قبل أسبوعين فقط، لم يكن كريستوفر وزوجته آلا يتوقّعان مغادرة بيتهما في سان فرنسيسكو، للتطوع في مركز استقبال للاجئين على بعد 9 آلاف كيلومتر.
«تابعنا أخبار انطلاق الحرب في أوكرانيا، والمأساة الإنسانية التي رافقتها. لم نفكّر طويلاً، حزمنا أمتعتنا وحجزنا تذكرتين إلى أوكرانيا على وجه السرعة». يقول كريستوفر الذي يدرّس اللغة الإسبانية في جامعة بكاليفورنيا: «زوجتي تنحدر من منطقة دونباس، لم يكن وارداً أن نبقى في كاليفورنيا في الوقت الذي نستطيع فيه تقديم يد العون».
كان كريستوفر يتحدّث لـ«الشرق الأوسط» من محطّة قطارات تعجّ بالمتطوعين واللاجئين ورجال الأمن والإطفاء، في مدينة جيشوف البولندية، القريبة من الحدود مع أوكرانيا. تقول زوجته آلا: «غالبية اللاجئين هنا سيدات وأطفال ومسنّون. غالبيتهم قطعوا مسافات طويلة للغاية مشياً، هرباً من الحرب».
أطلق الزوجان الأميركيان صفحة على «تويتر» لجمع التبرعات، وتنظيم وصول المساعدات إلى محطة جيشوف. «تلقينا عديداً من الاتصالات من زملاء وأصدقاء وأغراب، يسألون عن احتياجات اللاجئين»؛ قطعت آلا حديثها للاستجابة لنداء لاجئة أوكرانية، تحمل طفلة باكية. «إنها بحاجة لمقابلة طبيب مختص. اضطرت إلى إلغاء عملية جراحية كان يفترض إجراؤها في مستشفى بضواحي كييف؛ لكن الحرب حالت دون ذلك». تتابع آلا: «نوفّر رعاية طبية أولية في مركز الاستقبال، كما نقدم بعض الأدوية مجاناً؛ إلا أن حالة هذه الطفلة تستلزم مقابلة طبيب، وهي عملية قد تستغرق وقتاً أطول؛ إذ إن جميع مستنداتها باللغة الأوكرانية».
في الجانب الآخر من المحطة، كانت أولغا تحمل كوب قهوة ساخنة بيد، وهاتفها المحمول باليد الأخرى. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «أحاول التواصل مع زوجي الذي انضمّ إلى قوات الدفاع الوطني» في كييف. غادرت أولغا إربين قبل أيام، برفقة أختها تاتيانا. انهمرت باكية، مستحضرة القصف الروسي على بلدتها القريبة من العاصمة: «جارتي فقدت طفلتها في الحرب. لم تكن تتجاوز 10 سنوات». تبحث أولغا، معلمة السباحة، عن بيت يأويها وأختها لبضعة أيام. «مراكز الإيواء التي توفرها السلطات البولندية تجاوزت قدرتها الاستيعابية. ولا نعلم أين سنقضي الأيام والأسابيع المقبلة».
وعلى أحد المقاعد الخشبية، اجتمع عدد من المتطوعين بستراتهم الصفراء حول سيدة وقطتها. أصرّت يوريا -وهي شابة أوكرانية في الثلاثينات من عمرها- على اصطحاب قطّتها «لوليتا» معها، بعدما غادرت بلدتها شمالي كييف؛ «كيف لي أن أتركها تحت رحمة القصف والدمار؟». كانت يوريا تنتظر برفقة مجموعة من اللاجئين، وصول حافلة تنقلها إلى وارسو: «سأتجه إلى برلين من هناك. عرض عليَّ بعض الأصدقاء هناك إيوائي. أتمنى ألا تطول الحرب. أود العودة إلى بلادي».
أضفت قطة يوريا «لوليتا» بعض الفرح في قاعة استقبال اللاجئين، والتف حولها أطفال ومتطوعون. كانت ناتاليا، المعلمة في مدرسة ابتدائية بجيشوف بينهم. قررت ناتاليا التطوّع لمساعدة اللاجئين الأوكرانيين، يومين في الأسبوع. «منذ انطلاق الحرب، أخصص 4 ساعات الثلاثاء، و8 ساعات الأحد، لتقديم المساعدة». وتابعت متحدثة لـ«الشرق الأوسط»: «تشكّل الأمهات وأطفالهن غالبية اللاجئين الذين يصلون كل يوم. نقدّم لهم الطعام والمستلزمات الصحية، كما نوفّر غرفة خاصة للسيدات والرّضع عند الحاجة»، مضيفة: «بعد تلقيهم المساعدة اللازمة، يتم نقل اللاجئين في حافلات إلى مراكز إيواء بالعاصمة وارسو ومدن أخرى».
حوّلت بلدية جيشوف التي تبعد مائة كيلومتراً عن الحدود الأوكرانية، محطة القطار الرئيسية في المدينة إلى مركز استقبال، يتلقى فيه اللاجئون مساعدات أساسية قبل نقلهم إلى مراكز لجوء قادرة على إيوائهم.
غيّرت الحرب في أوكرانيا، وموجة اللجوء التي رافقتها، سياسة بولندا تجاه اللاجئين. فاضطر البلد الذي عُرف في السنوات الماضية بمواقفه المتشددة تجاه الهجرة واللجوء؛ خصوصاً تلك الوافدة من أفغانستان وسوريا والعراق، إلى إطلاق إحدى أكبر عمليات استقبال اللاجئين في تاريخه.
حلّت مراكز الاستقبال والقوافل الإنسانية محلّ السياجات العازلة، ورحّب السياسيون باللاجئين بخطابات مفعمة بالتعاطف والإنسانية، بعيداً عن المواقف المتشددة حيال طالبي اللجوء الشرق أوسطيين عند الحدود البيلاروسية.
وتوافد أكثر من مليون ومائتي ألف لاجئ على الحدود الأوكرانية- البولندية، منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير (شباط) الماضي، فيما اعتبرتها الأمم المتحدة أسرع وأكبر حركة لجوء في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
ومنذ يناير (كانون الثاني)، بدأت حكومة أندريه دودا تضع خطّة لاستقبال اللاجئين، وكان سيناريو الحرب في أوكرانيا مستبعَداً رغم التحذيرات الأميركية. وأقامت وزارة الداخلية البولندية هيئات استقبال في المعابر الحدودية الثمانية مع أوكرانيا، وفق ما أكّدت متحدثة باسمها لـ«الشرق الأوسط»، لافتة إلى تعبئة 4 جهات لتنظيم حركة اللاجئين وتأمينهم، هي: حرس الحدود، والسلطات المحلية، والشرطة، والإطفاء. وقالت: «منذ أن بدأت الحرب في أوكرانيا، عزّز حرس الحدود عدد موظفي المعابر الحدودية، لتأمين حركة المشاة والسيارات في جميع المعابر».
ويقوم حرس الحدود بفحص اللاجئين، وإجراء عمليات التفتيش والتحقق من هويات الوافدين إلى بولندا، وتزويدهم بالمعلومات الأساسية، عبر توزيع كتيّب خاص باللاجئين بأربع لغات، هي الأوكرانية والبولندية والروسية والإنجليزية.
بدورها، تقوم السلطات المحلية في جميع أنحاء بولندا بتنظيم نقاط استقبال للاجئين الفارين من الحرب؛ خصوصاً منهم أولئك الذين ليست لديهم أماكن إقامة في البلاد. فيتم تزويدهم بالغذاء والرعاية الطبية الأساسية ومكان للراحة، قبل توجيههم إلى مكان إقامة مؤقت.
أما رجال الإطفاء، فيتكفَّلون بنقل اللاجئين من مراكز الاستقبال إلى أماكن الإقامة المؤقتة، كما يدعمون عمليات الاستقبال عبر توفير الخيام والسخانات والأسرَّة والكراسي وغيرها. ولا يقتصر عمل رجال الإطفاء على دعم الوافدين عبر الحدود؛ إذ ساهموا في دعم الجانب الأوكراني بأكثر من مائة محرك إطفاء، وغيرها من المعدات الأساسية، كما يواصلون تنسيق التبرعات الدولية.
قوات الأمن المحلية، من جهتها، حاضرة في مختلف مراحل استقبال ونقل اللاجئين، مع انتشار رجال الشرطة في نقاط الاستقبال ومحطات السكك الحديدية وأماكن الإقامة المؤقتة. كما تسهر شرطة المرور على تنظيم حركة القافلات الإنسانية التي تحمل المساعدات إلى الحدود، بينما تم إنشاء خط خاص بالبحث عن المفقودين، ومحاربة الجرائم كالاتجار بالبشر.