الإصلاح الديني.. واللحظة «الداعشية»

يحظى مصطلحا «التجديد» و«الإصلاح» الدينيين بخلط واضح في المفاهيم

محمد عبده  -  جمال الدين الأفغاني
محمد عبده - جمال الدين الأفغاني
TT

الإصلاح الديني.. واللحظة «الداعشية»

محمد عبده  -  جمال الدين الأفغاني
محمد عبده - جمال الدين الأفغاني

تتناسب دعوات الإصلاح الديني أو صحواته مع صحوات التطرف، وقد صعدت في السنتين الأخيرتين موجته الأخيرة، مع صحوة التطرف الداعشي، فتكررت دعوات رسمية وغير رسمية للإصلاح وتجديد الخطاب الديني، من أبرزها ما أطلقه العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - أثناء لقائه بالأمراء والعلماء في الثاني من أغسطس (آب) عام 2014 وقد طالب العلماء بأن ينفضوا عن أنفسهم الكسل، وكرّرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الأول من يناير (كانون الثاني) هذا العام 2015 داعيا لتجديد الخطاب الديني، ومشددا على ذلك في لقاءاته وخطبه المتوالية!

لا شك أن الصحوة الراهنة للتطرّف صحوة غير مسبوقة، تستدعى جهودا إصلاحية وفكرية غير مسبوقة كذلك. فقد نجح التطرف الإرهابي في بؤر التوحش، وفراغات ما بعد «الانتفاضات»، وضعف وهشاشة الأنظمة الفاشلة، واللعب على التناقضات الإقليمية والدولية، في أن ينشئ هذا التطرّف ملاذات آمنة تدفع من طموحه للدولة التي هي «دار الإسلام» عنده، وما سواها «دار كفر»، حتى مكة المكرمة والمدينة المنورة «دار كفر» كما نشرت «مؤسسة الغرباء» الذراع الإعلامية لـ«داعش» عام 2013 في رسالة لأحد منسوبيها المدعو «أبو أسامة الغريب» السجين حاليًا.
لقد نجحت تنظيمات التطرّف ودعواته، في استغلال الثورة المعلوماتية والسيولة ما بعد الحداثة، وعودة المقدس عالميًا، في نشر أفكارها وتجنيد عناصرها بشكل كبير، فاستغلت ابتداءً تقليدية رجال ومؤسسات الوسطية، كما أنها تحسن استغلال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتلعب دائمًا على أوتار الطائفية، والأزمات القيمية، وأزمات الهوية، وتغرق في تراث تأويلي تقرأه اختزالا واجتزاء يركز على أحكام الديار، دون تاريخية، وعلى الولاء والبراء، كما تستند في ممارساتها الوحشية على مفهوم القصاص بالخصوص. فطالما يقتل مسلمون - حسب «داعش» - في مكان ما، قديما أو حديثا، يجوز لتنظيمها الحرق قصاصا والتمثيل قصاصا والذبح قصاصا، وهذا مع أن القصاص لا يكون إلا فيما أحل الله، فلا قصاص في زنا ولا قصاص في تمثيل، ولا قصاص في حرق إن وقع من أعداء المسلمين حرق! ولكنها تستغل الجهل بهذه القواعد الحاكمة وعدم انتشارها فتروّج باطلها وكأنه الحق.
لقد أعاد تنظيم داعش في مارس (آذار) الماضي 2015 إصدار كتاب أحد منسوبيه «أبي الحسن الأزدي» وعنوانه «القسطاس العدل في جواز قتل نساء وأطفال الكفار معاقبة بالمثل» رغم أنه كتبه في مرحلته «القاعدية» التي يكفرها «داعش»، ويرفضها اليوم المؤلف في عدد من رسائله الأخرى. وفيه يستشهد الأزدي بنصوص مختزلة ومقتطعة عن سياقه ونصه للإمام ابن تيمية، ومتجاهلاً ما قعده ابن تيمية نفسه في قاعدة حاكمة من حرمة قتل النساء والأطفال، حيث يقول ردا على أمثال هذا الداعشي: «أوجبت الشريعة قتل الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال، مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة، فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح، من قتله أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة» (ابن تيمية، مجموع الفتاوى 28 / 354) و(السياسة الشرعية ص 106) وهو ما نفصله في موضع آخر.
وأسفا أن بعض المنسوبين للإصلاح الديني، خاصة من دعاة الفضائيات وغيرهم، يتبع «داعش» و«القاعدة» في هذا التأصيل، فبدلا من أن يرد زيفها عن أصيلها، يسارع فيتهم البخاري حيث استندوا إليه، أو يسارع فيتهم ابن تيمية ويراها أصل الإرهاب، دون أن يحقق صحة تأصيلهم من باطله! وهو في هذا قد يبغي الإثارة دون العلم والشهرة دون تحقيق الفهم! وبدلا من أن ينفي عن الدين هذا التأويل الداعشي المنحرف الذي يشبه تأويل الخوارج في الحاكمية، وادعائهم الصحة والجهاد، فهم لم يسموا أنفسهم بالخوارج ولكن سماهم غيرهم، بل كانوا يسمون أنفسهم «جماعة المسلمين»، وهي نفس تسمية «جماعة التكفير والهجرة» لنفسها، ويسمون أنفسهم «الشراة» أي من يبيعون أنفسهم لله، وهي الصورة التي ينشرها «داعش» عن نفسه أيضا. ولكن ما زالت استراتيجية التجديد والإصلاح الديني تبحث عن نظم ونظام مؤثر وفاعل يتجاوز نخبويتها ويغادر بها جدران الأفراد والمؤسسات الداعية لها، وتتوزّع جهود كثير من المنسوبين لها حتى تكاد تفقد الطريق والهدف، وتفتقد استراتيجيات واضحة في التمكين لمفاهيمه، في اللحظة الداعشية الراهنة، والتشبيك فيما بينها، عبر التعاون والتكامل المشترك لتحقيق غايته وتجاوز عزلتها.
نحتاج هوية معرفية تحدد ما هو إصلاح تجديد الخطاب الديني؟ حتى لا ينجرف البعض باسمه نحو عدمية التراث وذبحه أو حرقه، وصياغة استراتيجيات مؤثرة تنظم جهوده وتحقق أهدافه التي تتنوع حسب تحديها الراهن في التطرف الداعشي، وإرهابه المنظم والناشط تجنيدا ودعوة وادعاء.

* أولا: نحو ضبط المفاهيم
رغم تبادل المفردتين «التجديد والإصلاح» الموقع وتطابق مفهومهما في أغلب الأحيان، إلا أنه يمكن رصد عدد من الفروق بينهما كما يلي:
1 - يركز مفهوم التجديد على خدمة الدين وتجدّده وتجديد علومه وآثاره، لذا أطلق على الكثير من المحدثين والفقهاء والدعاة الحركيين، كما وصفت كل جماعة أميرها أنه «المجدّد» فعلها «الإخوان المسلمون» مع حسن البنا، كما فعلتها «الجماعة الإسلامية» في باكستان مع المودودي، وفعلها فارس آل شويل الزهراني المحبوس حاليًا، مع بن لادن في كتيبه «مجدّد الزمان وقاهر الأميركان» ويفسّر التجديد هنا تفسيرا آيديولوجيا يتماهى مع تفسير هذه الجماعات التقليدية، التي قد تعتبر المجدّد جماعة وليس فقط فردا.
2 - من جانب آخر يهتم الإصلاح الإسلامي بعلاقة الدين بالعصر، وقد بدأت إرهاصاته الأولى مع صدمة الحداثة والعلاقة بالغرب، فهو يهتم بشكل رئيس بالواقع، وينحو نقديا وجديدا في الفهم والتفكير الديني بدرجة أكبر.
3 - سبق تعبير التجديد تعبير الإصلاح، في تاريخ الأفكار الإسلامية، فقد استخدم في الحديث النبوي في الحديث المشهور عن «بعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» والذي ورد في سنن أبي داود عن سليمان بن داود المهري في «كتاب الملاحم»، وقد صاغ السيوطي (توفي سنة 911 هجرية) أرجوزة بعنوان «تحفة المهتدين بأخبار المجدّدين» حتى عصره في القرن التاسع الهجري الذي تمنى أن يكون هو مجدده فيها، وتعبير التجديد هو الأكثر استخداما لدى المؤسسات والجماعات الدينية، لهويته وأصالته تلك.
4 - ظهر مفهوم الإصلاح الإسلامي، متأثرا أو متماهيا مع حركة الإصلاح الديني في أوروبا، بشكل رئيس، وكان أول ظهوره مع ما يعرف بحركة «الإصلاح الإسلامي» أو «مدرسة النهضة الإسلامية» التي بدأت مع جمال الدين الأفغاني (1839 - 1897) بعد قدومه مصر في سبعينات القرن التاسع عشر، ثم محمد عبده (1849 - 1905 ميلادية) وعبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902) وتلامذتهم الذين توزّعوا على اتجاهات الإصلاح الديني والإصلاح الفكري معًا، من رشيد رضا في أقصى اليمين إلى أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في أقصى اليسار.
5 - يختلف تجديد الخطاب الديني أو إصلاحه عن نقد الفكر الديني أو رفض المقدس، ففي هاتين الأخيرتين انفصال عن مرجعيته وقطع منفصل مع الخطاب ومرجعيته في آن.
ثانيا: موجات الإصلاح وإعاقات التطرف
كانت موجة الإصلاح الديني الأولى في القرن التاسع عشر، ثورة في وجه التخلف وطلبا للتقدم، كما مثلتها حركة الأفغاني وعبده وتلامذتهما، وقد أتت أكلها في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت حتى أعاقتها دعوات وتنظيمات أصابت المسلمين، مع سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 تدعو لعودتها فيما يشبه إمامية سنّية تماهت مع الإمامية الشيعية في انتظار «الإمام الغائب» أو «المهدي المنتظر»، مما قطع مسارها وتمددها، وفتحت واقعنا على أسئلة أبجدية دائرية واتهامية لا تنتهي، كما فتحته الانتفاضات العربية الأخيرة، حول الهوية والمرجعية والخلافة والإمامة وما شابه..!
ثم أتت موجات أخرى مع جماعات التكفير والجهاد منذ ستينات القرن الماضي، وحتى العقد الأخير من القرن الماضي، ونشطت مؤسساتيًا مع أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ثم صعدت مجددا مع «داعش» و«دولته» في العراق وسوريا التي أعلنها «خلافة» في يونيو (حزيران) الماضي، ورغم أن «داعش» غدا تنظيمًا معولمًا تنتشر له فروع في بلدان كمصر والجزائر وليبيا وغيرها، فقد نشطت بجواره تنظيمات متطرفة أخرى في عدد من الأقطار.

* استراتيجيات مطلوبة
يبدو هدف موجة «الإصلاح» أو «تجديد الخطاب الديني» الحالية هي مواجهة التطرّف بدرجاته المختلفة، تشدّدا وإرهابا وعنفا واستحلالا، هذه الدرجات المختلفة والمتراوحة بين العنف الرمزي والعملي، وهذا يستدعي من العمل المؤسسي فعالية وضوابط أكثر مما هو كائن، يمكن أن نحدد أبرز ملامحها فيما يلي:
1 - تحديد الهوية المعرفية للوسطية
فما استقر أهل السنة والجماعة وانتشرت دعوتهم، رغم أنه لم يكن مذهبا حاكما دائما، إلا لتركيزهم على الأمة والدعوة دون الإمامة بالتعبير القديم، أو الحاكمية بالتعبير الحديث، فهي مسائل اجتهادية تقديريه كما يقول الجويني وابن تيمية.
كذلك أجمع أهل السنة والجماعة منذ وقت مبكر، على رفض الخروج على الحكام، وفي ذلك يقول ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية»: إن «الخروج على أئمة الجور كان مذهبًا قديمًا لأهل السنة ثم استقر الإجماع على المنع منه». وقال أيضا فيه «ذَا كَانَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقِتَالَهُمْ بِالسَّيْفِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ظُلْمٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لأن الْفَسَادَ فِي الْقِتَالِ وَالْفِتْنَةِ أعظم مِنَ الْفَسَادِ الْحَاصِلِ بِظُلْمِهِمْ بدون قِتَال»، كما أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون ولكن يخطئون كما كان يقول أبو حنيفة في الفقه الأكبر.
2 - استراتيجية نقدية لخطاب التطرّف
لا بد أن تتحوّل المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، إلى النقد الشجاع والملتحم لغايات وأهداف وأسانيد هذه الجماعات في الخلافة والإمامة وغيرها من المسائل التاريخية التي اختلطت باعتقاد المسلمين، رغم أنها ظهرت بعد انقطاع الوحي، وما يرتبط بها من مسائل الخروج وأحكام الديار والولاء والبراء، وتنزيل هذه الأحكام التاريخية على الواقع المعاصر تأويلا، وكذلك التحاما بخطابها وأدبياتها التي تنشرها غالبا على الشبكة العنكبوتية، وهو ما لا يجهد نفسه فيه إلا القليلون.
3 - التفريق بين تجديد الخطاب الديني ونقد الفكر الديني
يواجه بعض المنسوبين للإصلاح، أو تجديد الخطاب الديني التطرف بتطرف مضاد، وانحراف المتطرفين بتطرف مضاد، وخصوصا في الفضائيات، فيخلطون بين الدين والتدين وتاريخ العلم الديني (علوم الرواية والحديث) وعلوم استنباط الأحكام (علوم الفقه وأصوله ومقاصده) ويجتزئون النصوص كما يفعل أنصار التطرف، فتنزلق بهم أطروحاتهم لما قد يستنفر ويستفز مشاعر الجماهير المسلمة والمتدينة بطبيعتها، وقد تستغله التنظيمات المتطرّفة في اتهام الحكومات والمؤسسات بحرب الدين خلطا بين الخاص والعام معهودا منها.
4 - السياسات الثقافية والشبابية
عبر تفعيل طاقات الشباب المتديّن، وترشيد وعيهم، واستهدافهم ببرامج اجتماعية وتثقيفية مستمرة تملأ فراغات وجداناتهم الدينية بهذا الفهم الوسطي، الذي يسعى التطرف دائما لملء فراغاته.
*كاتب وأكاديمي مصري



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».