باحث ليبي يقدم الترجمة الكاملة لنص هيرودوت الأصلي في 9 مجلدات

سجل فيها رحلاته لعدد من أهم دول العالم القديم

باحث ليبي يقدم الترجمة الكاملة لنص هيرودوت الأصلي في 9 مجلدات
TT

باحث ليبي يقدم الترجمة الكاملة لنص هيرودوت الأصلي في 9 مجلدات

باحث ليبي يقدم الترجمة الكاملة لنص هيرودوت الأصلي في 9 مجلدات

ضمن منشورات الهيئة العامة للثقافة الليبية صدر حديثا مجلد ضخم بعنوان «من مصادر التاريخ القديم... تاريخ هيرودوتوس» تضمن ترجمة للكتب التسعة من أعمال المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت، والتي تعتبر أحد أعمدة تراث الحضارة الإغريقية. ونقل المجلد عن لغته الأصلية الباحث الليبي الدكتور محمد المبروك الدويب أستاذ اللغات القديمة بقسم التاريخ والآثـار، بكلية الآداب، جامعة قاريونس، وهي أول ترجمة عربية كاملة لنص هيرودوت.
يقول الدكتور الدويب في تقديمه لهذا المجلد: «لا يعرف أحد بالضبط ما إذا كان هيرودوتوس كتب عمله دفعة واحدة أم مجزءاً، وهل قام بذلك اعتماداً على مخطط مُعد مسبقا، أم صاغه مباشرة أثناء فترات مختلفة من حياته في فصول متنوعة خصص بعضها لتاريخ بعض الشعوب، وعدد من شخصياتها المهمة».
ويلفت الدويب إلى أن هيرودوت نفسه لم يشر إلى أنه كتب «تاريخه» في مكان واحد أو أماكن متعددة، لكن أغلب الباحثين يرجحون أن العمل كُتِب مُجزءا، وهناك من يقولون إن المؤرخ الإغريقي لم يكمله، استنادا إلى أنه قطع على نفسه بعض الوعود، ولم ينجزها، وقد قسم العمل إلى تسعة كتب منح كل واحد منها اسم ربة من ربات الفنون التسع.
وأشار الباحث الليبي إلى أن هيرودوتوس قدم تاريخه في الفقرة الافتتاحية التي استهل بها عمله بقوله: «هذا هو تقديم البحث التاريخي لهيرودوتوس الهاليكارناسوسي، حتى لا تُنسى بمرور الزمن منـجزات البشر، وحتى لا تنتهي شهرة الأعمال والأعـجوبات العظيمة التي حقـقها الإغـريق والـبربر الأجانب، والسبب الذي حارب بعضهم بعضاً من أجله».
ويتحدث هيرودوت في كتابه الأول عن القوة الفارسية، وبداية العداء الفارسي ضد بلاد الإغريق، ويتعرض لفترة حكم كيروس، ومعارك الفرس ضد بابل، التي يسميها آسيرية «آشورية - آشور»، وينتقل في الكتاب الثاني إلى فترة حكم كامفيسيس «قمبيز» الذي كان يرى الأيونيين عبيداً ورثهم عن أبيه. وفي هذا الكتاب يقع الجزء المسمى «الكتاب» المصري، الذي يصف فيه البلاد وتاريخها وطبيعتها وسكانها وعاداتهم، ثم يورد في الكتاب الثالث الحملة الفارسية على مصر واحتلالها من قبل «كامفيسيس»، المعروف بـ«قمبيز»، بعد ذلك يتحدث عن حملة الأسبرطيين ضد ساموس، وفترة حكم داريوس، ثم يقدم وصفاً موجزاً للهند وأهلها.
وفي الكتاب الرابع يصف هيرودوت حرب داريوس ضد السكيثيين، ويقدم في الجزء المسمى «الكتاب» السكيثي، وصفا للبلاد والسكان وعاداتهم، ويخصص الربع الأخير منه في الفقرات من «14 - 205» للحديث عن ليبيا، ويبدأ روايته بتاريخ مدينة كيريني «قوريني» وملوكها، ثم يصف المنطقة التي كانت تسمى قديماً ليبيا، ويذكر القبائل التي كانت تسكنها، وعاداتهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية، وينهي ذلك بالحملة الفارسية على ليبيا وأسبابها.
وينتقل هيرودوت في الكتاب الخامس إلى الحديث عن إخضاع تراكي «تراقيا» إلى الثورة الأيونية وانتصار الإغريق في معركة الماراثون، ويصف هزيمة الفرس في الكتاب السادس، ثم يخصص الكتاب السابع لبقية تاريخ الفرس وفترة حكم كسيركسيس وحملته على بلاد الإغريق، وينتهي العمل بانسحاب الفرس المهزومين.
يقول الدويب: «رغم الانتقادات التي وُجِهت إلى هيرودوتوس وعمله، فقد ظل مصدراً أساسياً لتاريخ كثير من الشعوب والبلدان، بل إنه أحيانا يُعد المصدر الأدبي الوحيد المعاصر لكثير من الأحداث التاريخية، مما يُكسبه أهمية كبرى، تدفع الباحثين للعودة إليه والاعتماد على المعلومات التي وردت فيه»، وقد اتجهت لترجمته، حيث إنه يتسم بهذه السمات، وإن المكتبة العربية تخلو من ترجمة كاملة ومباشرة عن النص الإغريقي لأي من الكتب التسعة.
وذكر الدويب أن تاريخ هيرودوت يكتسب أهميته بفضل ما تمتع به صاحبه من ذكاء حاد وفطنة عالية وحرص في الحصول على المعلومات من مصادرها الأساسية، وذلك بفضل ما قام به من رحلات سمحت له بالتَنقل والتجوال في أغلب مناطق العالم المعروف خلال عصره، حيث قام بزيارات قصيرة وطويلة التقى خلالها بمشاهير عصره، وحدثهم واستمع إليهم، وتعرف أثناء رحلاته على كثير من الأخبار، وفحص كثيراً من المعلومات، وكون بذلك وجهة نظر خاصة به، برزت فيما جاء في عرضه لبعض الأحداث، وقد نسب بعض المعلومات التي لم يرها أو لم يصدقها إلى أصحابها مما جعل هذا العمل محل اهتمام من الباحثين.
ويؤكد الباحث والمترجم الليبي أن ترجمته لهذا الكتاب تأتي نتيجة لما لعمل هيرودوت من أهمية في تاريخ العالم القديم بشكل عام والبلاد العربية على وجه الخصوص، وذكر أنه لم يسبقه أحد إلى ترجمة الكتاب الرابع الذي نشرته جامعة قاريونس ضمن سلسلة «من مصادر التاريخ القديم» عام 2003م، ثم الكتاب الثاني عام 2006م، وأخيراً الكتاب الثالث 2019م، والذي جاء ضمن السلسلة نفسها، فكل ما قام به المترجمون العرب ينحصر في نقل بعض الفقرات المحدودة المتعلقة بأقاليم معينة، وقد قاموا بذلك في الغالب عن اللغات الأوروبية الحديثة، دون اللجوء إلى النص الأصلي المكتوب باللغة اليونانية القديمة، وهو ما جعل هذه الترجمات بعيدة عن النص الأصلي في كثير من الأحيان بسبب التغيير الذي حدث أكثر من مرة أثناء الترجمة من لغة إلى أخرى.
ويضيف الدويب أن محاولة ترجمة أي عمل لا سيما من المصادر القديمة تُـعد مهمة شاقة جدا، ولا بد أن تخرج في النهاية بشيء من النقص أو القصور، لأنها تعتمد على مجموعة مقومات ومعطيات في مقدمتها فهم المترجم للنص الأصلي ودرايته بثقافة العصر الذي كُتِب فيه وفهمه للموضوع الذي يتناوله، وما يتمتع به المترجم من معرفة بالقواعد النحوية والأساليب البلاغية في اللغة المصدر (التي يترجم منها) واللغة الهدف (التي يترجم إليها) وهي مواصفات قل أن تُتاح لإنسان واحد.
من أجل هذا، عزم الدويب على نقل تاريخ هيرودوت كاملاً إلى العربية ليكمل حلقات السلسلة التي بدأها بالكتاب الرابع ثم الثاني والثالث مساهمة منه في إثراء المكتبة التاريخية العربية بهذه المصادر المهمة وتسهيلاً لمهمة الباحثين الذين يحتاجون للعودة إلى مصادر التاريخ القديم الأصلية. وقد كانت مهمة ترجمته، حسب قوله، لهذا الأجزاء شبيهة بسابقاتها في الصعوبة، وقد بذل فيها جهداً مضنياً، وحاول قدر الإمكان تقديمها في ثوب يشبه ثوبها الأصلي في الجمال والروعة، وربما كان ذلك أمراً عسيراً في بعض الأحيان لأسباب متعددة، منها أن العمل مليء بالجمل والتراكيب الغامضة التي تحتمل أكثر من تفسير، فضلاً عن الأسماء والمصطلحات التي لم تعد مستعملة، وقد دفعه ذلك إلى تغيير أسلوب بآخر أو استخدام زمن مكان آخر أو اللجوء إلى صيغة في التعبير بديلا عن أخرى، وغير ذلك من حالات التعديل النحوية بهدف الخروج بنص عربي سليم قريب من الأصل قدر الإمكان.
من هنا كانت حاجة المترجم ماسة للعودة لكتب قواعد اللغة الإغريقية ومعاجم اللغات القديمة (الإغريقية واللاتينية) والإنجليزية والإيطالية واليونانية الحديثة والعربية، كما استعان ببعض الموسوعات والمراجع المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا والرحلات والفلسفة والآداب والعلوم التطبيقية المتنوعة بحثاً عن تفسير صحيح لمصطلح أو ظاهرة أو للتعرف على اسم مكان أو أداة أو حيوان، كما لجأ إلى بعض المختصين في فروع المعرفة المختلفة لاستيضاح غموض حادثة ما أو للتعرف على أمرٍ مجهول، وذلك حتى يفهم النص محل الترجمة، ويكشف حقيقته للقارئ، وقد قام الدويب من أجل توضيح بعض الأشياء الغامضة في النصوص الأصلية، بوضع هوامش وتعليقات موجزة كلما وجد ذلك ضرورياً، كما أحال قراءه إلى بعض المراجع المتخصصة حال رغبتهم في الاستزادة، وقد بذل في ذلك جهداً كبيراً بسبب الاختلاف والتباين في المواضيع التي يتناولها النص الأصلي والهوامش الملحقة به.
واعتمد الدويب في ترجمة تاريخ هيرودوت على النص الأصلي المنشور باللغة الإغريقية ضمن منشورات جامعة أكسفورد، لما يتمتع به من دقة في التحقيق ووفرة في المخطوطات، الأمر الذي يجعل ترجمته أقرب من غيرها إلى النص الأصلي الذي كتبه هيرودوتوس، وقد احتفظ بصيغ أسماء الأعلام والأماكن والشعوب والقبائل وغيرها، ووضعها على حالها وصورتها في اللغة الإغريقية، ورسمها بالعربية وفقاً للنطق الذي رآه صحيحا، كما أورد النطق الشائع لها في العربية بين قوسين هلالين، وأوضح الغموض الوارد في النص بتفسير منه، وضعه بين قوسين مربعين، أمـا ما ورد في النص الأصلي بين قوسين أو في جملة اعتراضية فقد جعله بين مثلثين، وتسهيلا على من يريد العودة إلى معاجم الأماكن أو الموسوعات المتوفرة في اللغات الأوروبية رسم الدكتور الدويب الأسماء بالحروف الإغريقية واللاتينية، كما وضع في نهاية العمل كشـافاً للأعلام والأماكن الأكثر ذكراً في الترجمة لمساعدة الباحثين في الوصول بسرعة إلى الفقرات التي يبحثون عنها.
يقول الديب لـ«الشرق الأوسط» عن ظروف ترجمة الكتاب ونشره: «بدأت مهمة البحث عن ناشر يتكفل بطباعة العمل، وقد تمنيتُ أن تستمر هذه السلسلة ضمن منشورات جامعتي التي أحببتها (قاريونس) وقضيتُ فيها أربعة عقود بين دراسة وتدريس، لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، إذ إن حركة النشر فيها لم تعد مختلفة عن غيرها من الجامعات الليبية، ولذلك اضطررتُ أن أعلن على حسابي الشخصي في (الفيسبوك) أنني أبحث عن أي جامعة ليبية أو عربية أو مؤسسة حكومية تنشر العمل وقد وقع اختياري على الهيئة العامة للثقافة الليبية لقدرتها على إخراج الترجمة بما يليق بأهميتها والجهد المبذول فيها.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي