تستيقظ كييف الساعة السابعة صباحاً. يُترك للسكان حرية التنقل وممارسة ما أمكن من حياة يومية، يقطعها صوت ضربة جوية نفذها الطيران الروسي على مقربة من المدينة، سبقها صافرات إنذار ونزول الناس إلى الملاجئ. النبض الحقيقي للمدينة الآن هو الاستعدادات للقتال والحذر من كل شيء.
العاصمة المنبسطة على مساحة ألف كيلومتر مربع والمقطونة (قبل الحرب) من أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، استقبلت الليلة الماضية (أول من أمس) على صوت صافرات الإنذار التي دفعت بسكان بعض الأحياء فيها إلى النزول للملاجئ، حيث كانت عناصر من الشرطة مولجة بتنظيم دخولهم والتحقق من هويات البعض وحتى أحيانا تفتيش الحقائق التي يحملونها. عند الثامنة نامت كل المدينة، أو على الأقل سهرت في المنازل حيث لم يقلق هدير الطائرات سهر أبناء كييف. حظر التجول، الذي يبدأ موعده في الساعة الثامنة في كييف، هو ما دفع غريغوري (٥٥ عاماً) لعدم التوقف على الطريق الطويلة الممتدة من شيرنفستسي إلى كييف. كان يمكن قطع الطريق عادة بمدة لا تتجاوز سبع ساعات، إلا أن الطيران الروسي ضرب العديد من الطرق، وأجزاء أخرى تشهد اشتباكات، فبات على غريغوي، الرجل الأشيب، أن يدخن في الباص الذي ينقل تطوعا مساعدات تضم فيما تضم حليب أطفال وأجهزة تعقيم بدل أن يتوقف ويدخن في العراء.
من السابعة صباحاً وغريغوري يصارع الطريق. يبدو كل شيء طبيعياً في البداية. الجنرال الأبيض (الثلج) عاد ليزور جنوب غربي أوكرانيا كما شمال وسطها حيث كييف، ودرجات الحرارة تدنت إلى أربع وست درجات تحت الصفر في بعض المناطق. ربما هذه الحرارة المتدنية لا تساعد الآليات العسكرية الروسية على العبور فوق الأرض المجلدة نظراً لقلة سمك القشرة الجليدية فوق الأوحال، ولكنها ستجبر حتما الجنود الروس والأوكران على السعي لوسائل التدفئة، وخفض حركتهم ما أمكن، وتناول الأطعمة الدسمة للحفاظ على حرارة أجسادهم. بالمختصر الجنرال الأبيض لم يقرر بعد مساعدة الجنود الروس على التقدم.
الطريق في جنوب غربي البلاد وعلى مسافة عشرات الكيلومترات شمالاً وجنوباً وغرباً أحياناً، لا توحي بأن البلاد تعيش حالة حرب، ما عدا حديث غريغوري السائق وإيفان (32 عاماً). تميز كلمات في حديثهم بالأوكرانية مثل «جنود، بوتين (تليه شتيمة مقذعة) اتحاد سوفياتي، روسيا، أوكرانيا، زيلينسكي...»، أضف إلى هذه الكلمات المتفرقة سهلة التمييز التعرج الكبير الذي يتخذه السائق في خط سيره، بعد عدة كيلومترات شمالا يتجه غربا، ثم ينعطف جنوبا وهكذا كل بضع عشرات من الكليومترات.
كثافة السير تبدأ بالتزايد باتجاه واحد، معاكس تماماً لخط سير غريغوري وحافلته الصغيرة. تتجمع السيارات أمام محطات المحروقات مشكلة طوابير بانتظار الحصول على الطاقة لمتابعة سيرها. يزداد امتداد الطوابير كلما توغلت أكثر نحو الجنوب أو الوسط أو الشرق، أي باتجاه المناطق الملتهبة القريبة من بيلاروسيا أو مناطق انتشار القوات الروسية. وعلى جانبي الطرقات يمكن مشاهدة تحصينات من كتلة خرسانية مغطاة بأكياس رمل بيضاء، جاهزة ككمائن لأي قوات متقدمة على هذه الطرق.
إيفان، أو فانيا كما يدعوه غريغوري، كان ودع زوجته بعناق طويل أمام نقطة انطلاق القافلة التي تضم حافلتنا. منذ أيام قليلة فقط غادر كييف معها، حيث كانا يعيشان ويعملان، واصطحبا طفلتيهما واتجها إلى الجنوب الغربي. والآن يعود إيفان إلى العاصمة ليتطوع كمقاتل، لكن ليس مع الجيش النظامي بل مع أحد التنظيمات شبه العسكرية التي ينتمي إليها. لا يريد أن تغادر زوجته أوكرانيا: «لن نترك البلد للروس» يقول بإنجليزيته التي يجيدها محادثة فقط نظرا لضرورات العمل، ثم يضيف مبررا انخراطه في القتال، وهو المدني الذي لم يشارك بأي دورات تدريب: «إذا لم أقاتل أنا فمن سيقاتل؟».
قبل أسبوعين، كان إيفان يدير متجرين للحلويات والسلع الغذائية الفاخرة. لا يزال يعيش في أوهام حياته التي انقلبت رأساً على عقب خلال أيام قليلة... «ربما سأزور اسكوتلندا في الصيف المقبل، ولكن طقسها رديء وأنا أحب الشمس». يقول بينما لا يتوقف الثلج عن التساقط مجبرا غريغوري على التمهل ورفع صوته احتجاجا بشتائم متكررة.
- ميليشيات ببنادق الصيد
بعد ست ساعات من السير في اتجاهات متعرجة، تبدأ مظاهر الاستنفار. على مداخل العديد من الطرق الفرعية كتل إسمنتية تجبر العربات على التخفيف من سيرها والانعطاف، وأحيانا تغلق كل الطريق مع إشارة تحويل السير ومنع استخدام الطريق. قوافل للجيش الأوكراني تعبر ترافقها سيارات الشرطة لتؤمن مرورها. دوريات للشرطة في منتصف الطرق الرئيسية تمنع توسع طوابير النازحين من احتلال جانبي الطريق، محاولة إبقائهم في مسار واحد. قبل الوصول إلى فينيتسيا (وسط غربي أوكرانيا)، تبدأ حواجز الشرطة بطلب بطاقات الهوية أو جوازات السفر، إلا أن تطبيق هذا الإجراء شديد التهاون مقارنة بما سنواجهه على مدخل مدينة كييف. في المدينة يتجول الناس بشكل طبيعي. طوابير انتظار أمام المتاجر ومحال المأكولات. سيارات في كل الاتجاهات. أشخاص يسحبون النقد من أجهزة الصرافة الآلية. لا شيء يوحي بأن هذه المدينة في بلد يعيش الحرب، ولكن على بعد حوالي سبعة كيلومترات يقبع تحصين إسمنتي كبير مصمم بشكل يعيق أي تقدم محتمل للدبابات، وبين جدرانه يقف مراهقان إضافة إلى عجوز هو الوحيد الذي يحمل بندقية صيد بفوهتين، بينما الباقون مدنيون تطوق سواعدهم شارة إحدى الحركات شبه العسكرية.
سيتكرر المشهد نفسه في الطريق المتشابك باتجاه بيلا تسيركفا، المدينة التي تقع على مسافة ساعة ونصف ساعة من العاصمة كييف (٨٥ كيلومتراً). تحصينات بعضها خفيف وبعضها شديد التعقيد، يحميها ويستخدمها جمع من الشبان والعجائز الذين لا يملكون (في الظاهر) إلا بنادق صيد أو العصي الفسفورية التي يشيرون بها للسيارات للتوقف أو متابعة الطريق. لاحقا وبعد تجاوز بيلا تسيركفا سيختلف الأمر، هذه الميليشيات وحواجزها ستصبح مجهزة بالبنادق الحربية (مختلف متفرعات الكلاشينكوف) وبعض العناصر ستدقق أكثر في الهويات ووجوه العابرين.
يشعر إيفان بالإحراج حين تسأله عن هوية هذه المجموعات: «جنود من هنا من أوكرانيا» يقول، ثم يهز رأسه بالموافقة حين تقول إنهم ليسوا جنودا نظاميين وهم بأعمار لا تصلح للخدمة في الجيش، لا بد أنهم ميليشيا إذن. هزة رأس واحدة كفيلة بإفهامك أنه يريد تغيير الحديث.
الساعة السادسة مساء، يشتد توتر غريغوري السائق، لا يتوقف عن دفع هاتفه إلى فانيا ليطلب له مايا، أو غيرها من الأسماء، يتحدث معهم بصوت مرتفع، ويتوقف على حواجز الميليشيات من دون أن ينزل الهاتف عن أذنه، ولكنه يغلق الهاتف ليتوقف عند حواجز الشرطة. بعد ١٢ ساعة يصل غريغوري إلى ضاحية كييف من جهة ترمكي (جنوب العاصمة). يتنفس إيفان ويشير إلى الأضواء: «هذه كييف». يتوقف غريغوري أمام حاجز للشرطة، تدقيق شديد في الهويات وجوازات السفر. يفتح شرطي الباب ويسأل: «صحافي؟ اسكوتلندا؟» ثم تقترب الضابطة: «صحافي؟ اسكوتلندا؟» تنظر في جواز السفر وتحدق في الوجه قبل أن تقول: «كل شيء بخير، انتبه لنفسك». وتتركنا نعبر نحو العاصمة.
الثامنة مساء، الصقيع واللون الأبيض يلفان منطقة ترمكي، الثلج لا يزال ينهمر، الشوارع خالية تماما، يدوي صوت صافرات الإنذار في مكان ما في كييف، ومن على كتف المدينة يمكنك سماع هدير الطائرات الحربية. غريغوري يحتسي الفودكا بجرعات سريعة ويتحدث عن ابنه المتعلم والذي يتقن الإنجليزية، بينما هو لم يتعلم مشيراً بعلامة إلى رأسه أنه أحمق. إيفان يقول: غداً سنأخذ صورة سوياً، ثم أذهب لأقاتل الروس رغم أن أمي روسية.
- من الملجأ إلى الصراف الآلي
> الساعة التاسعة صباح يوم الأربعاء التاسع من مارس (آذار) تدوي صافرات منذرة من اقتراب الطيران الروسي من غرب كييف، يدخل الناس إلى محطة مترو مركز فيستاكوفي التجاري، تسأل امرأة عجوز الشرطي «هل انتهت الغارة؟» يجيبها «لقد بدأت للتو». تدخل إلى محطة المترو التي تحولت إلى ملجأ لمن تبقى من سكان الحي. بضعة عشرات فقط من الرجال والنساء يجلسن في المحطة، بينما يقف على مدخلها أربعة شرطيين للتفتيش والحماية، نصف ساعة ثم يخرج الجميع بعد إعلان ابتعاد الطائرات المعادية. تتوجه المرأة العجوز بظهرها المنحني وحقيبة يدها الكبيرة نحو الصراف الآلي، الشرطي الأشقر حديث السن يبتسم، ويتحدث بالإنجليزية: الصراف الآلي لا يزال يعمل في كييف، بينما في موسكو عادوا إلى العصر الحجري.
يتكرر مشهد استخدام المواطنين للصراف الآلي في أكثر من منطقة في كييف، على جادة ميكولي بازهانا كل المتاجر مغلقة، إلا أنك لن تعدم أن تجد شخصاً يسحب النقود من الصراف الآلي وخلفه امرأة تنتظر دورها، كذلك الأمر في شارع بريزنياكيفكا، حين يمر المشاة أمام الصراف الآلي قبل دخولهم للتسوق في أحد المتاجر المحلية.