 2022 تؤكد أن «المؤشرات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السلبية تجاوزت كل الخطوط الحمراء». وأضاف أن الأوضاع استفحلت خلال الأشهر القليلة الماضية، وتوشك أن تتطور إلى «انهيار شامل للدولة» وإلى «انتشار المجاعة داخل الفئات الفقيرة»، وإلى «مزيد من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والعاملين في الوظيفة العمومية».
البدوي توقع أيضاً أن تتزايد ضغوط صندوق النقد الدولي والخارج على السلطات التونسية بسبب ثغرات ميزانية 2022، بما يوشك أن يجعل من الدولة «رهينة لدى الصندوق». وهو ما يعني دفعها نحو «إحالة عشرات آلاف الموظفين على البطالة أو التقاعد المبكر وبيع المؤسسات العمومية المفلسة، مثل شركات النقل والكهرباء والغاز والنفط والحبوب والمواد الغذائية... إلخ».

نسب الفقر والبطالة
في الاتجاه نفسه، أورد مالك الزاهي، وزير الشؤون الاجتماعية والناطق الرسمي باسم الحكومة، قبل أيام أن 963 ألف عائلة تونسية تضم 4 ملايين مواطن، أي نحو ثلث الشعب، أصبحت تعاني من الفقر. وكشف الناطق باسم الحكومة أن الإخفاق المدرسي والاضطرابات في قطاع التعليم تسببا في ترفيع نسبة الأميين في البلاد من مليون قبل 10 سنوات إلى نحو مليونين حالياً. ومن جانبه، حمّل الخبير الاقتصادي الدولي والأكاديمي المستقل جمال الدين العويديدي مسؤولية هذه المؤشرات «لسياسات الحكومات المتعاقبة منذ مدة، وللحكومة الحالية».
وفي سياق متصل، أورد عبد الرحمن الهذيلي، رئيس «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن دراسة أعدها خبراء مؤسسته كشفت أن عدد الإضرابات والاعتصامات والتحركات الاحتجاجية تجاوزت خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من العام الجاري الألفين، وأن عددها يوشك أن يتضاعف خلال الأشهر المقبلة بسبب غلاء الأسعار واستفحال مشكلات البطالة والفقر، وانسداد الآفاق السياسية والمهنية والثقافية لدى الشباب «الذي أصبح لا يثق في مؤسسات الدولة وفي قدرتها على توفير شغل لائق له». ولقد سجلت الدراسة عينها أن غالبية الاحتجاجات الشبابية والتحركات الاجتماعية والسياسية أصبحت منظمة ولم تعد تلقائية وفوضوية، وأنها انتشرت كذلك في العاصمة والجهات المهمشة وبين مئات الآلاف من أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل.
في هذه الأثناء، حذّر الزعيم المعارض والوزير السابق أحمد نجيب الشابي من استفحال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية بعد 7 أشهر مما وصفه بـ«الانقلاب على الدستور». كذلك، طالب البرلماني والخبير المالي عياض اللومي بإقالة حكومة «التكنوقراط» الحالية برئاسة نجلاء بودن، قائلاً إن فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة منذ «منعرج 25 يوليو» يذكّر بـ«حكومة هشام المشيشي التي أطاح بها الرئيس قيس سعيّد وعمرها 7 أشهر فقط واتهمها بالفشل والفساد».
وبينما حذّر رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، من الأبعاد السياسية والأمنية والاجتماعية للتضخم المالي وارتفاع الأسعار، فإنه استدل بكون آخر تقارير المؤسسة الحكومية للإحصاء أوردت أن الأسعار ارتفعت بنسبة ناهزت 8 في المائة، فيما ناهزت نسب ارتفاع أسعار لحوم الدجاج 23 في المائة، وأسعار زيت الزيتون 22 في المائة، وأسعار البيض 16 في المائة، كما زادت أسعار الفواكه 17 في المائة، وأسعار الأسماك 10 في المائة.

قرارات رئاسية جديدة
من جهة أخرى، يتساءل مراقبون عن موقف الحكومة ورئاسة الجمهورية والأوساط المحسوبة عليها، وبينها «تنسيقيات قيس سعيّد» و«حراك 25 يوليو» من المتغيرات السلبية السريعة التي تربط المعارضة وبعض النقابات بينها وبين غلق البرلمان المنتخب وشلّ عدد من المؤسسات المنتخبة، من بينها المجلس الأعلى للقضاء.
الرئيس سعيّد والمقربون منه يردّون بالقول إن تسوية كل المشكلات تبدأ بـ«محاربة الفساد داخل قطاعات القضاء وعالم المال والأعمال»، وإن قصر قرطاج أصدر قرارات رئاسية بالجملة نصّت على عقوبات بالسجن وعقوبات مالية تشمل رجال الأعمال والتجار المتهمين بالاحتكار وترفيع الأسعار و«تجويع الشعب». كذلك أعلن الرئيس سعيّد خلال زيارات ليلية أداها إلى مقر وزارة الداخلية عن إجراءات أمنية حازمة بهدف «التصدي» لمن وصفهم بـ«المتآمرين والخونة والمتورّطين في تدمير الاقتصاد وترفيع الأسعار بهدف دفع الشعب نحو التجويع والتركيع».
لكن عدداً من الأكاديميين المستقلين مثل جمال الدين العويديدي، وبعض وزراء الشؤون الاقتصادية السابقين مثل توفيق الراجحي، يعتبرون أن الأزمة الاقتصادية السياسية الحالية، بأبعادها الوطنية والدولية، لا يمكن اختزالها في «إجراءات استثنائية أمنية» قد تبرّرها «مؤامرات بعض المتهمين بالاحتكار والتهريب والفساد المال»، بل تمتد إلى «أزمة بديل» أو «بدائل». وهنا أيضاً انتقد بعض الخبراء والإعلاميين، مثل الكاتب الصحافي حسان العيادي، «تقديم رئيس الدولة وبعض المقربين منه إجابات أمنية للأزمة السياسية والاقتصادية، وللعجز التجاري، ولفشل الحكومة في توفير الموارد المالية الأجنبية التي تستحقها ميزانية الدولة، والتي سوف تحتاجها في توريد حاجيات البلاد من المواد الغذائية والمحروقات والتجهيزات الضرورية».

تأثير الأزمة الأوكرانية
في هذه الأثناء، دعا بلاغ رسمي صدر عن رئاسة «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» بتونس الحكومة إلى التعجيل بتشكيل خلية أزمة لإيجاد بدائل تتصل بمصادر شراء القمح في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا التي تعد أول مزود لتونس بهذه المواد. وطالب خبراء «المعهد» في وثيقة أصدروها تحت عنوان «الحرب في أوكرانيا... التأثيرات المحتملة والإجراءات المطلوبة» بإيجاد آليات للتمويل، لأن تونس تقع حالياً تحت وطأة خطر مرتفع للتخلف عن سداد ديونها. إذ تعاني تونس، التي تستورد 84 في المائة من حاجياتها من القمح اللين و40 في المائة من القمح الصلب و50 في المائة من حاجاتها من الشعير العلفي، من نقص مزمن على مستوى قدراتها التخزينية التي تغطي 3 أشهر فقط. ويمكن أن تؤدي أسعار تداول الحبوب في السوق العالمية، حالياً، إلى أعباء إضافية لتناهز مليار دولار ونصف مليار. وقد تؤدي زيادات الأسعار الحالية للمحروقات وللحبوب في مضاعفة أعباء «صندوق الدعم» التي تضخمت خلال العشرية الماضية، واستفحلت منذ 7 أشهر.
في المقابل، برزت تباينات في تقييم السياسات المالية والبنكية والنقدية للسلطات منذ 7 أشهر، وذلك بعد تزايد تدخل الحكومة في قرارات البنك المركزي والبنوك. وهنا انتقد بعض السياسيين والنقابيين، مثل عبد الجليل البدوي، اعتماد «سياسة تضارب المصالح» بين رئاسة البنك المركزي من جهة، ووزارة المالية والحكومة من جهة أخرى. في حين كشف أحمد كرم، المدير العام لأحد البنوك التجارية والرئيس السابق للجمعية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية التونسية، أن نسبة القروض والتمويلات التي توفرها البنوك التونسية للدولة ارتفعت من 6 في المائة عام 2010 إلى 22 في المائة حالياً. وأشار الناشط السياسي والخبير الاقتصادي الصادق جبنون إلى أن تدخل البنوك لتمويل المستثمرين والخواص تراجع بسبب رصد الأموال لدعم ميزانية الدولة والمؤسسات العمومية التي تواجه صعوبات بالجملة.
وبينما حذر زعماء نقابيون وسياسيون من «مغامرة توريط البنوك» في تحمل أعباء كل مخاطر الاقتصاد التونسي ومسؤولية تمويل الدولة ونفقاتها الاجتماعية والاستهلاكية، معتبرين أن هذه الوضعية قد تضر بقدرة البنوك على ممارسة نشاطها الأصلي والمساهمة في خلق الثروة في البلاد عبر تمويل المستثمرين ورجال الأعمال والخواص، رأى أحمد كرم أن الوضعية الاقتصادية والمالية والسياسية أصبحت حرجة جداً اليوم. وأردف أن الاستثمار وعالم الأعمال يتعثران ما يكثّف «ضبابية المستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد». وتابع كرم أن أرباح البنوك التونسية انخفضت العام الماضي بـ30 في المائة. ورجح أن يتواصل هذا الانخفاض ما لم تتغير الأولويات السياسية والمالية لصناع القرار.

الأزمة السياسية
ما سبق كان حال الواقع الاقتصادي، ولكن ماذا عن الحصيلة السياسية للأشهر السبعة من «الإجراءات الاستثنائية» وغلق البرلمان وعدة مؤسسات دستورية وتجميد أغلب فصول الدستور؟
مؤيدو الرئيس سعيّد ينوهون رداً على هذا التساؤل بالإشارة إلى «شعبية قيس سعيّد المرتفعة»، بينما يصعّد خصومه السياسيون خطابهم، بمن فيهم بعض مَن كانوا من أكثر المقربين إليه، مثل قيادات «الكتلة الديمقراطية» وحزبي «التيار الديمقراطي» و«الشعب» بزعامة الوزراء السابقين محمد عبو وغازي الشواشي وسالم الأبيض. ولقد ساهمت استقالة بعض الوزراء والمستشارين في قصر قرطاج، من بينهم الوزيرة ومديرة مكتب الرئيس نادية عكاشة، في خلط الأوراق وتعقيد الموقف وسط ترويج الإعلام لـ«خلافات داخل السلطة» وخاصة بين وزير الداخلية توفيق شرف الدين وخصومه.
ثم إنه على الرغم من توقف المظاهرات المعارضة للسلطة التي نظمها كل من هيئة «مواطنون ضد الانقلاب» وأنصار «المبادرة الديمقراطية» و«الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية»، فإن جبهات سياسية بدأت تتشكل بزعامة شخصيات حقوقية وعلمانية وسياسيين لعبوا في العشرية الماضية مثل الوزراء السابقين رضا بالحاج وأحمد نجيب الشابي وعبد الرحمن الأدغم وعبد الرؤوف بالطبيب وزعماء «تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية» بزعامة غازي الشواشي وخليل الزاوية وعصام الشابي.
ودولياً، صعّد عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي والبرلمانات الأوروبية والدولية انتقاداتهم للنظام التونسي، بينما وجّه عدد من السفراء الأميركيين السابقين بتونس والدول العربية رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأميركي جو بايدن تطالبه بالتدخل «دعماً للاستثناء التونسي وللديمقراطية العربية الوحيدة التي نجحت ثم وقع الانقلاب عليها». وفي حين لوّح جوزيب بورّيل، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعقوبات اقتصادية ضد الحكومة التونسية، أعربت ميشيل باشيليه، مفوضة الأمم المتحدة السّامية لحقوق الإنسان، في كلمة لها بثّت على موقع المفوضية على اليوتيوب، عن «قلق عميق لاستمرار تعليق عمل مجلس نواب الشعب في تونس ولقرار حلّ المجلس الأعلى للقضاء ومضايقة المعارضين».
باشيليه، وهي الرئيسة السابقة لجمهورية تشيلي، رأت أن حل المجلس الأعلى للقضاء في تونس قرار يقوض سيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في البلاد. كذلك، انتقدت مفوضية حقوق الإنسان الأممية والاتحادات الدولية للمحامين والبرلمانيين وحقوق الإنسان «محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية».

انفراج سياسي واقتصادي
في المقابل، بادرت السلطات الأمنية والسياسية أخيراً إلى الإفراج عن البرلماني الوزير السابق للعدل نور الدين البحيري، أحد قياديي حزب «حركة النهضة»، وألغت قرار فرض الإقامة الجبرية الذي صدر ضده وضد عدد من السياسيين والبرلمانيين ورجال الأعمال. ولقد رحب نقيب المحامين إبراهيم بودربالة وعدد من زعماء المعارضة بالإفراج عن البحيري، وببوادر «الانفراج السياسي»، رغم انتقاداتهم لتوقيف نقيب المحامين السابق عبد الرزاق الكيلاني أخيراً من قبل محكمة عسكرية بسبب تصريح سياسي.
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من انشغال العالم بالغزو الروسي لأوكرانيا والتصعيد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي «ناتو»، حصلت تونس أخيراً على وعود من البنك العالمي والبنك الأفريقي للتنمية ومؤسسات مالية عالمية وإقليمية دعماً لبعض المشروعات التنموية والاجتماعية. وفي هذا الصدد، أعلنت وزارة الاقتصاد والتخطيط أن الوزير سمير سعيّد وقّع مع البنك الأفريقي للتنمية بتونس على اتفاقية القسط الثاني من القرض الممنوح من البنك لتونس لإنجاز المرحلة الثانية من برنامج تطوير البنية التحتية للطرقات بقيمة 104 ملايين يورو، أي ما يعادل 335 مليون دينار تونسي.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.